خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ
١٦
قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ
١٧
وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ
١٨
-يوسف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } الآية في "عِشَاءً" وجهان:
أصحهما:ـ وهو الذي لا ينبغي أن [يقال] غيره ـ أنه ظرف، أي: ظرف زمان أي: جاءوا في هذا الوقت. قال أهل المعاني: جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. و"يَبْكُونَ" جملة حالية، أي: جاءوه باكين.
والثاني: أن يكون "عِشَاءً" جمع عاشٍ، كقَائِم وقِيَام.
قال أبو البقاء: "ويقرأ بضم العين، والأصل: عُشَاة، مثل: غازٍ وغزاة فحذفت الهاء وزيدت الألف عوضاً عنها، ثم قلبت الألف همزة".
وفيه كلام قد تقدم في آل عمران عند قوله
{ أَوْ كَانُواْ غُزًّى } [آل عمران:156].
ويجوز أن يكون جمع فاعل على فعال، كما جمع فَعِيل على فُعال، لقرب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنؤام ورباب وهو شاذ.
وهذه قراءة الحسن، وهو من العشْوة. والعُشْوَة: هي الظلام. رواه ابن جني "عُشَاءً" بضم العين وقال: عشوا من البكاء. وقرأ الحسن: "عُشاً" على وزن "دُجَى" نحو غازٍ وغُزاة، ثم حذفت منه تاء التأنيث [كما حذفوا تاء التأنيث من] "مَألِكَة" فقالوا: مَألِك، وعلى هذه الأوجه يكون منصوباً على الحال. وقرأ الحسن أيضاً: "عُشَيًّا" مصغراً.
و"نَسْتَبْقُ" نتسابق. والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى، و"نَسْتَبِقَ" في محل نصب على الحال و"تَركْنَا" حال من نَسْتَبقُ و"قد" معه مضمرة عند بعضهم.
قال الزجاج: "يسابق بعضنا بعضاً في الرمي"، ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسلام: "لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ" يعنى بالنصل: الرمي وأصل السبق: الرمي بالسهم، ثم يوصف المتراميان بذلك، يقال: استبقا وتسابقا: إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق.
ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبد الله: "إنَّا ذَهبْنَا نَنْتضِلُ" وقال السدي ومقاتل: "نَسْتبِقُ" نشتد ونعدو.
فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان فالجواب: أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو، وقوله "فأكلهُ الذِّئْبُ" قيل: أكل الذئب يوسف وقيل: عرَّضُوا، وأرادوا أكل الذئب المتاع، والأول أصح.
ثم قالوا: "ومَا أنْتَ بمُؤمٍن لنَا"، أي بمصدق لنا. وقولهم "ولوْ كُنَّا صَادقينَ" جملة حالية، أي: ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له.
فإن قيل: كيف قالوا ليعقوب: أنت لا تصدق الصادقين؟.
قيل: المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر؛ لأنك خفتنا في الابتداء، واتهمتنا في حقه.
وقيل: المعنى لا تصدقنا؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى: { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }، أي بمصدق.
روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت، فقال الشعبي: يا أبا أمية: أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.
قوله تعالى: { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } الآية "على قَمِيصهِ" في محل نصب على الحال من الدم.
قال ابو البقاء: "لأن التقدير: جاءوا بدم كذب على قيمصه". يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه.
قال: "فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة؟.
قلت: لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه".
وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة، قد صحح جماعة جوازه؛ وأنشدوا: [الطويل]

3065ـ ................. فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ

وقول الآخر: [الطويل]

3066ـ لَئِنْ كَان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صَادِياً ِ إليَّ حَبِيباً إنَّها لَحبِيبُ

وقول الآخر: [الخفيف]

3067ـ غَافِلاً تعْرِضُ المنِيَّةُ لِلمرْ ءِ فيُدْعَى ولاتَ حِينَ إبَاءُ

وقال الحوفيُّ: "علَى قَميصِهِ": متعلقٌّ بـ "جَاءُوا"، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مجيئهم لا يصلحُ أن يكُونَ على القَميصِ.
وقال الزمخشري: "فإن قلت: "عَلى قَميصِهِ" ما محلهُ؟ قلتُ: محلُّهُ النَّصب على [الظَّرفيةِ]، كأنَّه قيل: وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ، كما تقولُ: جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال".
قال أبو حيان: ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ "عَلَى" على الظرفية، بمعنى: فوق لأن العامل فيه إذ ذاك "جَاءُوا" وليس الفرق ظرفاً لهم [بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم].
وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله: إنَّ "عَلَى" متعلقة بـ: "جَاءُوا".
ثمَّ قال أبو حيان ـرحمه الله ـ: "وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو: [جاء] على جماله بإحمالٍ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجائي؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل، ويكُونُ "بأحْمالٍ" في موضع الحالِ، أي: مصحوباً بأحمالِ".
وقرأ العامَّةُ: "كَذبٍ" بالذَّال المعجمة، وهو من الوصفِ بالمصادرِ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ، نحو: "رَجُلٌ عدْلٌ".
وقال الفراء، والمبرِّد والزجاج، وابن الأنباريِّ: "بدمٍ كذبٍ"، أي: مكذُوبٍ فيه، إلا أنَّه وصف بالمصدر، جعل نفس الدَّم كذباً؛ للمبالغة، قالوا: والمفعُول، والفاعل يسميان بالمصدر، كما يقال: ماءٌ سكبٌ، أي: مسكوبٌ، والفاعل كقوله:
{ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } [الملك:30]، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل: المعقول، وللجلد: المجلُود، ومنه قوله تعالى: { ٱلْمَفْتُونُ } [القلم:6] أو على حذف مضاف، أي: ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه.
وقرأ زيد بن عليٍّ: "كذِباً" بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني: مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة والحسنُ ـ [رضي الله عنهما] ـ: "كَدِبٍ" بالدَّال المهملة.
قال صاحب اللَّوامح: "معناهُ: ذي كدب، أي أثر؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [أظافير الشبان] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض: الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيره في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر".
وقيل: هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل: الطَّريُّ، وقيل: اليابس.
فصل
قال الشعبيُّ: قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا قميصه، ولطَّخوهُ بالدَّم،وعرضوه على أبيه، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال:
{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف:27-28] وقال: { ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا } [يوسف:93] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه، وألقي على وجهه، فارتدَّ بصيراً.
قال القرطبِيُّ: "هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدَّم، غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل: إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ".
فصل
قال بعض العلماءِ ـ رضي الله عنهم ـ: لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميص، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب ـ عليه السَّلام ـ القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم: تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه.
فصل
استدلَّ العلماءُ بهذه [الآية] في إعمالِ الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ وغيرها، كما استدلَّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ على كذكبهم بصحَّة القميص، فيجبُ على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [قال ابن العربي] ولا خلاف في الحكم بها.
فصل
قال محمد بن إسحاقَ: اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةِ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ بالصَّغيرِ الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهدِ، والكذب مع أبيهم، وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمةِ الله تعالى.
قال بعضُ العلماءِ: إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.
قوله تعالى: { بَلْ سَوَّلَتْ } قبل هذه الجملة جملة محذوفة تقديرها: لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي: زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ ـ رضي الله عنه.
والتَّسويلُ: تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه.
قال الأزهريُّ: "كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره". وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز.
قال الزمخشري: "سوَّلتْ: سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْترخَاءُ".
وإذا عرفت هذا فقوله: "بَلْ" ردُّ لقولهم: "أكَلهُ الذِّئبُ" كأنه قال: ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي: زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون.
واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل: عرف ذلك بسبب أنَّه كان يعرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيل: كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف:
{ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } [يوسف:6] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ ـ رضي الله عنه ـ: لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخرّقاً، قال: كذبتم لو أكله الذِّئب لخرق قميصه. وعن السدي أنه قال: إنَّ يعقوب ـ عليه السلام ـ قال: إنَّ هذا الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه؟.
وقيل: إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله اللصوصُ، فقال: كيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله، فلمَّا اختلفت أقوالهم؛ عرف بذلك كذبهم.
وقال القاضي: "لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ القميص صحيحاً؛ علم كذبهم".
قال عند ذلك: "فصَبْرٌ جميلٌ" يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي: صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل. وقال قطربٌ: معناه فصبري صبرٌ جميلٌ.
وهل يجبُ حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ؟.
وضابطه: أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في صورةِ شعرٍ، قوله: [الطويل]

3068ـ فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌوإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ

وقول الشاعر: [الرجز]

3069ـ يَشْكُو إِليَّ جَملِي طُول السُّرى صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى

ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم.
وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر: "فَصْبراً جَمِيلاً" نصباً، ورويت عن الكسائي وكذلك هي في مصحف أنس بن مالكٍ ـ رضي الله عنه ـ وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ: أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال: اصْبرِي يا نفسُ صبراً.
وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ، والنَّصب على ما تقدَّم، والأمرُ فيه ظاهرٌ.
فصل
روى الحسنُ قال:
"سُئل النبيٌّ صلى الله عليه وسلم عن قوله فَصبْرٌ جميلٌ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ" ، ويدلُّ على ذلك قوله: { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ } [يوسف:86] وقال مجاهدٌ "فَصبرٌ جَمِيلٌ"، أي: من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ: "من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ".
وقال ابنُ الخطيبِ: "وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إلى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخليص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم".
ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان عالماً بأنه حي؛ لأنَّهُ قال له:
{ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } [يوسف:6]. الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.
وأيضاً: فإنَّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً.
فالجواب أن نقول: إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً: لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً: لعلَّهن ـ عليه الصلاة والسلام ـ علم أنَّ الله ـ تبارك وتعالى ـ سيصون يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن البلاءِ والمحنةِ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده، وإلقائهم في ألسنةِ النَّاس وذلك لأنَّ أحَد الولدينِ إذا ظلم أخاه، وقع أبوه في العذابِ الشَّديدِ؛ لأنه إذا لم ينتقمْ؛ يحترق قلبه على الولد المظْلُوم، وإن انتقم، احترق قلبه على الولدِ المُنتقَم منه، فلمَّا وقع يعقوب في هذه البلية رأى أنَّ الأصوب الصَّبرُ، والسُّكونُ، وتفويضُ الأَمْرِ بالكُليَّةِ إلى اللهِ ـ تعالى ـ.
فصل
قال ابنُ أبي رفاعة "ينبغي لأهل الرَّأي أن يتَّهِمُوا رأيهم عند ظنّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو نبيٌّ حين قال له بنوه: { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } [يوسف:17] فقال: { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } [يوسف:18] فأصاب هنا، ثمَّ لما قالوا له:
{ إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } [يوسف:81]، قال: { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ } [يوسف:83] فلم يُصِبْ".
فصل
قوله: "فَصْبرٌ جَميلٌ" يدل على أنَّ الصّبر قسمان:
أحدهما: جميلٌ، والآخر: غيرُ جميلٍ، فالصَّبرٌ الجميلُ هو: أن يعرف أنَّ مُنزِّلَ ذلك البلاء هو الله ـ تعالى ـ ثمَّ يعلم أنَّهُ ـ سبحانه ـ مالكُ المُلكِ، ولا اعتراض على المالكِ في أنْ يتصرَّف في ملكه، فيصيرُ استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً من الشِّكايةِ.
وأيضاً: يعلمُ أن منزِّل هذا البلاءِ حليمٌ لا يجهلُ، عالمٌ لا يغفلُ، وإذَا كان كذلك، فكان كلُّ ما صدر عنه حكمةً وصواباً، فعند ذلك يسكتُ ولا يعترضُ.
وأمَّا الصَّبرُ غير الجميل: فهو الصَّبرُ لسائر الأغراض، لا لأجل الرِّضا بقضاءِ الله ـ سبحانه وتعالى ـ والضَّابطُ في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات: أنه لكما كان لطلب عبودية الله ـ تعالى ـ كان حسناً وإلا فلا.
ثم قال: { وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } أي: أستعين بالله على الصَّبر على ما تكذبون.