خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ
٧٠
قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ
٧١
قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ
٧٢
قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ
٧٣
قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ
٧٤
قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ
٧٥
-يوسف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ }.
تقدَّم الكلامُ في الجهَازِ. وأمَّا قوله: { جَعَلَ ٱلسِّقَايَ } فالعامة على: "جعل" بلا واو قبلها، وقرأ عبدُ الله "وَجَعَلَ" وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن الجواب محذوفٌ.
والثاني: أنَّ الواو مزيدة في الجواب على رأي الكوفيين، والأخفش.
قال أبو حيَّان: وقرأ عبدُ الله فيما نقل عن الزمخشري { وجعل السقاية في رحل أخيه }: أمْهَلهُمْ حتّى انطلقوا. { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ }، وفي نقل ابنِ عطيَّة: "وَجَعلَ" بزيادة واوٍ في: "جَعَلَ" دون الزيادة التي زادها الزمخشريُّ، بعد قوله: "في رَحْل أخيهِ" فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيِّين، واحتمل أن يكون جواب: "لمَّا" محذوفاً تقديره: فقدها حافظها كما قيل: إنَّما أوحي إلى يوسف بأن يجعل السِّقاية فقط، ثمَّ إنَّ صاحبها فقدها فنادى برأيه فيما ظهر له، ورجَّحهُ الطبريُّ، وتفتيتش الأوعية يردُّ هذا القول.
قال شهابُ الدِّين: "لم ينقل الزمخشريُّ هذه الزِّيادة كلها قراءة عن عبدالله، إنَّما جعل [الزِّيادة] المذكورة بعد قوله: "رحْلِ أخِيهِ" تقدير جواب من عنده، وهذا نصُّه:
قال الزمخشريُّ: "وقرأ ابنُ مسعودٍ: وجَعَلَ السِّقاية" على حذف جواب "لمَّا" كأنه قيل: فلمَّا جهزهم بجهازهم، وجعل السِّقاية في رحل أخيه؛ أمهلهم حتى انطلقوا، ثمَّ أذَّن مؤذِّنٌ فهذا من الزمخشريُّ إنما هو تقدير لا تلاوة منقولة عن عبد الله، ولعلَّهُ وقع للشَّيخ نسخةٌ سقيمةٌ".
فصل
قال الزمخشريُّ: "السِّقاية: مَشْربةٌ يُسْقَى بها وهِيَ الصواع".
قيل: كَانَ يُسْقى بها الملكُ، ثُمَّ جعلت صاعاً يكالُ به، وقيل: كانت الدَّوابُّ تسقى بها، ويُكَالُ بِهَا أيضاً، وقيل: كانت من فضَّةٍ، وقيل: كَانتْ من ذهَبٍ، وقيل: كَانتْ مُرصَّعة بالجَواهرِ.
والأولى أن يقال: كان ذلِكَ الإنَاء شيئاً لهُ قِيمَة، أمَّا إلى هذا الحدِّ الذي ذكروهُ فَلاَ.
فصل
روي أنَّ يوسف ـ صلوت الله وسلامه عليه ـ قال لأخيه: لا تُعْلِمهُمْ شيئاً ممَّا أعلمتك، ثمَّ أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لكلِّ واحدٍ بعيراً، ولبنيامين بعيرٌ باسمه، ثمَّ أمر بسقاية الملك، فجعلت في رحل بنيامين.
قال السديُّ ـرحمه الله ـ: لما قال له يوسف:
{ إِنِّيۤ أَنَاْ أَخُوكَ } [يوسف:69] قال بنيامين: فأنا لا أفارقك، فقال له يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي، وإذا أجلستك، ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلاَّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يُحْمدُ، قال لا أبالي فافعل ما بدا لك؛ فإني لا أفارقك، قال: فإنِّي أدس صاعي في رحلك، ثمَّ أنادي عليك بالسِّرقةِ ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك، قال: فافعل.
فعند ذلك جعل السِّقاية في طعام أخيه بنيامين، إمَّا بنفسه بحيثُ لم يطِّلعْ عليه أحدٌ، أو أمر أحداً من بعض خواصه بذلك، ثمَّ ارتحلوا، وأمهلهم يوسف حتَّى نزلوا منزلاً.
وقيل: حتَّى خرجوا من العمارة، ثمَّ بعث خلفهم من استوقفهم، وحبسهم.
{ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } نادى منادٍ: { أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ }، وهي القافلةُ التي فيها الأحمال، يقال: أذَّن، أي: أعلمَ.
وفي الفرق بين "أذَّنَ"، و"آذَنَ" وجهان:
قال ابن الأنباريِّ: "أذن بمعنى أعلم إعلاماً بعد إعلام، لأنَّ "فعَّل" يوجب تكرير الفعل، قال: ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً، من قبل أنَّ العرب يجعل فعَّل بمعنى أفعل، في كثير من المواضع".
وقال سيبويه: الفرقُ بين أذنتُ وآذنْتُ معناه: أعلمتُ، لا فرق بينهما والتَّأذينُ معناه: النِّداءُ، والتَّصويتُ بالإعلام.
{ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ } منادى حذف منه حرف النِّداء، والعير مؤنثٌ، ولذلك أنث أي المتوصل بها إلى ندائه، والعير فيها قولان:
أحدهما: أنها في الأصل جماعة الإبل، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تعير، أي: تذهب وتجيء به.
والثاني: أنَّها في الأصل قافلة الحمير؛ كأنها جمع عير، والعِيرُ: الحِمارُ؛ قال الشاعر: [البسيط]

3121ـ ولاَ يُقِيمُ عَلى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ إلاَّ الأذَلانِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ

وأصلُ "عُيْرٌ"، بضم العين، ثمَّ فعل به ما فعل بـ"بيض"، والأصل [بُيض] بضم الأول، ثم أطلق العير على كلِّ قافلة حميرٍ كُنَّ أو غيرها، وعلى كلِّ فتقدير نسبة النداء إليها على سبيل المجاز؛ لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلها، ونظره الزمخشريُّ بقوله: "يَا خَيْل اللهِ ارْكبِي" ولو التفت لقال: "اركَبُوا". ويجوز أن يعبر عن أهلها بها للمجاورة، فلا يكون من مجاز الحذف، بل من مجاز العلاقة، وتجمعه العرب قاطبةٌ على "عيرات" بفتح الياءِ، وهذا ممَّا اتُّفق على شذوذِهِ؛ لأن فعلة المعتلة العين حقها في جمعها بالألف والتاء أن تسكن عينها، نحو: قِيمَة وقِيمَات، ودِيمَة ودِيمَات، وكذلك "فِعْل" دون ياء إذا جمع حقه أن تسكن عينه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]

3122ـ غَشِيتُ دِيَارَ الحيِّ بالبَكرَاتِ فعَارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ

قال الأعلمُ الشَّنتمَرِيُّ: العِيرَات هنا موضع الأعيار، وهي الحمر.
قال شهابُ الدِّين: "وفي عِيرَات" شذوذ آخر، وهو جمعها بالألف، والتَّاء مع جمعها على أعيار أيضاً جمع تكسيرٍ، وقد نصُّوا على ذلك، قيل: ولذلك لحن المتنبي في قوله: [الطويل]

3123ـ إذَا كَانَ بَعَضُ النَّاسِ سَيْفاً لِدوْلَةٍ فَفِي النَّاس بُوقاتٌ لهَا وطُبُولُ

قالوا: فجمع: "بُوقاً" على: "بُوقَات" مع تكسيرهم له على"أبْوَاق".
وقال أبُو الهيثم: "كلُّ ما يسير عليه من الإبل، والحمير، والبغال فهو عير خلافاً لقول من قال: العِيِرُ: الإبلُ خاصَّة".
فإن قيل: هل كان ذلك النداء بأمر يوسف عليه السلام، أو ما كان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بالرَّسُول الحق من عند الله أن يتهمهم وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً؟.
وإنْ لم يكن بأمره، فهلا أظهر براءتهم عن تلك التُّهمةِ؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: ما تقدَّم من أنَّه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أظهر لأخيه أنَّه يوسف وقال: لا سبيل إلى حبسك هنا إلاَّ بهذه الحيلة، فرضي أخوهُ بها، ولم يتألم قلبه.
والثاني: أراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه، والمعاريض لا تكون إلا كذلك.
والثالث: أن [المؤذن] إنما نادى مستفهماً.
والرابع: ـ هو الظاهر ـ أنَّهم نادوا من عند أنفسهم؛ لأنهم طلبوا السِّقاية فلم يجدوها، ما كان هناك غيرهم، فغلب على ظنهم أنَّهم هم الَّذين أخذوها، وليس في القرآن أنَّهم نادوا عن أمر يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.
وقيل: إنَّهم لما كانوا باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا، وأنَّه عوقب على ذلك بأن قالوا:
{ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [يوسف:77].
وقيل: أراد أيتها العيرُ حالكم حال السارق، والمعنى: إن شيئاً لغيركم صار عندكم، من غير رضى الملك، ولا علم له.
وقيل: إنَّ ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، وهذا بناءً على أنَّ بنيامين لم يعلم بدسّ الصَّاع في رحله، ولا أخبره بنفسه.
وقيل: معنى الكلامِ: الاستفهام، أي: أو إنكم لسارقون، كقوله:
{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [الشعراء:22] والغرضُ ألا يعزى الكذب إلى يوسف.
فإن قيل: كيف رضي بنيامين بالقعود طوعاً، وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف؟.
فالجواب: أنَّ الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثِّر فيه فقد بنيامين كل التأثير، ألا تراهُ لما فقده قال: { يا أسفا على يوسف }، ولم يعرج على بنيامين ولعلَّ يوسف إنَّما وافقه على القعود بوحي، فلا اعتراض.
قوله: { وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ } هذه الجملة حاليةٌ من فاعل قالوا أي: قالوا: وقد أقبلوا، أي: في حال إقبالهم عليهم.
{ مَّاذَا تَفْقِدُونَ } تقدم الكلام على هذه المسألة أوَّل الكتاب.
وقرأ العامة: "تَفْقِدُونَ" بفتح حرف المضارعة؛ لأن المستعمل منه "فَقَدَ" ثلاثياً وقرأ السلميُّ بضمةٍ من أفقدتُّه إذا وجدته مفقوداً كأحمدتهُ وأبخلته، [إذا] وجدته محموداً وبخيلاً.
وضعَّف أبو حاتمٍ هذه القراءة، ووجهها ما تقدَّم.
قوله: { نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ } "الصَّواعُ: هو المِكْيَال، وهو السِّقاية المتقدِّمة سمَّاه تارة كذا، وتارة كذا".
وقال بعضهم: الصُّواعُ اسم، والسِّقايةُ وصفٌ، كقولهم: كُوزٌ وسقاءٌ، الكُوزُ اسم والسِّقايةُ: وصفٌ.
وقيل: "ذُكِّرَ؛ لأَنَّه صاعٌ، وأنْثَ لأنَّهُ سِقايَة.
والصّواع السّقاية: إناءٌ له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشربُ منه من الرَّأسِ الواحدة ويكالُ الطَّعام بالرَّأسِ الآخرِ.
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: كلُّ شيء يُشربُ به فهو صُواعٌ؛ وأنشد: [الخفيف]

3124ـ نَشْرَبُ الخَمْرَ بالصُّواعِ جِهَاراً ....................

قيل: إنما كان الطَّعام بالصُّواع مبالغة في إكرامهم.
وقال مجاهدٌ، وأبو صالح: الصُّواع الطرجهالة بلغة حميرٍ. وإنَّما اتخذ هذا الإناء مكيلاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. وفيه قراءات كلُّها لغات في ذلك الحرف، ويُذكَّر، ويؤنَّث فالعامة: "صُوَاع" بزنة: "غُرَاب"، العين مهملة، وقرأ ابن جبير، والحسن كذلك إلاَّ أنه بالغين المعجمة وقرأ يحيى بن يعمر كذلك؛ إلا أنه حذف الألف، وسكن الواو، وقرأ زيد بن عليِّ "صَوْغ" كذلك إلا أنه فتح الصَّاد، وجعله مصدراً لـ:"صَاغَ" يَصُوغُ. والقراءتان [قبله] مشتقان منه وهو واقع موقع مفعول. أي: مصوغ الملك.
وقرأ أبو حيوة وابن جبير والحسن ـ رضي الله عنهم ـ في رواية عنهما ـ "صِواعَ" كالعامة إلا أنهم كسروا الفاء. وقرأ أبو هريرة ومجاهد ـ رضي الله عنهما ـ: "صَاع" بزنة بَاب وألفه كألفه في كونها منقلبة عن واو مفتوحة وقرأ أبو رجاء: "صَوْع" بزنة "قَوْس".
وقرأ عبد الله بن عون كذلك إلا أنه ضم الفاء فهذه ثمان قراءات متواترة وواحدة في الشاذ.
قوله: { وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } أي من الطعام، { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ }.
قال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي أذن، والزعيم: الكفيل.
قال الكلبيُّ: الزَّعيمُ: هو الكفيل بلسانِ أهل اليمنِ.
روى أبو عبيدة عن الكسائيِّ: زعمْتُ بِهِ أزعُم زُعْماً وزَعَامَةً، أي: تكفلت به.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:
"الزَّعيمُ غَارِمٌ" .
فإن قيل: هذه الكفالةُ شيءٌ مجهولٌ؟.
فالجواب: حمل البعير من الطَّعام كان معلوماً عندهم، فصحت الكفالةُ به إلاَّ أن هذه الكفالة مال لرد السَّرقة، وهي كفالةٌ بما لم يجب؛ لأنَّه لا يحلُّ للسَّارقِ أن يأخذ شيئاً على ردّ السِّرقةِ، ولعلّ مثل هذه الكفالة كانت تصحُّ عندهم.
فصل
قال القطربيُّ: "تجوز الكفالةُ عن الرِّجُل؛ لأنَّ المؤذن هو الضَّامنُ وهو غير يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.
قال علماؤنا: إذا قال الرجلُ: تحمَّلتُ، أو [تكفلت] أو ضمِنتُ، أو أنا حميلٌ لكل أو زعيمٌ، أو كفيلٌ، أو ضامنٌ، أو قبيلٌ، أو لك عندي، أو علي، أو إليّ، أو قبلي، فذلك كلُّه [حَمالةٌ] لازمةٌ.
واختلفوا فيمن تكفل بالنفس، أو بالوجه هل يلزمه ضمانُ المالِ".
فقال الشافعيُّ ـ رضي الله عنه ـ في المشهور عنه، وأحمد: مَن تكفَّل بالنَّفس لم يلزمه الحقٌّ الذي على المطلوب إن ماتَ.
وقال مالكُ، والليثُ، والأوزاعيُّ: إذا تكفل نفسه، وعليه مال، فإن لم يأت به غرم المال، ويرجع به على المطلوب، فإن اشترط ضمان نفسه، أو وجهه، وقال: لا أضمن المال، فلا شيء عليه من المال".
فصل
واختلفوا فيما إذا تكفَّل رجلٌ عن رجلٍ بمالٍ، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما؟.
فقال الأوزاعيُّ، والشافعيُّ، وأحمد، وإسحاق: يأخذ من شاء منهما، وهذا كان قول مالكٍ، ثمُّ رجع عنه فقال: لا يأخذُ من الكفيل إلاَّ أن يفلس الغريمُ، أو يغيبُ؛ لأنَّ البداءة بالذي عليه الحق أولى إلاَّ أن يكون معدماً، فإنَّه يأخذُ من الحميل؛ لأنه معذورٌ في أخذه في هذه الحالةِ، وهذا قولٌ حسنٌ، والقياسُ: أنَّ للرَّجُلِ مطالبة من شاء منهما.
وقال ابنُ أبي ليلى: إذا ضمن الرَّجلُ عن صاحبه مالاً؛ تحوَّل على الكفيل، وبرىء الأصيل، إلاَّ أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ من أيهما شاء.
قوله "تاللهِ" التاء حرف قسم، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم ولذلك لا تدخل إلاَّ على الجلالة المعظمة، أو الرب مضافاً للكعبة، أو الرحمن في قول ضعيف، ولو قلت: تالرحْمن" لم يجز، وهي فرعُ الفرعِ. وهذا مذهب الجمهور.
وزعم السيهليُّ: أنَّها أصلٌ بنفسها، ويلازمها التَّعجب غالباً كقوله: (تالله تفتأ تذكر يوسف).
وقال ابنُ عطيَّة: "والتَّاء في "تَاللهِ" بدلٌ من واو، كما أبدلت في تراثٍ، وفي التَّوراةِ، وفي التخمة، ولا تدخلُ التَّاء في القسم، إلاَّ في المكتوبة، من بين أسماء الله ـ تعالى ـ وغير ذلك لا تقول تالرحمنِ، وتَا الرَّحيم" انتهى وقد تقدَّم أنَّ السُّهيليَّ خالف في كونها بدلاً من واوٍ.
وأمَّا قوله: "في التَّوراةِ" يريد عند البصريين، وزعم بعضهم أنَّ التَّاء فيها زائدةٌ، وأمَّا قوله "إلا في المكتُوبَةِ" هذا هُو المشهور، وقد تقدَّم دخولها على غير ذلك.
قوله: "مَا جِئْنَا" يجوز أن يكون معلقاً للعلم، ويجوز أن يضمن العلم نفسه معنى القسم فيجاب بما يجاب به القسم، وقيل هذان القولان في قول الشاعر: [الكامل]

3125ـ ولقَدْ عَلمْتُ لتأتِينَّ مَنيِّتِي إنَّ المَنايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا

قوله { وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } يحتمل أن يكون جواباً للقسم فيكونون قد أقسموا على شيئين: نفي الفساد، ونفي السَّرقة.
فصل
قال المفسرون: حلفوا على أمرين:
أحدهما: على أنهم ما جاءوا لأجل الفسادِ في الأرض؛ لأنَّه ظهر من أحوالهم وامتناعهم من التصرف في أموال النَّاس بالكليَّة لا بأكل، ولا بإرسال في مزارع النَّاس حتَّى روي أنهم كانوا يسدون أفواه دوابهم لئلا يفسد زرع النَّاس، وكانوا مواظبين على أنواع الطَّاعات.
والثاني: أنهم ما كانوا سارقين، وقد حصل لهم فيه شاهد قاطع، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر، ولم يستحلُّوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتَّة، فلمَّا بينوا براءتهم من تلك التهمة قال أصحابُ يوسف صلوات الله عليه: { فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } فأجابوه، { قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } قال ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ: كانوا يستعبدون في ذلك الزمان كُلَّ سارقٍ بسرقته، فلذلك قالوا: { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أي: فالسَّارقُ جزاؤه، أي: فيسلم السَّارق إلى المسرُوق منه، وكان ذلك سنة آل يعقوب في حكم السَّارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السَّارق، ويغرمه ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عند فردَّ الحكم إليهم؛ ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم.
قوله تعالى: { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون "جَزاؤهُ" مبتدأ، والضمير للسَّارق، و"مَنْ" شرطيَّة أو موصولة مبتدأ ثان، والفاء جواب الشَّرط، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشَّرطِ و"مَنْ" وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأوَّلِ، قاله ابن عطيَّة، وهو مردودٌ؛ لعدم رابط بين المبتدأ، وبين الجملة الواقعة خبراً عنه، هكذا ردَّه أبو حيَّان عليه.
وليس بظاهر؛ لأنَّه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ويتَّضح هذا بتقدير الزمخشري ـرحمه الله ـ فإنَّه قال: "ويجوز أن يكون "جَزاؤهُ" مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره،وعلى إقامة الظَّاهر فيها مقام المضمر، والأصل: جزاؤه، من وجد في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضع "هو" كما تقول لصاحبك: مَنْ أخُوا زيدٍ؟ فيقول لك: من يقْعُد إلى جَنْبِهِ فهُو هو يرجع الضمير الأول إلى: "مَنْ"، والثاني إلى الأخِ، فتقولُ: "فهو أخوه" مقيماً الظاهر مقام المضمر".
وأبو حيان جعل هذا المحكيّ عن الزَّمخشري وجهاً ثانياً بعد الأوَّلِ، ولم يعتقد أنه هو بعينه، ولا أنه جوابٌ عما ردَّ به على ابن عطيَّة.
ثمَّ قال: "وضع الظَّاهر موضع المضمر للرَّبطِ، وإنَّما هو فصيحٌ في مواضع التفخيم والتَّهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك، نحو: قام زيدٌ، وينزه عنه القرآن.
قال سيبويه: "لو قلت: كان زيدٌ منطلقا زيدٌ" لم يكن حدُّ الكلام وكان ههنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك: مازيدٌ مُنْطلقاً هُوَ؛ لأنك قد استغنيت عن إظَهاره، وإنَّما ينبغي لك أن تضمره".
قال شهابُ الدِّين: ومذهبُ الأخفش أنَّه جائزٌ مطلقاً، وعليه بنى الزمخشريُّ، وقد جوَّز أبو البقاء ما توهم أنَّهُ جواب عن ذلك فقال:
والوجه الثالث: أن يكون "جَزاؤهُ" مبتدأ، و "مَنْ وُجِدَ" مبتدأ ثان، و "هُوَ" مبتدأ ثالثٌ، و"جَزَاؤهُ" خبر الثالث، والعائدُ على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة وعلى الثاني "هُوَ" انتهى.
وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح؛ إذ يصير التقدير: فالذي وجد في رحله جزاؤه الجزاء؛ لأنَّه جعل "هُوَ" عبارة عن المبتدأ الثاني، وهو: { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } وجعل الهاء الأخيرة، وهي التي في: "جَزاؤهُ" الأخير عائدةٌ على: "جَزاؤهُ" الأوَّل، فصار التقدير كما ذكرنا.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة: أن يكون: "جَزَاؤهُ" مبتدأ، والهاء تعود على المسروق، و{ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } خبره، و"مَنْ" بمعنى الذي، والتقدير: جزاء الصّواع الذي وجد في رحله.
ولذلك كانت شريعتهم يسترق السَّارق؛ فلذلك استفتوا في جزائه، وقوله: { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } تقدير للحكم، أي فأخذ السَّارق نفسه هو جزاؤه لا غير، كقولك: حقُّ زيدٍ أنْ يُكسَى، ويُطْعَمَ، وينعم عليه، فذلك حقُّهُ، أي: فهو حقه لتقرُّرِ ما ذكرته من استحقاقه ويلزمه ما قاله الزمخشريُّ.
ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قال: استعباد من وجد في رحله وقوله: { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } مبتدأ، وخبر مؤكدٌ لمعنى الأولد، ولما ذكر أبو حيَّان هذا الوجه ناقلاً له عن الزمخشريِّ، قال: "وقال معناه ابنُ عطيَّة إلاَّ أنَّهُ جعل القول الواحد قولين، قال: ويصحُّ أن يكون "مَنْ" خبراً على أن المعنى: جزاء السَّارق من وجد في رحله، ويكون قوله: { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } زيادة بيانٍ وتأكيد، ثم قال: ويحتمل أن يكون التقدير: جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد بقوله: { فَهُوَ جَزَاؤُهُ }، وهذا القول هو الذي قبله غير أنَّهُ أبرز المضاف المحذوف في قوله: استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لا بدَّ من تقديره؛ لأنَّ الذَّات لا تكُون خبراً عن المصدرِ، فالتَّقدير في القول قبله: جزاؤهُ أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه، هذا لا بُدَّ منه على هذا الإعراب.
وهذا ظاهره، أنه جعل المقول الواحد قولين.
الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة: أن يكون: "جَزاؤهُ" خبر مبتدأ محذوف أي: المسئول عنه جزاؤه، ثمَّ أفتوا بقولهم: { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } كما تقول: من يَسْتَفتِي في جزاء صَيْدِ المحرمِ جزاءُ صَيْدِ المحرمِ، ثمَّ يقول:
{ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } [المائدة:95] قاله الزمخشري.
قال أبو حيَّان: "وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله "المسئول عنه جزاؤه" على هذا التقدير، ليس فيه كبير فائدة، إذ قد علم من قوله: "فما جَزاؤهُ" أي الشيء المسئولُ عنه جزاء سرقته، فأيُّ فائدة في نطقهم بذلك، وكذلك القول في المثال الثَّاني الذي مثل به من قول المستفتي".
قال شهابُ الدِّين: "قوله: "ليس فيه كبيرة فائدة" ممنوعٌ، بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان، وفي القرآن أمثال ذلك".
الوجه الرابع: أن يكون "جَزَاؤهُ" مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: جزاؤه عندنا كجزائه عندكم، والهاء تعود على السَّارق، أو على المسروق، وفي الكلام المتقدِّم دليل عليهما، ويكون قوله: { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله وبهذا الوجه بدأ أبُوا البقاءِ ـرحمه الله ـ ولم يذكره الشَّيخُ.
قوله: { كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } محل الكاف نصب إمَّا على أنَّها نعت لمصدر محذوفٍ، إمَّا حال من ضميره، أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين أي: إذا سرق استرق.
قيل: هذا من بقيَّة كلام إخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه.
وقيل: إنهم لما قالوا: { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } قال أصحاب يوسف: { كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } ما ليس لهم فعلُهُ من سرقة مال الغير، فعند ذلك قال لهم المؤذن: لا بُدَّ من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف.