خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
١١١
-يوسف

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ } أي: في خبر يوسف وإخوته، "عِبْرَةٌ": موعظة "لأولِي الألبَابِ".
قرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث، والكسائيُّ في رواية الأنطاكي: "قِصَصِهِمْ" بكسر القاف هو جمع قصَّة، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عود الضمر في "قَصصِهمْ" في القراءة المشهورة على الرسل وحدهم.
وحكى غيره: أنه يجوز أن يعود على الرسل، وعلى يوسف وإخوته جميعاً كما تقدم.
قال أبو حيان: "ولا ينصره ـ يعني هذه القراءة ـ؛ إذ قصص يوسف، وأبيه، إخوته تشتمل على قصص كثيرة، وأنباء مختلفة".
فصل
الاعتبار: عبارة عن العبور من الطريق المعلومة إلى الطريق المجهولة، والمراد منه: التأمُّل والتَّفكر، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور:
أحدها: أنَّ الذي قدر على إعزاز يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ، بعد إلقائه في الجبِّ وإعلائه بعد سجنه، وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون أنه عبد لهم وجمعه مع أبيه وإخوته على ما أحبَّ بعد المدة الطويلة؛ لقادرٌ على إعزاز محمد صلى عليه وسلم، وإعلاء كلمته.
وثانيها: أن الإخبار عنه إخبارٌ عن الغيب، وفكان معجزة دالَّة على صدق محمد صلوات الله وسلامه عليه ـ.
وثالثها: أنه قال في أوَّل السورة:
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف:3] ثم قال هنا: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } وذلك تنبيه على أن حسن هذه القصَّة، إنَّما هو لأجل حصول العبرة منها، ومعرفة الحكمة والقدرة.
فإن قيل: لم قال: { عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } مع أن قوم محمد صلى الله عليه وسلم كانوا ذوي عقول وأحلام، وقد كان الكثير منهم لم يعتبرْ؟.
فالجواب: أنَّ جميعهم كانوا متمكِّنين من الاعتبار، والمراد من وصف هذه القصَّة بكونها عبرة كونها بحيث يعتبرها العاقل.
قوله { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ } في "كَانَ" ضمير عائدٌ على القرآن، أي: ما كان القرآن المتضمن لهذه القصَّة الغريبة حديثاً مختلقاً.
وقيل: بل هو عائدٌ على القصص، أي: ما كان القصص المذكور في قوله: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ }.
وقال الزمخشري: "فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في: { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ } فيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن أي: ما كان القرآن حديثاً".
قال شهاب الدين: "لأنه لو عاد على "قِصَصِهم" بكسر القاف؛ لوجب أن يكون "كَانَتْ" بالتاء" لإسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤنث، وإن كان مجازيًّا.
قوله: { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ } العامة عل نصب "تصديقَ" والثلاثة بعده، على أنَّها منسوقة على خبر "كان" أي: ولكن كان تصديق.
وقرأ حمران بن أعين، وعيسى الكوفي، وعيسى القفي: برفع "تَصْديقَ" وما بعده، على أنَّها أخبار لمبتدأ مضمر، أي: ولكن هو تصديق، أي: الحديث ذو تصديق، وقد سمع من العرب مثل هذا بالنصب والرفع؛ قال ذو الرمَّة: [الطويل]

3158ـ ومَا كَانَ مالِي من ثُراثٍ وَرِثتهُ ولا دِيةً كَانتْ ولا كَسْبَ مَأثَم
ولكِنْ عَطاءُ اللهِ من كُلِّ رحْلَةٍ إلى كُلِّ مَحْجُوبِ السُّرادقِ خِضْرمِ

وقال لوطُ بن عبيد الله: [الطويل]

3159ـ وإنِّي بَحمْدِ الله ـ لا مَالَ مُسلمٍ أخَذْتُ ولا مُعطِي اليَمينِ مُخالفِ
ولكنْ عَطاء اللهِ منْ كُلِّ فَاجرٍ قَصِيِّ المحَلِّ مُعْورٍ للمَقَارِفِ

يروى: "عَطاءَ الله" في البيتين منصوباً على: "ولكن كان عطاء الله" ومرفوعاً على: "ولكن هُو عطاءُ الله".
قال الفراء والزجاج: ونصب "تَصْديقَ" على تقدير: ولكن كان تصديق الذي بين يديه، كقوله ـ تعالى ـ:
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ } [الأحزاب:40] ثم قالا: ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه؛ فكأنَّهما لم يطَّلعا على أنهما قراءة.
فصل
معنى الآية: أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يصحُّ منه أن يفتري هذه القصَّة، بحيث تكون مطابقة لها من غير تفاوت.
وقيل: إن القرآن ليس بكذب في نفسه؛ لأنَّه لا يصحُّ أن يفترى، ثم أكَّد كونه غير مفترى بقوله: { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } وهو إشارة إلى أنَّ هذه القصَّة وردت موافقة لما في التوراة، وسائر الكتب الإلهيَّة، ثم وصفه بأن فيه: { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ }.
قيل: كل شيء في واقعة يوسف مع أبيه، وإخوته.
وقيل: يعود على كلِّ القرآن؛ كقوله ـ تعالى ـ:
{ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [الأنعام:38].
والأولى: أن يجعل هذا الوصف وصفاً لكلِّ القرآن، ويكون المراد ما تضمَّنه من الحلال، والحرام، وسائر ما يتَّصل بالدِّين.
قال الواحدي: وعلى هذين التفسيرين جميعاً؛ فهو من العام الذي أريد به الخاصُّ؛ كقوله ـ تعالى ـ:
{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف:156] يريد: وسعت كل شيء أن يدخل فيها، { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [النمل:23].
ثمَّ وصفه بكونه هدى في الدنيا، وسبباً لحصول الرحمة في القيامة، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } خصَّهم الله بالذِّكر؛ لأنَّهم الذين انتفعوا به، كقوله ـ تعالى ـ
{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة:2].
وروى أبيُّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ، قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف كرَّم وبجَّل وعظَّم: عَلِّموا أرقَّاءكُمْ سُورَةَ يُوسُفَ ـ عليه الصلاة والسلام ـ، فإنَّهُ أيُّما مسلم تلاها، وعلَّمَها أهْلهُ ومَا مَلكَتْ يَمِينهُ، هَوَّنَ اللهُ عَليْهِ سَكرَاتِ المَوْتِ، وأعْطَاهُ القُوَّة أن لا يَحْسُدَ مُسْلِمَا" .