خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ
٥١
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
٥٢
قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ
٥٣
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ
٥٤
قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ
٥٥
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ
٥٦
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
٥٧
قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
٥٨
إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ
٥٩
إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ
٦٠
فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ
٦١
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
٦٢
قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ
٦٣
وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
٦٤
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ
٦٥
وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ
٦٦
وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ
٦٧
قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ
٦٨
وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ
٦٩
قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ
٧٠
قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
٧١
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
٧٢
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ
٧٣
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
٧٤
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ
٧٥
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ
٧٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
٧٧
-الحجر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } القصَّة: لما قرَّر أمر النبوة، أردفه بدلائل التوحيد، ثمَّ عقبه بذكر أحوال القيامةِ، وصفة الأشقياء، والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم ـ، ليكون سماعها مرغِّباً للعبادة الموجبة للفوز بدرجاتِ الأولياءِ، ومحذراً عن المعصية الموجبةِ لاستحقاقِ دركاتِ الأشقياءِ.
فقوله: "ونَبِّئْهُم"، هذا الضمير راجعٌ إلى قوله عز وجل: "عِبَادِي"، أي: ونبِّىء عبادي، يقال: أنْبأتُ القوم إنباءً ونَبَّأتهُم تَنْبئةً إذا أخبرتهم.
قوله: "عَن ضَيْفِ"، أي [أضياف إبراهيم]، والضَّيْفُ في الأصل مصدر ضَافَ يضيفُ: إذا أتى إنساناً يطلب القوى، وهو اسمٌ يقع على الواحدِ، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنَّث.
فِإن قيل: كيف سمَّاهم ضيفاً، مع امتناعهم من الأكلِ؟.
فالجواب: لمن ظنَّ إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنَّهم إنَّما دخلوا عليه لطلب الضِّيافة، جاز تسميتهم ذلك.
وقيل: من دخل [دار] إنسان، والتجأ إليه سمِّي ضيفاً، وإن لم يأكل، وكان إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يكنَّى أبا الضيفان، كان لقصره أربعة أبوابٍ، لكي لا يفوته أحدٌ.
وسمِّي الضيف ضيفاً؛ لإضافته إليك، ونزوله عليك.
قال القرطبي ـرحمه الله ـ:"ضَافهُ مَالَ إليه، وأضَافهُ: [أماله]، ومنه الحديث: حِينَ تضيفُ الشَّمسُ للغُروبِ. وضَيفُوفَةُ السَّهم، والإضافةُ النَّحوية".
قوله: { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } في "إذْ" وجهان:
أحدهما: أنه مفعول لفعل مقدر، أي: اذكر إذ دخلوا.
والثاني: أنه ظرف على بابه، وفي العامل فيه وجهان:
أحدهما: أنه محذوف، تقديره: خبر ضيف.
والثاني: أنه نفس "ضَيْفِ"، وفي توجيه ذلك وجهان:
أحدهما: أنه لما كان في الأصل مصدراً اعتبر ذلك فيه، ويدلُّ على اعتبار مصدريته بعد الوصف به: عدم مطابقته لما قبله تثنية، وجمعاً وتأنيثاً في الأغلب، ولأنه قائم مقام وصفه، والوصف يعمل.
والثاني: أنه على حذف مضاف، أي: أصحاب ضيف إبراهيم، أي: ضيافته، فالمصدر باقٍ على حاله، فلذلك عمل.
قال أبو البقاء بعد أن قدر أصحاب ضيافته: والمصدر على هذا مضاف إلى المفعول.
قال شهابُ الدِّين: وفيه نظر، إذ الظَّاهر إضافته لفاعله؛ لأنه النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { فَقَالُواْ سَلاماً }، أي نُسلِّم لك سلاماً أو سلَّمتُ سلاماً، أو سلمُوا سَلاماً، قاله القرطبيرحمه الله تعالى.
قال: { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي: خائفون؛ لأنهم لم يأكلوا طعامه، وقيل: لأنهم دخلوا بغير إذن، وبغير وقت.
قوله: "لا تَوجَلْ" العامة على فتح التاء من "وجِلَ" كـ:"شَرِبَ" يَشربُ، والفتح قياس "فَعِلَ" إلا أن العرب آثرت [يفعل بالكسر] في بعض الألفاظ إذا كانت واواً، نحو: "نَبِقَ" وقرأ الحسن: "لا تُوجَل" مبنياً للمفعول من الإيجال.
وقرىء: "لا تَأجَلْ"، والأصل: "تَوْجل" كقراءة العامة، إلاَّ أنه أبدل من الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها، وإن لم تتحرَّك كقولهم: "تَابةٌ"، و"صَامةٌ" في "تَوْبة"، و"صَوْمة" وسمع: اللَّهُم تقبَّل تَابتِي، وصَامتِي. وقرىء أيضاً: "لا تُواجِل" من المواجلة.
ومعنى الكلام: لاتخف؛ "إنَّا نَبشِّرُكَ"، قرأ حمزة: "إنَّا نَبْشُركَ" بفتح النون وتخفيف الباء، والباقون بضم النون، وفتح الباء، و"إنَّا نُبشِّرُكَ" استئناف بمعنى التعليل للنهي عن الوجل، والمعنى إنَّك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل.
واعلم أنَّهم بشروه بأمرين:
أحدهما: أنَّ الولد ذكرٌ، والثاني: أنه عليمٌ.
فقيل: بشَّروه بنبوته بعده. وقيل: عليم بالدِّين، فعجب إبراهيم أمره و { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ } قرأ الأعرج: "بشَّرتُمونِي" بإسقاط أداة الاستفهام، فيحتمل الإخبار، ويحتمل الاستفهام، وإنما حذفت أداته للعلم به.
وِ"على أنْ مسَّنيَ" في محل نصبٍ على الحال.
وقرأ ابن محيصن: "الكُبْر" بزنة "فُعْل". قوله: "فبمَ تبشّرون"بِمَ" متعلقٌ بـ "تُبشِّرُون"، وقدم وجوباً؛ [لأنه] استفهام وله صدر الكلام.
وقرأ العام: بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع؟ ولم يذكر مفعول التبشير، وقرأ نافع بكسرها، والأصل: تبشروني فحذف الياء مجتزئاً عنها بالكسرة.
وقد غلطه أبو حاتم، وقال: هذا يكون في الشعر اضطراراً.
وقال مكي: "وقد طعن في هذه القراءة قومٌ لبُعدِ مخرجِها في العربيَّة؛ لأنَّ حذف النون التي تصحبُ الياء لا يحسنُ إلاَّ في الشِّعر، وإن قُدِّر حذف النون الأولى حذفت [علم] الرفع من غير ناصب، ولا جازم؛ ولأنَّ نون الرفع كسرها قبيحٌ، إنَّما حقُّها الفتح".
وهذا الطعن لا يلتفت إليه، لأنَّ ياء المتكلم قد كثر حذفها مجتزءاً عنها بالكسرة، وقد قرىء بذلك في قوله تعالى:
{ قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ } [الزمر:64] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ـ.
ووجهه: أنَّه لما اجتمع نونان أحدهما نون الرفع، والأخرى نون الوقاية استثقل اللفظ، فمنهم من أدغم، ومنهم من حذف، ثم اختلف في المحذوفة، هل هي الأولى، أو الثانية، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام [الأنعام:80].
وقرأ ابن كثير بتشديدها مكسورة، أدغم الأولى في الثانية، وحذف ياء الإضافة، والحسن: أثبت الياء مع تشديد النون، ورجح قراءة من أثبت مفعول: "يُبشِّرُون" وهو الياء.
قوله: { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } "بَشَّرْناكَ"، و"بالحقِّ" متعلق بالفعل قبله، وضعف أن يكون حالاً، أي: قالوا بَشَّرنَاكَ.
ومعنى: "بالحَقِّ" هنا استفهام بمعنى التعجُّب، كأنه قيل: بأيِّ أعجوبةٍ تبشروني؟.
فِإن قيل: كيف استبعد قدرة الله ـ تعالى ـ على خلقِ الولدِ منه في زمانِ الكبرِ؟ وما فائدة هذا الاستفهام مع أنهم قد بينوا ما بشَّروا به؟.
فِأجاب القاضي: بأنه أراد أن يعرف أنه ـ تعالى ـ هل يعطيه الولد مع أنه يبقيه على صفة الشيخوخة، أو يقلبه شابًّا، ثم يعطيه الولد؟.
وسبب هذا الاستفهام:أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامَّة، وإنما يحصل في حال الشَّبابِ.
فإن قيل: فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم، فلم قالوا: { بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ }؟.
قلنا: إنهم بيَّنوا أنه ـ تعالى ـ بشَّرهُ بالولد مع إبقائه على صفة الشَّيخوخَةِ، وقولهم { بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ } لا يدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرَّح في جوابهم بما يدلُّ على أنَّه ليس كذلك فقال: { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ }.
وأجاب غيره: بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيءٍ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنِّه حصول المراد فيه، فإذا بشِّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه، وسروره، ويصير ذلك الفرحُ القويُّ كالمدهش له، والمزيل لقوَّة فهمه، وذكائه، فربَّما تكلم بكلماتٍ مضطربة في ذلك الوقت.
وقيل أيضاً: إنه يستطيب تلك البشارة، فربَّما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرَّة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة، أو طلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق، كقوله:
{ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة:260] وقيل أيضاً: استفهم: أبأمرِ الله تبشروني، أم من عند أنفسكم، واجتهادكم؟.
قوله: { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } قال ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ يريد بما قضى الله تعالى.
وقوله: { فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ } نهي لإبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن القنوطِ، وقد تقدَّم أنَّ النهي لإنسان عن الشَّيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهيّ عنه، كقوله ـ جلَّ وعزَّ ـ
{ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } [الأحزاب:48] { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [القصص:78].
قوله: { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ } هذا استفهام معناه النفي، ولذلك وقع بعد الإيجاب بـ "إلاّ".
وقرأ أبو عمرو، والكسائي: "يَقْنِطُ" بكسر عين هذا المضارع حيث وقع، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها، وفي الماضي لغتان "قنط" بكسر النون، "يَقنَطُ" بفتحها، وقنط "يقْنِطُ" بكسرها، ولولا أن القراءة سنة متبعة، لكان قياس من قرأ:
{ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } [الشورى:28] والفتح في الماضي هو الأكثر، ولذلك أجمع عليه.
قال الفارسي: فتح النون في الماضي، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات، ويرجحُ قراءة "يَقْنَطُ" بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات "فلا تكن من القنطين" كفَرِحَ يفرح فهو فَرِحٌ.
والقُنُوط: شدَّة اليأسِ من الخَيرِ، وحكى أبو عبيدة: "قَنُطَ" يَقْنُطُ بضمِّ النون.
قال ابن الخطيب: "وهذا يدلُّ على أنَّ "قَنَطَ" بفتح النون أكثر؛ لأن المضارع من "فَعَل" يجيء على "يَفْعِلُ ويَفْعُل" مثل: فَسقَ: ويَفْسِقُ، ويَفْسُقُ، لا يجيء مضارع فَعَلَ على يَفْعَلُ".
فصل
جواب إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حق؛ لأنَّ القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلاَّ عند الجهل بأمور:
أحدها: أن يجهل كونه ـ تعالى ـ قادراً عليه.
وثانيها: أن يجهل كونه ـ تعالى ـ عالماً باحتياج ذلك العبد إليه.
وثالثها: أن يجهل كونه ـ تعالى ـ منزّهاً عن البخل، والحاجة.
والجهل بكلِّ هذه الأمور سبب للضَّلالِ، والقُنوط من رحمة الله كبيرة، كالأمن من مكرهِ.
قوله تعالى: { فَمَا خَطْبُكُمْ } الخطب: الشأن، والأمر، سألهم عمَّا لأجله أرسلهم الله ـ تعالى ـ.
فِإن قيل: إنَّ الملائكة لما بشَّروه بالولد الذَّكر العليمِ، كيف قال لهم بعد ذلك "فَمَا خَطْبُكمْ"؟.
فالجواب: قال الأصم: معناه: ما الذي وجهتم له سوى البُشْرَى؟.
وقال القاضي: إنه علم أنه لو كان المقصود أيضاً البشارة، لكان الواحد من الملائكة كافياً، فلمَّا رأى جمعاً من الملائكة؛ علم أنَّ لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة، فلا جرم قال: "فَما خَطْبكُمْ"؟.
قيل: إنَّهم قالوا: إنَّا نُبشِّرُكَ بغُلامٍ عَليم لإزالة الخوف، والوجل، ألا ترى أنّه لما قال: { إنا منكم وجلون } قالوا له: { لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم }، فلو كان المقصود من المجيء هو البشارة؛ كانوا ذكروا البشارة في أوَّل دخولهم، فلمَّا لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم ـ صلوات الله وسلام عليه ـ أنَّ مجيئهم ما كان لمجرَّد البشارة، بل لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض، قال: { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } مشركين، وإنَّما اقتصوار على هذا القدر، لعلم إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأنَّ الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين، كان ذلك لأهلاكهم.
ويدل على ذلك قوله: { إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } قوله "إلا آل لُوطٍ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء متصل على أنه مسثنى من الضمير المستكن في: "مُجرمِينَ" بمعنى أجرموا كلهم إلاَّ آل لوطٍ؛ فإنَّهم لم يجرموا، ويكون قولهم "إنَّا لمنجوهم" استئناف إخبار بنجاتهم، لكونهم لم يجرموا ولكون الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لإهلاك أولئك وإنجاء هؤلاء.
والثاني: أنه اسثناء منقطع؛ لأن آل لوط لم يندرجوا في المجرمين آلبتَّة.
قال أبو حيان: وإذا كان استثناء منقطعاً، فهو مما يجبُ فيه النصب؛ لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن توجه العامل إلى المستثنى منه؛ لأنهم لم يرسلوا إليهم، إنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصَّة، ويكون قوله: "إنَّا لمُنجَّوهُمْ" جَرَى مَجْرى خبر لكن في اتِّصاله بـ "آل لُوطٍ"؛ لأن المعنى: لكنَّ آل لوط منجوهم، وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدَّر بلكن، إذ لم يكن بعده ما يصحُّ أن يكون خبراً: أنَّ الخبر محذوف، وأنه في موضع رفع لجريان: "إلاَّ"، وتقديرها بـ"لَكِن".
قال شهابُ الدِّين: "وفيه نظرٌ؛ لأن قوله لا يتوجه إليه العامل أي: لا يمكن، نحو: ضحك القوم إلا حمارهم، وصهلت الخيلُ إلا الإبل. وأمَّا هذا، فيمكن الإرسال إليهم من غير منع، وأمَّا قوله: لأنهم لم يرسلوا إليهم فصحيح؛ لأنَّ حكم الاستثناء كلَّه هكذا، وهو أن يكون خارجاً عمَّا حكم به على الأوَّل، لكنَّه لو سلط عليه لصحَّ ذلك بخلاف ما تقدَّم من أمثلتهم".
قوله: { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ الأخوان: "لمُنْجُوهمْ" مخففاً؛ وكذلك خففا أيضاً فعل هذه الصيغة في قوله تعالى في العنكبوت
{ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [العنكبوت:32]؛ وكذلك خففا أيضاً قوله فيها: { إِنَّا مُنَجُّوكَ } [العنكبوت:33] فهما جاريتان على سننٍ واحدٍ.
وقد وافقهما ابن كثير، وأبو بكر على تخفيف: "مُنجوكَ" كأنهما جمعا بَيْنَ اللغتين، وباقي السبعة بتشديد الكل. والتخفيف والتشديد لغتان مشهورتان من: نَجَّى وأنْجى، وأنزلَ، ونزَّل، وقد نطق بفعلهما، قال:
{ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } [العنكبوت:65] وفي موضع { أَنجَاهُمْ } [يونس:23].
قوله: { ٱمْرَأَتَهُ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء من "آل لُوطٍ". قال أبو البقاء ـرحمه الله ـ: "والاستنثاء إذا جاء بعد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافاً إلى المبتدأ كقولك: "لهُ عِندِي عشرةٌ إلا أربعة إلا درهماً" فإن الدرهم يستثنى من الأربعة، فهو مضاف إلى العشرة، فكأنك قلت: أحد عشر إلاَّ أربعة، أوعشرة إلاَّ ثلاثة".
والثاني: أنها مستثناةٌ من الضمير المجرور في قوله "لمُنَجوهمْ".
وقد منع الزمخشري ـرحمه الله ـ الوجه الأول، وعيَّن الثاني فقال: "فإن قلت: قوله: "إلا امرأتهُ" مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناء من استثناء؟.
قلت: مستثنى من الضمير المجرور في قوله: "لمُنَجُّوهم"، وليس من الاستثناء في شيء؛ لأن الاستثناء من الاستثناء إنَّما يكون فيما اتَّحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأتهُ، كما اتَّحد في قول المطلِّق: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنين إلا واحدة، وقول المقرّ: لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً، وأما الآية فقد اختلف الحكمان؛ لأنَّ: "آل لوطٍ" متعلق بـ"أرْسَلْنَا" أو بـ"مُجرمِينَ"، و"إلاَّ امْرأتهُ" قد تعلَّق بقوله: "لمُنجوهم" فأنَّى يكون استثناء من استثناء".
قال أبو حيَّان: ولما استسلف الزمخشري أنَّ "امرأتهُ" استثناء من الضمير في "لمُنجُّوهم" أبى أن يكون استثناء من استثناء، ومن قال: إنه استثناء من استثناء، فيمكن [تصحيح قوله] بأحد وجهين:
أحدهما: أنه لما كان امرأته مستثنى من الضمير في "لمُنَجوهُم"، وهو عائدٌ على "آل لوطٍ" صار كأنَّه مستثنى من: "آل لوطٍ"؛ لأنَّ المضمر هو الظاهر.
والوجه الآخر: أن قوله "إلاَّ آل لوطٍ" لمَّا حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين، اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله: { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } تأكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى: إلا آل لوط لم نرسل إليهم بالعذاب، ونجاتهم مرتبة على [عدم] الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير ذلك: قام القومُ إلاَّ زيداً لم يقم أو إلاَّ زيداً فإنه لم يقم، فهذه الجملة تأكيدٌ لما تضمَّنهُ الاستثناء من الحكم على ما بعد إلاَّ بضدِّ الحكم السَّابق على المستثنى منه، فـ:"إلاَّ امْرَأتهُ" على هذا التدقير الذي قرَّرناه مستثنى من: "آلَ لُوطٍ"؛ لأنَّ الاستثناء ممَّا جيء به للتَّأسيس أولى من الاستثناء ممَّا جيء به للتأكيد.
قوله "قدَّرْنَا" قرأ أبو بكر ههنا، وفي سورة النمل بتخفيف الدَّال، والباقون بتشديدها، وهما لغتان: قَدَّر، وقَدَر.
قوله: "إنَّها" كسرت من أجل اللاَّم في خبرها، ولولاها [لَفُتِحَتْ]، وهي معلقة لما قبلها؛ لأنَّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمَّا لكونه بمعناه، وإمَّا لأنه مترتب عليه.
قال الزمخشري: "فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله: { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ }، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمن فعل التقدير معنى العلم".
قال أبو حيَّان ـرحمه الله تعالى ـ "وكسرت "إِنَّهَا" إجراء لفعل التقدير مجرى العلم".
وهذا لا يصحُّ علة لكسرها، إنَّما يصحُّ علةً لتعليقها الفعل قبلها.
فصل
معنى التقدير في اللغة: جعل الشيء على مقدار غيره، يقال: قدر هذا الشيء بهذا، أي: اجعله على مقداره، وقدَّر الله ـ سبحانه ـ الأقوات، أي: جعلها على مقدار الكفاية، ثمَّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال: قضى الله عليه، وقَدرَ عليه، أي: جعله على مقدار ما يكفي في الخير، والشر. وقيل: معنى: "قَدَّرْنَا" كتبنا. وقال الزجاج: دبرنا. فإن [قيل] لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عزَّ وجلَّ؟
فالجواب: إنَّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله، كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا [وأمرنا بكذا]، والمدبر، والآمر هو الملك لا هم، وإنَّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك، فكذا هنا.
قوله تعالى: { إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ } في موضع مفعول، التقدير: قضينا أنها تتخلف، وتبقى مع من يبقى حتَّى يهلك، فتلحق بالهالكين.
قوله تعالى: { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ } القصة لما بشروا إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالولد، وأخبروه بأنهم مرسلون بالعذاب إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط عليه السلام، وإلى آله، وإنَّ لوطاً، وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة الله.
فقالوا: { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ }؛ لأنهم لما هجموا عليه؛ استنكرهم، وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه.
وقيل: خاف؛ لأنهم كانوا شبايا مرداً حسان الوجوه، فخاف أن يهجم قومه عليهم لطلبهم، فقال هذه الكلمة.
وقيل: إنَّ النكرة ضدّ المعرفة، فقوله: { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ }، أي: لا أعرفكم، ولا أعرف أنكم من أي الأقوام، ولأي غرض دخلتم عليّ، فقال: { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ }.
قوله: { بَلْ جِئْنَاكَ } إضراب عن الكلام المحذوف، تقديره: ما جئناك بما ينكر، { بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا [كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ }].
وقد تقدَّم الخلاف في قوله: "فأسْرِ" قطعاً ووصلاً في هود: [81].
وقرأ اليماني فيما نقل ابن عطية، وصاحب اللوامح: "فَسِرْ" من السير. وقرأت فرقة بفتح الطاء، وقد تقدَّم في يونس أنَّ الكسائي، وابن كثير قرآه بالسكون في قوله "قِطْعاً" والباقون بالفتح.
قوله: قالت الملائكة { بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } يشكون أنه نازلٌ بهم، وهو العذاب؛ لأنه كان يوعدهم بالعذاب، فلا يصدقونه، ثمَّ أكدوا ذلك بقولهم: { وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } قال الكلبيُّ: بالعذاب، [وقيل باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو العذاب] ثم أكدوا هذه التَّأكيد بقولهم { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }.
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱللَّيْلِ } والقِطْعُ والقَطع: آخر الليل؛ قال: [الخفيف]

3280ـ افْتَحِي البَابَ وانظُرِي في النُّجُومِ كَم عليْنَا مِن قِطْعِ ليْلٍ بَهِيمِ

{ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ }، أي سر خلفهم { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } لئلا ترتاعوا من أمر عظيم فأنزل بهم من العذاب.
وقيل: معناه الإسراع، وترك الاهتمام لما خلف وراءه، كما يقول: امض لشأنك، ولا تعرج على شيءٍ.
وقيل: المعنى لو بقي [منه] متاعٌ في ذلك الموضع، فلا يرجعن بسببه ألبتَّة.
وقيل: جعل الله ذلك علامة لمن ينجو من آل لوطٍ.
{ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: يعني "الشَّام".
وقال المفضل: حيث يقول لكم جبريل. وقال مقاتل: يعني زغر. وقيل: "الأرْدن".
قوله: { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } "حَيْثُ" على بابها من كونها ظرف مكان مبهمٍ، ولإبهامها تعدي إليها الفعل من غير واسطةٍ، على أنه قد جاء في الشِّعر تعديته إليها بـ "في" كقوله: [الطويل]

3281ـ فَأصْبحَ في حَيْثُ التَقيْنَا شَريدُهمْ طَليقٌ ومكْتوفُ اليَديْنِ ومُزْعِفُ

وزعم بعضهم أنها هنا ظرف زمانٍ، مستدلاً بقوله: { بِقِطْعٍ مِّنَ ٱللَّيْلِ } ثم قال { وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } أي: في ذلك الزَّمان.
وهو ضعيف، ولو كان كما قال، لكان التركيب وامضوا حيث أمرتم على أنه لو جاء التَّركيب كذا لم يكن فيه دلالة.
قوله: { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ } ضمَّن القضاء معنى الإيجاء؛ فلذلك تعدَّى تعديته ـ "إلى"، ومثله
{ وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الإسراء:4].
و"ذَلكَ الأمْرَ"ذَلِكَ" مفعول القضاءِ، والإشارة به إلى ما وعد من إهلاكِ قومه، و"الأمْرَ" إمَّا بدلٌ منه، أو عطف بيانٍ له.
قوله: { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ } العامة على فتح "أنَّ" وفيها أوجه:
أحدها: أنها بدل من "ذَلِكَ" إذا قلنا: "الأمْرَ" عطف بيان.
الثاني: أنَّها بدلٌ من "الأمْرَ" سواء قلنا: إنه بيان أو بدل مما قبله.
الثالث: أنه على حذف الجار، أي: بأنَّ دابر، ففيه الخلاف المشهور.
وقرأ زيد بن علي، والأعمش بكسرها؛ لأنه بمعنى القول.
وعلَّله أبو حيان: بأنه لمَّا علق ما هو بمعنى العلم؛ كسر.
وفيه النظر المتقدم.
ويؤيِّد إضمار القول قراءة ابن مسعودٍ: وقلنا إنَّ دابر هؤلاء.
ودابرهم: آخرهم "مَقطوعٌ" مستأصل، يعني مستأصلون عن آخرهم؛ حتى لا يبقى منهم أحد "مُصْبحينَ"، أي في حال ظهور الصبح، فهو حال من الضمير المستتر في: "مَقطُوعٌ"، وإنَّما جمع حملاً على المعنى، وجعله الفرَّاء، وأبو عبيدة خبراً لكان المضمرة، قالا: تقديره: إذا كانوا مصبحين، نحو "أنْتَ مَاشِياً أحسنُ مِنْكَ رَاكِباً".
وهو تكلفٌ، و"مُصْبحِينَ" داخلين في الصَّباحِ.
قوله: { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ }، أي: مدينة لوط، يعني: "سدُوم"يَسْتبشِرُونَ" حالٌ، أي: يستبشرون بأضياف لوطٍ، يبشر بعضهم بعضاً في ركوب الفاحشة منهم.
قيل: إنَّ الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم.
وقيل: أخبرتهم امرأة لوطٍ بذلك؛ فذهبوا إلى دارِ لوطٍ؛ طلباً منهم لأولئك المردِ.
فقال لهم لوط ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: "هَؤلاءِ ضَيْفِي" وحق على الرجل إكرام ضيفه، "فلا تَفْضحُونِ" فيهم.
يقال: فَضحَهُ يَفضحُه فَضْحاً، وفَضِيحَةً، إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار، والفَضِيحُ والفَضِيحةُ: البيان، والظُّهورُ، ومنه: فَضِيحَةُ الصُّبْحِ؛ قال الشاعر: [البسيط]

3282ـ وَلاحَ ضَوءُ هِلالِ اللَّيْلِ يَفْضحُنَا مِثْلَ القُلامَةِ قَدْ قُصَّتْ مِنَ الظُّفُرِ

إلا أنَّ الفضيحة اختصت بما هو عارٌ على الإنسان عند ظهوره.
ومعنى الآية: أن الضيف يجب إكرامه، فإذا قصدتموه بالسُّوءِ كان ذلك إهانة بي، ثمَّ أكد ذلك بقوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ } ولا تخجلون، فأجابوه بقولهم: { أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ }، أي: عن أن تضيِّف أحداً من العالمين.
وقيل: ألم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة؛ فإنا نركبُ منهم الفاحشة.
قوله: { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يكون { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } مفعولاً بفعل مقدرٍ، أي: تزوَّجُوا هؤلاء، و"بَناتِي" بدلٌ، أو بيانٌ.
الثاني: أن يكون { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } مبتدأ وخبراً، ولا بدَّ من شيء محذوف تتمُّ به الفائدة، أي: فتزوَّجُوهنَّ.
الثالث: أن يكون "هَولاءِ" مبتدأ، و"بَناتِي" بدلٌ، أو بيان والخبر محذوف، أي: هُنَّ أطهر لكم كما جاء في نظيرتها.
وتقدَّم الكلام على هذه المعاني في هود.
قوله { لَعَمْرُكَ } مبتدأ محذوف الخبر وجوباً، ومثله: لايْمُن الله، و"إنَّهُمْ"، وما في حيزه جواب القسم، تقديره: لعمرك قسمي، أو يميني إنهم، والعُمُرُ والعَمْر بالفتح والضم هو البقاء، إلا أنَّهم التزموا الفتح في القسم.
قال الزجاج: لأنه أخفُّ عليهم، وهم يكثرون القسم بـ "لعَمْرِي ولعَمْرُكَ".
وله أحكام كثيرة:
منها: أنه متى اقترن بلام الابتداء؛ ألزم فيه الرفع بالابتداء، وحذف خبره لسد جواب القسم مسدَّه.
ومنها: أنه يصير صريحاً في القسم، أي: يتعيَّن فيه، بخلاف غيره نحو: عَهْدُ اللهِ ومِثاقُه.
ومنها: أنه يلزم فتح عينه.
فإن لم يقترن به لام الابتداء، جاز نصبه بفعلٍ مقدرٍ، نحو: عَمْرُ اللهِ لأفعلنَّ، ويجوز حينئذٍ في الجلالة وجهان:
النَّصبُ والرفع فالنصب على أنه مصدرٌ مضاف لفاعله، وفي ذلك معنيان:
أحدهما: أن الأصل: أسألك بعمرك الله، أي: بوصفك الله ـ تعالى ـ بالبقاء، ثم حذف زوائد المصدر.
والثاني: أن المعنى: بعبادتك الله، والعَمْرُ: العِبادةُ.
حكى ابن الأعرابي: إنِّي عمرتُ ربِّي، أي: عبدته، وفلان عامر لربِّه، أي: عابده.
وأمَّا الرفع: فعلى أنه مضاف لمفعوله.
قال الفارسيرحمه الله : معناه: [عَمَّرك] الله تعميراً، وقال الأخفش: أصله: أسْألك بِيُعمرك الله، فحذف زوائد المصدر، والفعل، والياء، فانتصب، وجاز أيضاً ذكر خبره، فتقول: عمرك قسمي لأقومن، وجاز أيضاً ضمُّ عينه، وينشد بالوجهين قوله: [الخفيف]

3283ـ أيُّهَا المُنْكِحُ الثُريَّا سُهَيلاً عَمركَ الله كيْفَ يَلتقِيَانِ
هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا ما استقلَّتْ وسُهَيْلٌ إذا اسْتقل يَمانِي

ويجوز دخول باء الجر عليه؛ نحو: بعمرك لأفعلنَّ؛ قال: [الوافر]

3284ـ رُقيَّ بِعمْرِكُم لا تَهْجُرينَا ومَنِّينَا المُنَى ثُمَّ امْطُلينا

وهو من الأسماء اللازمة للإضافة، فلا يقطع عنها، ويضاف لكل شيء، وزعم بعضهم: أنه لا يضاف إلى الله ـ تعالى ـ.
قيل: كان هذا يوهم أنه لا يستعمل إلا في الانقطاع، وقد سمع إضافته للباري تعالى. قال الشاعر: [الوافر]

3285ـ إذَا رَضِيَتْ عليَّ بَنُو قُشيْرٍ لعَمْرُ الله أعْجَبنِي رِضَاهَا

ومنع بعضهم إضافته إلى ياء المتكلِّم، قال لأنه حلف بحياة المقسم، وقد ورد ذلك، قال النابغة: [الطويل]

3286ـ لعَمْرِي وما عمْرِي عليَّ بِهيِّنٍ لقد نَطقَتْ بُطلاً عليَّ الأقَارعُ

وقد قلبته العرب لتقديم رائه على لامه، فقالوا: وعملي، وهي رديئة.
"إنَّهُمْ" العامة على كسر "إنَّ" لوقوع اللام في خبرها، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي له "أنَّ" فتحها، وتخريجها على زيادة اللام، وهي كقراءة ابن جبيرٍ (ألا أنهم ليأكلون الطعام) بالفتح.
وقرأ الأعمش: "سَكْرهُمْ" بغير تاء، وابن أبي عبلة "سَكرَاتهِمِ" جمعاً، والأشهب: "سُكْرتِهِم" بضم السين.
و"يَعْمَهُونَ" حال إمَّا من الضمير المستكن في الجار، وإمَّا من الضمير المجرور بالإضافة، والعامل إمَّا نفس سكرة، لأنَّها مصدر، وإمَّا معنى الإضافة.
فصل
قيل: إن الملائكة ـ عليهم السلام ـ قالت للوطٍ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ "لعَمُركَ إنَّهم لَفِي سَكرتِهمْ يَعْمَهُونَ": يتحيَّرون.
وقال قتادة: يلعبون فكيف يعقلون قولك ويتلفتون إلى نصيحتك؟.
وقيل: إنَّ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحدٍ.
روى أبو الجوزاء عن ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال ما خلقَ الله نفساً أكرم على الله من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما أقْسمَ بحياةِ أحدٍ إلاَّ بحياتهِ.
قال ابن العربي: قال المفسرون بإجماعهم: أقسم الله تعالى ها هنا بحياةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم تشريفاً له، أنَّ قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون، وقال القاضي عياضٌ: اتفق أهل التفسير في هذا: أنَّه قسم من الله تعالى بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم وأصله ضمُّ العين من العمر، ولكنها فتحت بكثرة.
قال ابن العربي: ما الذي يمنعُ أن يقسم الله ـ تعالى ـ بحياة لوطٍ، ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكلُّ ما يعطيه الله للوطٍ من فضل، يعطي ضعفه لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه أكرم على الله منه؛ أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلَّة، وموسى التكليم، وأعطى ذلك لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فإذا أقسم بحياة لوطٍ، فحياة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أرفعُ، ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكرٌ لغير ضرورةٍ.
قال القرطبيُّ: ما قاله حسنٌ، فإنَّه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، كلاماً معترضاً في قصَّة لوط.
قال القشيريُّ: يحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوطٍ؛ أي كانوا في سكرتهم يعمهون، أي لمَّا وعظ لوطٌ قومه وقال: هؤلاء بناتي، قالت الملائكة: يا لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون، ولا يدرون ما يحلُّ بهم صباحاً.
فإن قيل: فقد أقسم الله تعالى بالتِّين، والزَّيتونِ، وطور سنين، وما في هذا من الفضل؟ قيل له: ما من شيء أقسم الله به، إلاّ وفي ذلك دلالة على فضل على ما يدخل في عداده، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ }، ولم يذكر في الآية صيحة من هي فإن ثبت بدليل قوي أن تلك صيحة جبريل قيل به وإلا فليس في الآية دليلٌ على أنه جاءتهم صيحة مهلكة.
قوله "مُشْرقينَ"حال من مفعول "أخَذتْهُمْ"، أي داخلين في الشروق، أي: بزوغِ الشَّمسِ.
يقال: شَرَق الشارق يَشْرُق شُرُوقاً لكل ما طلع من جانب الشرق، ومنه قوله: ما ذرَّ شَارِقٌ، أي طلع طَالعٌ فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا وتمامه حين أشرقوا.
والضمير في: "عَاليهَا وسَافِلهَا" للمدينة. وقال الزمخشريُّ: "لقرى قوم لوط".
ورجح الأول بأنه تقدَّم ذكر المدينة في قوله { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ } فعاد الضمير إليها بخلاف الثاني، فإنه لم يتقدَّم لفظ القرى.
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً } تقدم الكلام على ذلك كله في هود: [82].
قوله { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } متعلق بمحذوف على أنه صفة لـ "آيَاتٌ" وأجود أن يتعلق بنفس "آيَاتٌ"؛ لأنَّها بمعنى العلامات.
والتوسُّم: تفعل من الوسم، والوسمُ أصله: التَّثبت، والتَّفكر مأخوذ من الوسمِ، وهو التَّأثير بحديد في جلد البعير، أو غيره.
وقال ثعلب: الوَاسِمُ النَّاظر إليك من [قرنك] إلى قدمك، وفيه معنى التَّثبيت.
وقال الزجاج: حقيقة المتوسِّمين في اللغة: المتثبتون في نظرهم حتَّى يعرفوا سمة الشيء، وصفته وعلامته وهو استقصاءُ وجوه التَّعرف قال: [الكامل]

3287ـ أوَ كُلما وردَتْ عُكاظَ قَبيلَةٌ بَعَثَتْ إليَّ عَريفَهَا يَتوسَّم

وقيل: هو تفعُّل من الوسمِ، وهو العلامة، توسَّمتُ فيك خيراً، أي: ظهر لي مِيسَمُهُ عليك.
قال ابن رواحة يمدحُ النبي صلى الله عليه وسلم: [البسيط]

3288ـ إنِّي تَوسَّمْتُ فِيكَ الخَيْرَ أعْرفهُ واللهُ يَعْلمُ أنِّي ثَابتُ البَصرِ

وقال آخر: [الطويل]

3289ـ تَوسَّمْتهُ لمَّا رَأيْتُ مَهَابَةٌ عَليْهِ، وقُلْتُ المَرْءُ مِنْ آلِ هَاشمِ

ويقال: اتَّسمَ الرَّجلُ، إذا اتَّخذَ لِنفْسِه عَلامةً يُعرف بِهَا، وتوسَّم: إذا طلبَ كلأ الوسمي، أي: العُشْبَ النَّابت في أوَّل المطر.
واختلف المفسِّرون: فقال ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ للنَّاظرين.
وقال مجاهدٌ للمتفرِّسين، وقال قتادة للمعتبرين، وقال مقاتلٌ للمتفكرين.
قوله: { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ } الظاهر عود الضمير على المدينة، أو القرى وقيل على الحجارة وقيل: على الآيات، والمعنى: بطريقٍ واضح قال مجاهد هذا طريق معلم، وليس بخفيّ، ولا زائلٍ.
ثم قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ }، إي: كل من آمن بالله، ويصدق بالأنبياء، والرُّسلِ ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ؛ عرف أنَّما كان انتقامُ الله من الجُهَّال لأجل مخالفتهم، وأمَّا الذين لا يؤمنون؛ فيحملونه على حوادث [العالم]، وحصول القرانات الكوكبية، والاتصالات الفلكية.