خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ
٢٤
تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٥
وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
٢٦
يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ
٢٧
-إبراهيم

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ } الآية لما شرح أحوال الأشقياء، وأحوال السعداء ذكر مثالاً للقسمين وفي "ضَرَبَ" ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعد لواحد بمعنى اعتمد مثلاً ووضعه، و"كَلِمةً" على منصوبة بمضمر، أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وهو تفسير لقوله: "ضَربَ اللهُ مَثلاً" كقولك: شَرفَ الأمير زيْداً كَساهُ حُلَّةً، وحمله على ضربين، وبه بدأ الزمخشريُّ.
قال أبو حيان ـرحمه الله ـ: "وفيه تكلف إضمار، ولا ضرورة تدعو إليه".
قال شهاب الدين: "بل معناه محتاج إليه فيضطر إلى تقديره محافظة على لمح هذا المعنى الخاص".
الثاني: أنَّ "ضَرَبَ" متعدية لاثنين؛ لأنها بمعنى "صَيَّرَ" لكن مع لفظ المثل خاصة، وقد تقدَّم تقرير هذا أوَّل الكتاب، فيكون "كَلمَةٌ" مفعولاً أول، و"مَثلاً" هوالثاني مقدم.
الثالث: أنَّه متعدٍّ لواحد، وهو "مَثَلاً"، و"كَلمَةً" بدل منه، و"كَشجَرةٍ" خبر مبتدأ مضمر، أي: هي كشجرة طيبة وعلى الوجهين قبله يكون "كَشجَرةٍ" نعتاً لـ: "كَلِمَةً".
وقرىء "كَلِمةٌ" بالرفع، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو، أي: المثل كلمة طيبة، ويكون "كَشجَرة" على هذا نعتاً لـ"كَلِمَةٍ".
والثاني: أنَّها مرفوعة بالابتداء، و"كَشجَرةٍ" خبر.
وقرأ أنس بن مالكٍ ـ رضي الله عنه ـ "ثَابِتٌ أصْلُهَا".
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: أي فرق بين القراءتين؟ قلت: قراءة الجماعة أقوى معنى؛ لأنَّ قراءة أنس أجرت الصفة على الشجرة، ولو قلت: مررتُ برجُلٍ أبُوهُ قَائِمٌ، فهو أقوى من "رَجُل قَائِم أبوهُ"؛ لأنَّ المخبر عنه إنَّما هو الأب، لا "رجل". والجملة من قوله: "أصْلُهَا ثَابتٌ" في محلِّ جرٍّ نعتاً لـ"شَجَرةٍ".
وكذلك "تُؤتِي أكلها" ويجوز فيهما أن يكونا مستأنفين، وجوز أبو البقاء في "تُوتِي" أن يكون حالاً من معنى الجملة التي قبلها، أي: ترتفع مؤتية أكلها، وتقدم الخلاف في "أكُلَهَا".
فصل
المعنى: ألم تعلم، والمثل: قول سائر كتشبيه شيء بشيء: "كَلِمة طَيِّبةً" هي قول: لا إله إلا الله "كَشجَرةٍ طَيِّبةٍ" وهي النَّخلةُ يريد: كشجرة طيبة الثمر.
وقال أبو ظبيان عن ابن عباسٍ ـ رضي الله عنه ـ: هي شجرة في الجنَّة أصلها ثابت في الأرض، وفرعها أعلاها في السماء، كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة، والتصديق، فإذا تكلَّم بها عرجت، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قال تعالى:
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر:10]. ووصف الشجرة بكونها طيبة وذلك يشمل طِيبَ الصورة والشكل والمنظر، والطعم، والرائحة والمنفعة ويكون أصلها ثابت، أي: راسخٌ آمن من الانقطاع، والزوال ويكون فرعها في السماء؛ لأن ارتفاع الأغصان يدلُّ على ثبات الأصل، وأنَّها متى ارتفعت كانت بعيدة عن عفونات الأرض، فكانت ثمارها نقيّة طاهرة عن جميع الشَّوائبِ، ووصفها أيضاً بأنها: "تُؤتِي أكلها كُلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها" والحين في اللغة هو الوقت، والمراد أنَّ ثمار هذه الشجرة تكون أبداً حاضرة دائمة في كلِّ الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي تكون ثمارها حاضرة في بعض الأوقات دون بعض.
وقال مجاهد وعكرمة: والحين: سنة كاملة؛ لأنَّ النخلة تثمر كلَّ سنةٍ. وقال سعيد بن جبير، وقتادة والحسن: ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى حين صرامها وروي ذلك عن ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنه.
وقيل: أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها.
وقال سعيد بن المسيب: شهران من حين أن يؤكل منها إلى الصرام.
وقال الربيع بن أنس ـ رضي الله عنه ـ: كل حين، أي: كل غدوة، وعشية، لأن ثمرة النخل تؤكل أبداً ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاء إما تمراً رطباً أو بسراً، كذلك عمل المؤمن يصعد أوَّل النهار وآخره، وبركة إيمانه لا تنقطع أبداً، بل تتصل في كلِّ وقت.
والحكمةٌ في تمثيل الإيمان بالشجرة، وهي أن الشجرة لا تكون إلا ثلاثة أشياء:
عِرقٌ رَاسخٌ، وأصلٌ قَائِمٌ، وفَرعٌ عالٍ، كذلك الإيمان لا يتمُّ إلا بثلاثة أشياء: تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأبدان.
ثم قال تعالى ـ جل ذكره ـ { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } والمعنى: أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام، وتذكير وتصوير للمعاني.
وقوله: { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } قرىء بنصب "مثَل" عطفاً على: "مَثلَ" الأوَّلِ.
و"اجْتُثَّتْ"صفة لـ"شَجَرَةٍ"، ومعنى: "اجْتُثَّتْ" قلعت جثتها، أي: شخصها والجثة شخص الإنسان قاعداً أو قائماً ويقال: اجتث الشيء أي اقتلعه، فهو افتعال من لفظ الجثة، وجَثَثْتُ الشيء: قلعتهُ.
قال لقيط الإيادي: [البسيط]

3217ـ هذَا الجَلاءًُ الَّذي يَجْتَثُّ أصْلَكُمُ فمَنْ رأى مِثْلَ ذَا يَوْماً ومنْ سَمِعَا

وقال الراغب: "جُثَّةٌ الشيء: شخصه النَّاتىء، والمُجَثَّةُ: ما يجثُّ بِهِ والجَثِيثَةُ لما بَانَ جُثَّتهُ بعد طَبْخهِ، والجَثْجَاثُ: نَبْتٌ".
و"مِنْ قرارٍ" يجوز أن يكون فاعلاً بالجار قبله لاعتماده على النَّفي، وأن يكون مبتدأ، والجملة المنفية إمَّا نعت لـ"شَجَرةٍ" وإمَّا حال من ضمير: "اجْتُثَّتْ".
فصل في المراد بالشجرة الخبيثة
الكلمة الخبيثة هي الشرك: "كَشجَرةٍ خَبِيثةٍ" وهي الحنظلُ وقيل: هي الثوم.
وقيل: هي الكشوث وهل العسَّة، وهي شجرةٌ لا ورق لها، ولا عروق في الأرض.
[قال الشاعر:] [البسيط]

3218ـ.......................... وهيَ كَشُوثٌ فلا أصْلٌ ولا ثَمَر

وعن ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنه ـ أنَّها شجرة لم تخلق على وجهِ الأرض.
"اجْتُثَّت" اقتلعت من فوق الأرض "مَا لهَا من قرارٍ" ثابت، أي: ليس لها أصلٌ ثابتٌ في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء، كذلك الكافر لا خير فيه، ولا يصعد له قولٌ طيب، ولا عمل صالح.
فصل
قوله تعالى: { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ } كلمة التوحيد، وهي قوله: لا إله إلا الله { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } يعني قبل الموت، { وَفِي ٱلآخِرَةِ } يعني في القبر هذا قول أكثر المفسرين.
وقيل: { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } في القبر عند السؤال { وَفِي ٱلآخِرَةِ } عند البعث، والأول أصح، لما روى البراء بن عازب أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"المُسْلِمُ إذَا سُئِلَ في القَبْرِ يَشهَدُ أنَّ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحمَّداً رَسُولُ اللهِ، فذَلِكَ قولهُ سُبحانَهُ { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } قال حين يُقالُ لَهُ: مَن ربُّكَ؟ ومَا دِينُكَ؟ ومَنْ نَبيُّكَ؟ فيقول: الله ربِّي، ودينِي الإسلامُ، ونَبِيِّي مُحمَّدٌ" . واالمشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، فيلقّن الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال، ويثبته على الحق.
ومعنى "الثَّابِتِ" هو أنَّ الله ـ تعالى ـ إنَّما يثبتهم في القبر لمواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول.
قوله: "بالقَوْلِ" فيه وجهان:
أحدهما: تعلقه بـ "يُثَبِّتُ".
والثاني: أنه متعلق بـ"آمنُوا".
وقوله تعالى: { فِي ٱلْحَيَاةِ } متعلق بـ "يُثَبِّتُ" ويجوز أن يتعلق بـ "الثَّابتِ".
ثمَّ قال تعالى: { وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ } أي: لا يهدي المشركين للجواب بالصواب في القبر { وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } من التوفيق والخذلان والتثبيت، وترك التثبيت.