خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨
وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
١٩
وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
٢٠
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
٢١
-النحل

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } لمَّا بيَّن أنَّ الاشتغال بعبادة غير الله باطلٌ، بيَّن ههنا أنَّ العبد لا يمكنه الإتيانُ بعبادة الله، وشكر نعمه على سبيل التَّمامِ، والكمال، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعاتِ، والعبادات، وبالغ في شُكْرِ نعم الله؛ فإنه يكون مقصِّراً؛ لأنَّ الاشتغال بشكر النِّعم مشترطٌ بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل، فإنَّ من لا يكون متصوراً، ولا مفهوماً يمتنع الاشتغال بشكره، والعلم بنعمة الله على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد؛ لأنَّ نعم الله كثيرة، وأقسامها عظيمة، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمبادئها فضلاً عن غايتها، لكنَّ الطريق إلى ذلك أن يشكر الله على جميع نعمه مفصَّلها، ومجملها.
ثم قال - جلَّ ذكره-: { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }، "لَغَفُورٌ" لتقصيركم في شكر نعمه، "رَحِيمٌ" بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم لتقصيركم. قال بعضهم: إنَّه ليس لله على [الكافر] نعمةٌ. وقال الأكثرون: لله على الكافر والمؤمن نعمٌ كثيرةٌ؛ لأنَّ الإنعامَ بخلق السمواتِ، والأرض، وخلق الإنسان من نطفةٍ، والإنعام بخلق الخيلِ، والبغال والحمير، وجميع المخلوقات المذكورة للإنعام يشترك فيها المؤمن، والكافر.
قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } قرأ العامة "تُسِرُّونَ" و "تُعْلِنُونَ" بتاء الخطاب، وأبو جعفرٍ، وشيبة بالياء من تحت، وقرأ عاصم وحده: "يَدْعُونَ" بالياء، والباقون بالتاء من فوق، وقراءة "يُدْعَونَ" مبنيًّا للمفعول، وهن واضحات، والمعنى: أنَّ الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرُّون ضروباً من المكر بمكايد الرسول؛ فذكر هذا زجراً لهم عنها.
قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } تكريرٌ؛ لأن قوله تعالى: { أَفَمَن يَخْلُقُ } يدلُّ على أنَّ الأصنام لا تخلق شيئاً.
فالجواب: أنَّ الأول أنَّهم لا يخلقون شيئاً، وههنا أنَّهم لا يخلقون شيئاً، وأنهم مخلوقون كغيرهم؛ فكان هذا زيادة في المعنى.
قوله "أمْوات" يجوز أن يكون خبراً ثانياً، أي: وهم يخلقون وهم أمواتٌ، ويجوز أن يكون "يُخْلَقُونَ"، و "أمْواتٌ" كلاهما خبر من باب: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ ذكره أبو البقاءرحمه الله تعالى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم أمواتٌ.
قوله: { غَيْرُ أَحْيَآءٍ } يجوز فيه ما تقدم ويكون تأكيداً.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون قصد بها أنهم في الحال غير أحياء؛ ليدفع به توهُّم أنَّ قوله تعالى: { أَمْوَاتٌ } فيما بعد، إذ قال تعالى:
{ { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30].
قال شهابُ الدِّين: "وهذا لا يخرجه عن التأكيد الذي ذكره قبل ذلك".
فصل في وصف الأصنام
اعلم أنه - تعالى - وصف الأصنام بصفات:
أولها: أنها لا تخلق شيئاً.
وثانيها: أنها مخلوقة.
وثالثها: أنهم أموات غير أحياءٍ، أي: أنها لو كانت آلهة حقيقية؛ لكانت أحياء غير أموات، أي: لا يجوز عليها الموت، كالحيِّ الذي لا يموت - سبحانه - وهذه الأصنام بالعكسِ.
فإن قيل: لما قال "أمْواتٌ" علم أنَّها "غَيْرُ أحياءٍ"، فما فائدة قوله تعالى: { غَيْرُ أَحْيَاءٍ }؟.
والجواب: أنَّ الإله هو الحيُّ الذي لا يحصل عقيب حياته موتٌ، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها حياة، وأيضاً: فهذا الكلام مع عبدة الأوثان، وهم في نهاية الجهالة، ومن تكلَّم مع الجاهل الغرِّ الغبي، فقد يعبر عن المعنى الواحد، بعباراتٍ كثيرة، وغرضه الإعلام بأنَّ ذلك المخاطب في غاية الغباوة، وإنما يعيد تلك الكلمات؛ لأنَّ ذلك السامع في نهاية الجهالة، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة.
ورابعها: قوله: { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } والضمير في قوله: "يَشْعرُونَ" عائد على الأصنام، وفي الضمير في قوله: "يُبْعَثُونَ" قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى العابد للأصنام، أي: ما يدري الكفار عبدةُ الأصنام متى يبعثون.
الثاني: أنه يعود إلى الأصنام، أي: الأصنام لا يشعرون متى يبعثها الله تعالى.
قال ابن عباس - رضي الله عنه: إنَّ الله - تعالى - يبعث الأصنام لها أرواحٌ، ومعها شياطينها، فتتبرَّأ من عابديها، فيؤمرُ بالكلِّ إلى النَّارِ.
فصل هل توصف الأصنام بموت أو حياة
الأصنام جمادات، والجمادات لا توصف بأنها أمواتٌ، ولا توصف بأنها لا تشعر بكذا وكذا.
فالجواب من وجوه:
الأول: أنَّ الجماد قد يوصف بكونه ميتاً؛ قال تعالى:
{ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ } [الأنعام: 95].
الثاني: أنهم لما وصفوا بالإلهيَّة قيل لهم: ليس الأمر كذلك؛ بل هي أمواتٌ، لا يعرفون شيئاً، فخوطبوا على وفق معتقدهم.
الثالث: أنَّ المراد بقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [الملائكة] وكان أناسٌ من الكفَّار يعبدونهم؛ فقال الله تعالى: إنهم "أمْواتٌ" أي: لا بدَّ لهم من الموت "غَيْرُ أحْيَاءٍ" أي: غير باقيةٍ حياتهم، { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي لا علم لهم بوقت بعثهم. انتهى.
قوله تعالى: "أيَّانَ" منصوب بما بعده لا بما قبله؛ لأنَّه استفهام، وهو معلق لـ "مَا يَشْعرُونَ" فجملته في محل نصب على إسقاطِ الخافض، هذا هو الظاهر.
وقيل: إن "أيَّانَ" ظرف لقوله
{ إِلَٰهُكُمْ إِلٰهٌ وَاحِدٌ } [النحل: 22] يعني: أنَّ الإله واحدٌ يوم القيامة، ولم يدَّع أحد [تعدُّد] الآلهةِ في ذلك اليوم، بخلاف أيَّام الدنيا، فإنه قد وجد فيها من ادَّعى ذلك، وعلى هذا فقد تم الكلام على قوله "يَشْعُرونَ" إلاَّ أنَّ هذا القول مخرجٌ لـ "أيَّانَ" عن [موضوعها]، وهو إمَّا الشرط، وإمَّا الاستفهام إلى محضِ الظرفية، بمعنى وقت مضاف للجملة بعده؛ كقولك "وقْتَ يَذهَبُ عَمرٌو مُنْطلِقٌ" فـ "وَقْتَ": منصوبٌ بـ "مُنْطَلِقٌ" مضاف لـ "يَذْهَبُ".