خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً
١٠٥
وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً
١٠٦
قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً
١٠٧
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً
١٠٨
وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً
١٠٩
قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً
١١٠
وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ ٱلذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً
١١١
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَبِٱلْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ } الآية.
لما بيَّن أن القرآن معجز قاهر دالٌّ على الصدق في قوله تعالى:
{ { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ } [الإسراء: 88].
ثم حكى عن الكفار أنَّهم لم يكتفوا بهذا المعجز، بل طلبوا أشياء أخر، ثم أجاب تعالى بأنَّه لا حاجة إلى إظهار معجزاتٍ أخر، وبيَّن ذلك بوجوهٍ كثيرةٍ:
منها: أنَّ قوم موسى آتاهم تسع آيات بيِّناتٍ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله، فكذا ههنا، أي: أنَّ المعجزات التي اقترحها قوم محمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ كفروا بها؛ فوجب إنزال عذاب الاستئصال بهم، وذلك غير جائزٍ في الحكمة؛ لعلمه تعالى أنَّ فيهم من يؤمن، أو من يظهر من نسله مؤمنٌ. لمَّا تمَّ هذا الجواب، عاد إلى حال تعظيم القرآن؛ فقال: { وَبِٱلْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ }، أي: ما أردنا بإنزاله إلاَّ إظهار الحقِّ.
قوله: { وَبِٱلْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ }: في هذا الجار ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق بـ "أنْزَلْنَاهُ"، و الباء سببية، أي: أنزلناه بسبب الحقِّ.
والثاني: أنه حال من مفعول "أنْزَلنَاهُ"، أي: ومعه الحقُّ.
فتكون الباء بمعنى "مَعَ" قاله الفارسي؛ كما تقول: نزل بعدَّته، وخرج بسلاحه.
والثالث: أنه حال من فاعله، أي: ملتبسين بالحق، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف.
والضمير في "أنْزلْنَاهُ" الظاهر عوده للقرآن: إمَّا الملفوظ به في قوله قبل ذلك
{ { عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ } [الإسراء: 88]؛ ويكون ذلك جرياً على قاعدة أساليب كلامهم، وهو أن يستطرد المتكلمُ في ذكر شيءٍ لم يسبق له كلامه أولاً، ثم يعود إلى كلامه الأول. وإمَّا للقرآن غير الملفوظ أولاً؛ لدلالة الحال عليه؛ كقوله تعالى: { { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [الدخان: 3] وقيل: يعود على موسى؛ كقوله: { { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } [الحديد: 25]، وقيل: على الوعد، وقيل: على الآيات التِّسعِ، وذكر الضمير، وأفرده؛ حملاً على معنى الدليل والبرهان.
قوله: "وبالحقِّ نَزلَ" فيه الوجهان الأولان، دون الثالث؛ لعدم ضميرٍ آخر غير ضمير القرآن لاحتمال أن يكون التقدير: نزل بالحقِّ؛ كما تقول: نزلت بزيدٍ، وعلى هذا التقدير: فالحق محمد صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها للتأكيد؛ وذلك أنه يقال: أنزلته، فنزل، وأنزلته فلم ينزل؛ فجيء بقوله "وبالحقِّ نَزلَ"؛ دفعاً لهذا الوهم، وقيل: لست للتأكيد، والمغايرة تحصل بالتغاير بين الحقَّين، فالحق الأول التوحيد، والثاني الوعد والوعيد، والمر والنهي، وقال الزمخشري: "وما أنزلنا القرآن إلاَّ بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة؛ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خيرٍ، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصدِ من الملائكةِ، وما نزل على الرسول إلاَّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين"، و "مبشِّراً ونذيراً": حالان من مفعول "أرْسلْنَاكَ" مبشراً للمطيعين، ونذيراً للعاصين، فإن قبلوا الدِّين الحقَّ، انتفعوا به، وإلا فليس عليك من كفرهم [شيءٌ].
قوله تعالى: { وَقُرْءَاناً فَرَقْنَاهُ } الآية: في نصب "قُرْآناً" أوجه:
أظهرها: أنه منصوب بفعل مقدر، أي: "وءَاتَيْناكَ قُرءَاناً" يدل عليه قوله
{ { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ } [الإسراء: 101].
الثاني: أنه منصوبٌ؛ عطفاً على الكاف في "أرْسَلْنَاكَ"؛ قال ابن عطية: "من حيثُ كان إرسالُ هذا، وإنزال هذا بمعنى واحدٍ".
الثالث: أنه منصوب؛ عطفاً على "مُبشِّراً ونذيراً" قال الفراء: "هو منصوبٌ بـ "أرْسَلناكَ"، أي: ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً؛ كما تقول: ورحمة يعني: لأن القرآن رحمةٌ"، بمعنى أنه جعل نفس القرآن مراداً به الرحمة؛ مبالغة، ولو ادَّعى ذلك على حذفِ مضافٍ، كان أقرب، أي: "وذا قرآنٍ" وهذان الوجهان متكلَّفان.
الرابع: أن ينتصب على الاشتغال، أي: وفرقنا قُرآناً فرقناه، واعتذر أبو حيان عن ذلك، أي: عن كونه لا يصحُّ الابتداء به، لو جعلناه مبتدأ؛ لعدم مسوغٍ؛ لأنه لا يجوز الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسم الابتداء، بأنَّ ثمَّ صفة محذوفة، تقديره: وقرآناً أي قرآن، بمعنى عظيم، و "فَرقْنَاهُ" على هذا: لا محل له؛ بخلاف الأوجه المتقدمة؛ فإن محلَّه النصب؛ لأنَّه نعتٌ لـ "قُرآناً".
وقرأ العامة "فَرقْناهُ" بالتخفيف، أي: بيَّنا حلاله وحرامه، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ - كرَّم الله وجهه - وأبيٌّ، وعبد الله، وابن عباس والشعبي، وقتادة، وحميدٌ في آخرين بالتشديد، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّ التضعيف فيه للتكثير، أي: فرَّقنا آياته بين أمرٍ ونهيٍ، وحكمٍ وأحكامٍ، ومواعظ وأمثال، وقصصٍ وأخبار ماضية ومستقبلة.
والثاني: أنه دالٍّ على التفريق والتنجيم.
قال الزمخشريُّ: "وعن ابن عباس: أنه قرأ مشدداً، وقال: لم ينزل في يومين، ولا في ثلاثة، بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة، يعني أنَّ "فرقَ" بالتخفيف يدل على فصل متقاربٍ".
قال أبو حيان: "وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيم - لم ينزل في يوم، ولا يومين، ولا شهرٍ، ولا شهرين، ولا سنة، ولا سنتين؛ قال ابن عبَّاس: كان بين أوله، وآخره عشرون سنة، كذا قال الزمخشريُّ، عن ابن عباس".
قال شهاب الدين: ظاهر هذا: أنَّ القول بالتنجيم: ليس مرويًّا عن ابن عباس، ولا سيما وقد فصل قوله "قَالَ ابن عبَّاسٍ" من قوله "وقال بعض من اختار ذلك"، ومقصوده أنه لم يسنده لابن عباس؛ ليتمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ "فَعَّل" بالتشديد لا يدلُّ على التفريق، وقد تقدم له معه هذا المبحث أوَّل هذا الموضوع.
قال ابن الخطيب: والاختيار عند الأئَّمة: "فَرقْنَاهُ" بالتخفيف، وفسَّره أبو عمرو: بيَّناه.
قال ابو عبيدة: التخفيف أعجبُ إليَّ؛ لأنَّ معناه: بينَّاه، ومن قرأ بالتشديد، لم يكن له معنًى إلا أنه أنزل متفرِّقاً، [فالتفرُّق] يتضمَّن التَّبيين، ويؤكِّده ما رواه ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ أنه قال: فَرقتُ، أو أفْرَقتُ بين الكلامِ، وفرَّقتُ بين الأجسامِ؛ ويدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
"البَيِّعانِ بالخِيَارِ، ما لمْ يتفرَّقا" ولم يقل: "يَفْترِقَا".
فصل في نزول القرآن مفرقاً
قال ابن الخطيب: إنَّ القوم قالوا: هَبْ أنَّ هذا القرآن معجز، إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة؛ ليظهر فيه وجه الإعجاز؛ فجعلوا إتيان الرسول به مفرَّقاً شبهة في أنَّه يتفكَّر في فصل فصل، ويقرؤه عليهم، فأجاب الله عن ذلك أنه إنَّما فرَّقه ليكون حفظه أسهل؛ ولتكون الإحاطة والوقوف على دلائله، وحقائقه، ودقائقه أكمل.
قال سعيد بن جبير: نزل القرآن كلُّه في ليلة القدر من السَّماء العليا إلى السَّماء السفلى، ثم فصل في السِّنين التي نزل فيها، ومعنى الآية: قطَّعناه آية آية، وسورة وسورة.
قوله: "لتَقْرَأهُ" متعلق بـ "فَرقْنَاهُ"، وقوله "عَلَى مُكْثٍ" فيه ثلاثةُ أوجه:
الأول: أنه متعلِّق بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الفاعل، أو المفعول في "لتَقْرَأهُ"، أي: متمهِّلاً مترسِّلاً.
الثاني: أنه بدلٌ من "عَلَى النَّاس" قاله الحوفيُّ، وهو وهمٌ؛ لأنَّ قوله "عَلى مُكثٍ" من صفاتِ القارىء، أو المقرُوءِ من جهة المعنى، لا من صفات الناس؛ حتى يكون بدلاً منهم.
الثالث: أنه متعلق بـ "فَرقنَاهُ".
قال ابو حيان: "والظاهر تعلق "عَلى مُكثٍ" بقوله "لتَقْرأهُ"، ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنسٍ واحدٍ؛ لأنه اختلف معنى الحرفين؛ لأن الأول في موضع المفعول به، والثاني في موضع الحال، أي: متمهِّلاً مترسلاً".
قال شهاب الدين: قوله أولاً: إنه متعلق بقوله "لِتقْرَأهُ": ينافي قوله في موضع الحال، لأنه متى كان حالاً، تعلق بمحذوفٍ، لا يقال: أراد التعلق المعنوي، لا الصناعي؛ لأنه قال: ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحد، وهذا تفسير إعراب، لا تفسير معنى.
والمُكْثُ: التَّطاولُ في المدة، وفيه ثلاثة لغات: الضمُّ، والفتح - ونقل القراءة بهما الحوفيُّ، وأبو البقاء - والكسر، ولم يقرأ به فيما علمتُ، وفي فعله الفتح والضمُّ وسيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى في النَّمل [الآية: 22] ومعنى "عَلى مُكْثٍ" أي على تؤدةٍ، وترسُّل في ثلاثٍ وعشرين سنة { وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } على الحدِّ المذكور.
قوله: { قُلْ ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ }: يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة؛ على وجه التَّهديد والإنكار، أي: أنَّه تعالى، أوضح البينات والدلائل، وأزاح الأعذار، فاختاروا ما تريدون.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } أي: من قبل نزول القرآن، قال مجاهد: هم ناسٌ من أهل الكتاب، كانوا يطلبون الدِّين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثمَّ أسلموا بعد مبعثه؛ كزيد بن عمرو بن نفيلٍ، وسلمان الفارسيِّ، وأبي ذرٍّ، وورقة بن نوفلٍ، وغيرهم.
{ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } يعني القرآن.
{ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً }. يعني: يسقطون للأذقان، قال ابن عباس: أراد به الوجوه.
قوله: { لِلأَذْقَانِ }: في اللام ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بمعنى "على"، أي: على الأذقان؛ كقولهم: خرَّ على وجهه.
والثاني: أنها للاختصاص، قال الزمخشري: فإن قيل: حرف الاستعلاءِ ظاهر المعنى، إذا قلت: خرَّ على وجهه، وعلى ذقنه، فما معنى اللام في "خرَّ لذقنه، ولوجهه"؟ قال: [الطويل]

3478-................ فَخرَّ صَرِيعاً للْيَديْنِ وللْفَمِ

قلت: معناه: جعل ذقنهُ، ووجههُ [للخرور]، قال الزجاج: الذَّقنُ: مجمع اللَّحيين، وكلما يبتدىء الإنسان بالخرور إلى السجود، فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذَّقنُ.
وقيل: الأذقان اللِّحى؛ فإن الإنسان، إذا بالغ في السجود، والخضوع، ربَّما مسح لحيتهُ على التُّراب؛ فإنَّ اللحية يبالغ في تنظيفها، فإذا عفَّرها بالتُّراب، فقد أتى بغايةِ التعظيم [للخُرور].
واختصَّ به؛ لأنَّ اللام للاختصاص، وقال أبو البقاء: "والثاني: هي متعلقة بـ "يَخِرُّون"، واللام على بابها، أي: مذلُّون للأذقان".
والأذقانُ: جمعُ ذقنٍ، وهو مجمعُ اللَّحيين؛ قال الشاعر: [الطويل]

3479- فَخرُّوا لأذقَانِ الوُجوهِ تَنُوشُهمْ سِباعٌ من الطَّيْرِ العَوادِي وتَنتِفُ

و "سُجَّداً" حال، وجوَّز أبو البقاء في "للأذقانِ" أن يكون حالاً، قال: "أي: ساجدين للأذقان" وكأنه يعني به "للأذْقانِ" الثانية؛ لأنَّه يصير المعنى: ساجدين للأذقان سجداً؛ ولذلك قال: "والثالث: أنها - يعني اللام - [بمعنى] "على"؛ فعلى هذا يكون حالاً من "يَبْكُونَ"، و "يَبْكُون" حال".
فإن قيل: لم قيل: يَخرُّون للأذقان سجداً، ولم يقل يسجدون؟
والجواب: أن المقصود من هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك؛ حتَّى أنهم يسقطون.
ثم قال: { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً }، أي: كان قولهم في سجودهم: "سبحان ربِّنا"، أي: ينزِّهونه، ويعظِّمونه { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } أي: بإنزال القرآن، وبعث محمد - عليه الصلاة والسلام - وهذا يدلُّ على أنَّ هؤلاء كانوا من أهل الكتاب، لأنَّ الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم، وهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد، ثم قال: { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ }.
والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين، وهما:
خُرورهُمْ في حال كونهم باكين، في حال استماع القرآن، ويدلُّ عليه قوله: { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً }.
وجاءت الحال الأولى اسماً؛ لدلالته على الاستقرار، والثانية فعلاً؛ لدلالته على التجدُّد والحدوث.
ويجوز أن يكون القول دلالة على تكرير الفعل منهم.
وقوله: "يَبْكُونَ"، معناه: الحال، { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً }، أي: تواضعاً.
قوله: { وَيَزِيدُهُمْ }: فاعل "يزيدُ": إمَّا القرآن، أو البكاءُ، أو السُّجودُ، أو المتلوُّ، لدلالة قوله: "إذَا يُتْلَى".
قوله تعالى: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } الآية.
قال ابن عباس: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة ذات ليلة، فجعل يبكي، ويقول في سجوده: (يا الله، يا رحمن). فقال أبو جهلٍ: إنَّ محمداً ينهانا عن آلهتنا، وهو يدعو إلهين، فأنزل الله هذه الآية، ومعناه: أنَّهما اسمان لواحدٍ، [أي:] أيَّ هذين الاسمين سميتم، فله الأسماءُ الحسنى.
قوله: { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ }: ["أيًّا"] منصوب [بـ "تَدْعُوا"] على المفعول به، والمضاف إليه محذوف، أي: أيَّ الاسمين، و "تَدْعُوا" مجزوم بها، فهي عاملة معمولة، وكذلك الفعل، والجواب الجملة الاسمية من قوله "فلهُ الأسْماءُ الحُسنَى". وقيل: هو محذوفٌ، تقديره: جاز، ثم استأنف، فقال: فله الأسماء الحسنى، وليس بشيءٍ.
والتنوين في "أيًّا" عوض من المضاف إليه، وفي "ما" قولان:
أحدهما: أنها مزيدة للتأكيد.
والثاني: أنها شرطية جمع بينهما؛ تأكيداً كما جمع بين حرفي الجر؛ للتأكيد، وحسَّنه اختلافُ اللفظ؛ كقوله: [الطويل]

3480- فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي عن بِمَا بِهِ ..............

ويؤيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرِّفٍ "أيًّا من تدعُوا" فقيل: "مَنْ" تحتمل الزيادة على رأي الكسائيِّ؛ كقوله: [الكامل]

3481- يَا شَاةَ من قَنصٍ لمَنْ حَلَّتْ لهُ ..................

واحتمل أن تكون شرطية، وجمع بينهما؛ تأكيداً لما تقدَّم، و "تَدعُوا" هنا يحتمل أن يكون من الدعاء، وهو النداءُ، فيتعدَّى لواحدٍ، وأن يكون بمعنى التسمية، فيتعدَّى لاثنين، إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرف الجرِّ، ثم يتسع في الجارِّ فيحذف؛ كقوله: [الطويل]

3482- دَعتْني أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو....... .................

والتقدير: قل: ادعُوا معبودكم بالله، أو بالرَّحمن، بأيِّ الاسمين سمَّيتموه، وممَّن ذهب غلى كونها بمعنى "سمَّى" الزمخشري.
ووقف الأخوان على "أيًّا" بإبدال التنوين ألفاً، ولم يقفا على "مَا"؛ تبييناً لانفصال "أيًّا" من "مَا"، ووقف غيرهما على "مَا"؛ لامتزاجها بـ "أيّ"؛ ولهذا فصل بها بين "أي"، وبين ما أضيفت إليه في قوله تعالى
{ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ } [القصص: 28]، وقيل: "ما" شرطية عند من وقف على "ايًّا"، وجعل المعنى: أي الاسمين دعوتموه به، جاز، ثم استأنف "مَا تدعوا، فله الأسماء الحسنى"، يعني أنَّ "ما" شرطٌ ثانٍ، و "فَلهُ الأسماءُ" جوابه، وجواب الأول مقدر، وهذا مردودٌ بأنَّ "ما" لا تطلق على آحاد أولي العلم، وبأنَّ الشرط يقتضي عموماً، ولا يصحُّ هنا، وبأن فيه حذف الشرط والجزاء معاً.
فصل
والمعنى: أيًّا ما تدعوا، فهو حسنٌ؛ لأنه إذا حسنت أسماؤه، فقد حسن هذان الاسمان؛ لأنهما منها، ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التَّمجيد والتَّقديس.
واحتجَّ الجبائي بهذه الآية، فقال: لو كان تعالى خالقاً للظُّلم، والجور، لصحَّ أن يقال: يا ظالمُ، حينئذٍ: يبطل ما ثبت بهذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة.
والجواب: أنَّا لا نسلِّم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد، لصحَّ وصفه بأنَّه ظالمٌ، وجائرٌ، كما لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون، والسواد، والبياض أن يقال: ما متحرك، ويا ساكن، ويا أبيض، ويا أسود.
فإن قيل: فيلزم أن يقال: يا خالق الظُّلم والجور.
فالجواب: يلزمكم أن تقولوا: يا خالق العذرات، والديدان، والخنافس؛ كما أنكم تقولون: ذلك حقٌّ في نفس الأمر، وإنَّما الأدب أن يقال: يا خالق السَّموات والأرض، فكذا قولنا ها هنا.
ثمَّ قال تعالى: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلَٰوتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }.
وروى سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبَّاس في هذه الآية، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعُ صوته بالقراءة، فإذا سمعه المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فأنزل الله تعالى: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ }، أي: بقراءتك، أي: فيسمعك المشركون؛ فيسبُّوا القرآن، ويسبُّوا الله عدواً بغير علم.
قوله: { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } فلا يسمعك أصحابك.
قوله: { وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلاً }.
روى أبو قتادة
"أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طاف باللَّيل على دور أصحابه؛ فكان أبو بكرٍ يخفي صوته بالقراءة، وكان عمر يرفعُ صوته، فلما جاء النَّهار، وجاء أبو بكرٍ وعمر، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: هِيَ لَكَ، مَررْتُ بِكَ، وأنْتَ تَقْرأ، وأنْتَ تَخفضُ من صَوتِكَ، فقال: إنِّي سَمِعتُ من نَاجَيتُ، قَالَ: فَارفَعْ قليلاً، وقَالَ لِعُمرَ: مَررْتُ بِكَ، وأنْتَ تَقْرَأ، وأنْتَ تَرْفَعُ مِنْ صَوْتِكَ، فقال: إنِّي أوقظُ الوسْنانَ، وأطردُ الشَّيطَانَ، فقال: اخْفِضْ قليلاً" .
وقيل: المراد (ولا تجهر بصلاتك كلها)، ولا تخافت بها كلها (وابتغ بين ذلك سبيلا) بأن تجهر بصلاة الليل، وتخافت بصلاة النَّهار.
وقيل: الآية في الدعاء، وهو قول أبي هريرة، وعائشة، والنخعيِّ، ومجاهدٍ، ومكحولٍ، وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية، قال: إنَّما ذلِكَ في الدُّعاءِ والمسالة.
قال عبد الله بن شدَّادٍ: كان أعرابٌ من بني تميم، إذا سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اللهم ارزقنا مالاً وولداً يجهرون، فأنزل الله هذه الآية: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلَٰوتِكَ }.
أي: لا ترفع صوتك بقراءتك، ودعائك، ولا تخافت بها.
والمُخَافتَةُ: خفض الصَّوت والسُّكوتُ.
يقل: خفت صوته يخفته خفوتاً، إذا ضعف وسكن، وصوتٌ خفيتٌ، أي: خفيضٌ.
ومنه يقال للرجل، إذا مات: قد خفت كلامه، أي: انقطع كلامه، وخفت الزَّرعُ، إذا ذبل، وخفت الرَّجل بقراءته، يتخافتُ بها، إذا لم يبيِّن قراءته برفع الصوت، وقد تخافت القوم، إذا تسارُّوا بينهم.
فصل في المستحب في الدعاء
واعلم أن الجهر بالدعاء منهيٌّ عنه، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة، والمستحبُّ التوسُّط، وهو أن يسمع نفسه؛ كما روي عن ابن مسعود: أنه قال: لم يتخافت من يسمع أذنيه.
واعلم أن العدل هو رعاية الوسط؛ كما مدح الله هذه الأمَّة بقوله:
{ { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [البقرة: 143].
ومدح المؤمنين بقوله:
{ { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67].
وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
{ { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [الإسراء: 29] فكذا ههنا: نهى عن الطَّرفين، وهما الجهر والمخافتة، وأمر بالتوسُّط بينهما، فقال: { وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلاً }.
وقال بعضهم: الآية منسوخة بقوله - تعالى -:
{ { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [الأعراف: 55].
وهو بعيدٌ.
واعلم أنه تعالى، لمَّا أمر بأن لا يذكر، ولا ينادى، إلا بأسمائه الحسنى، علَّم كيفيَّة التمجيد؛ فقال:
{ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ ٱلذُّلِّ }.
فذكر ثلاثة أنواع من صفات التنزيه والجلال:
الأول: أنه لم يتخذ ولداً، والسَّببُ فيه وجوهٌ:
أولها: أنَّ الولد هو الشيء المتولِّد من أجزاء ذلك الشيء، فكلُّ من له ولدٌ، فهو مركبٌ من الأجزاء، والمركَّب محدثٌ، والمحدث محتاجٌ؛ لا يقدر على كمال الإنعامِ؛ فلا يستحقُّ كمال الحمدِ.
وثانيها: أنَّ كل من له ولدٌ، فهو يمسك جميع النِّعم لولده، فإذا يكن له ولدٌ، أفاض كلَّ النِّعم على عبيده.
وثالثها: أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه، فلو كان له ولد، لكان منقضياً فانياً، ومن كان كذلك، لم يقدر على كمال الإنعام في جميع الأوقات؛ فوجب ألاَّ يستحقَّ الحمد على الإطلاق.
وهذه الآية ردٌّ على اليهود في قولهم
{ { عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 30]، وردٌّ على النصارى في قولهم { { ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 31] وعلى مشركي العرب في قولهم: "المَلائِكةُ بنَاتُ الله".
والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله: { وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ }.
والسَّببُ في اعتبار هذه الصفة: أنَّه لو كان له شريكٌ، فلا يعرف كونه مستحقًّا للحمد والشُّكر.
والنوع الثالث: قوله: { وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ ٱلذُّلِّ }.
والسببُ في اعتباره: أنه لو جاز عليه وليٌّ من الذلِّ، لم يجب شكره؛ لتجويز أن يكون غيره حمله على ذلك الإنعام.
أما إذا كان منزَّهاً عن الولد، وعن الشَّريك، وعن أن يكون له وليٌّ يلي أمرهُ، كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد والشُّكر.
قوله: { مَّنَ ٱلذُّلِّ }: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها صفة لـ "وليّ"، والتقدير: وليٌّ من أهل الذلِّ، و المراد بهم: اليهود والنصارى؛ لأنهم أذلُّ الناس.
والثاني: أنها تبعيضية.
الثالث: أنها للتعليل، أي: من أجل الذلِّ، وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال: "وليٌّ من الذلِّ: ناصر من الذلِّ، ومانع له منه؛ لاعتزازه به، أو لم يوالِ أحداً لأجل مذلَّة به؛ ليدفعها بموالاته".
وقد تقدَّم الفرق بين الذُّلّ والذِّلّ في أول هذه السورة [الآية: 24].
فصل في معنى قوله: { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }
معنى قوله: { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }، أي: أنَّ التمجيد يكون مقروناً بالتكبير، والمعنى: عظِّمه عن أن يكون له شريكٌ، أو وليٌّ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -
"أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى أربع: لا إله إلا الله، و الله أكبر، وسبحان الله، والحمدُ لله لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت" .
فصل
روى أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ سُورة بني إسرائيل، فَرَقَّ قَلبهُ عِندَ ذِكْر الوالدين أعْطِيَ في الجنَّة قِنْطَاريْنِ مِنَ الأجْرِ، والقِنطَارُ ألْفُ أوقيَّةٍ، ومِائتَا أوقيَّةٍ، كلُّ أوقيَّةٍ خيرٌ من الدُّنْيَا وما فِيهَا" .
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قول العبد: "الله أكبرُ خيرٌ من الدنيا وما فِيهَا" وهذه الآية خاتمة التَّوراة.
وروى مطرفٌ، عن عبد الله بْنِ كعبٍ، قال: "افتُتِحَتِ التَّوراةُ بفَاتحةِ سُورةِ الأنعامِ، وخُتمَتْ بِخاتمَةِ هذه السُّورةِ".
وروى عمرُو بنُ شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أفْصَحَ الغلام من بني عَبْدِ المطَّلبِ، عَلَّمهُ: الحَمدُ للهِ الَّذي لَمْ يتَّخذْ ولداً الآية.
وقال عبدُ الحميدِ بنُ واصلٍ: سَمعْتُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال:
"مَنْ قَرَأ: { وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } الآية، كَتبَ الله لهُ من الأجْرِ مِثلَ الأرْض والجِبالِ؛ لأنَّ الله تعالى يَقُولُ فيمَنْ زَعمَ أنَّ لهُ ولداً: { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً }" .