خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً
١٥
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

هذه الآية تدلُّ على أنَّ ثواب العمل الصَّالح مختصٌّ بفاعله، وعقاب الذنب مختصٌّ بفاعله، لا يتعدَّى منه إلى غيره، كقوله تعالى: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } [النجم: 39، 40].
قال الكعبيُّ: "الآية دالةٌ على أنَّ العبد متمكِّن من الخير والشَّر، وأنه غير مجبورٍ على فعل بعينه أصلاً؛ لأنَّ قوله تعالى جلَّ ذكرهُ: { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكِّن منه، كيف شاء وأراد، وأمَّا المجبور على أحد الطَّرفين، الممنوع من الطَّرف الثاني، فهذا لا يليق بهذه الآية" وتقدَّم الجواب. ثم إنَّه تعالى أعاد تقرير أنَّ كلَّ أحدٍ مختصٌّ بعمل نفسه، فقال تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }.
قال الزجاج: يقال: وَزَرَ يَزرُ، فهو وَازِرٌ وَوَزِرٌ وِزْراً وَزِرَة، ومعناه: أثِمَ يَأثمُ إثماً.
وقال: في تأويل الآية وجهان:
الأول: أنَّ المذنب لا يؤاخذُ بذنبِ غيره، بل كلُّ أحدٍ مختصٌّ بذنب نفسه.
والثاني: أنَّه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم؛ لأنَّ غيره عمله كقول الكفَّار:
{ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23].
فصل
دلَّت هذه الآية على أحكام:
الأول: قال الجبائيُّ: في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذِّب الأطفال بكفر آبائهم، وإلاَّ لكان الطفل يؤاخذ بذنب أبيه. وذلك خلافُ ظاهر الآية.
الثاني: روى ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنَّ المَيِّتَ ليُعذَّبُ بِبُكاءِ أهلهِ عَليْهِ" .
وطعنت عائشة - رضي الله عنها - في صحَّة هذا الخبر بهذه الآية. فإن تعذيب الميت ببكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره، وهو خلاف هذه الآية.
والحديث لا شكَّ في صحَّته؛ لأنَّه في الصحيحين.
وفي الصحيحين أيضاً عن عمر بنِ الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إنَّ الميِّت يُعذَّبُ بِبُكاءِ الحيِّ" .
وفي صحيح البخاريِّ: "المَيِّتُ يُعذَّبُ في قَبْره بِمَا نِيحَ عَليْهِ" .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّهُ مَنْ نِيحَ عليهِ يُعذَّبُ بِمَا نِيحَ عَليْهِ" .
وقال- صلوات الله وسلامه عليه -: "الميِّتُ يُعذَّبُ بِبُكاءِ الحيِّ، إذا قَالتِ النَّائِحَةُ: واعَضُداهُ، ونَاصِراهُ، وكَاسِيَاهُ حَبَّذا الميِّتُ، قيل لهُ: أنْتَ عَضُدهَا، أنْتَ نَاصرُهَا، أنْتَ كَاسِيهَا".
وفي رواية: "مَا مِنْ مَيِّتٍ يَموتُ فَيقُومُ بَاكيهم، فيقُول: واجَبلاهُ، وسنداه وأنْسَاهُ، ونحو ذلك، إلاَّ وكِّلَ به ملكان يلهَذانهِ أهكذا كُنت" اللَّهْذُ واللَّهْزُ مثل اللَّكْز والدفع.
وروى البخاريُّ عن النعمان بن بشير، قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أختهُ عمرة تبكي، وتقول: واجبلاهُ واكذا واكذا، تُعدِّدُ عليه، فقال حينَ أفَاقَ: ما قُلْت شَيْئاً إلاَّ قِيل لِي: أنْتَ كذلِكَ؟ فلمَّا مَاتَ لم تَبْك عَليْهِ.
فإن قيل: أنكرتْ عائشة وغيرها ذلك، وقالت لما ذكر لها حديث ابن عمر: يغفر الله لأبي عبد الرَّحمن، أما إنَّهُ لمْ يكذبْ ولكنَّه نَسِيَ أو أخطأ إنَّما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها، فقال صلى الله عليه وسلم:
"إنَّهُمْ لَيبْكُونَ عَليْهَا وإنَّها لتُعذَّبُ في قَبْرهَا" متَّفقٌ عليه.
ولمُسْلمٍ: إنَّما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرِ يهوديٍّ، فقال:
"إنَّه ليُعذَّبُ بِخَطيئَتهِ أو بِذنْبهِ، وإنَّ أهلَهُ ليَبْكُونَ عليْهِ الآنَ"
". وفي رواية متَّفق عليها: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله ليَزيدُ الكافر عذاباً بِبُكاءِ أهْلهِ عليْهِ" . وقالت: حسبكمُ القُرآنُ { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الإسراء: 15] وقال بعض العلماء: إنَّما هذا فيمن أوصى أن يناح عليه كما كان أهل الجاهليَّة.
والجواب أنه يجب قبول أن الحديث لا يمكن ردُّه؛ لثبوته وإقرار أعيان الصَّحابة له على ظاهره.
وعائشة - رضي الله عنها - لم تخبر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نفى ذلك، وإنَّما تأوَّلتْ على ظاهر القرآن، ومن أثبت وسمع حجة على من نفى وأنكر.
وظاهر القرآن لا حجَّة فيه؛ لأنَّ الله - تعالى - نفى أن يحمل أحد من ذنب غيره شيئاً، والميِّتُ لا يحمل من ذنب النائحة شيئاً، بل إثمُ النَّوح عليها، وهو قد يعذَّب من جهة أخرى بطريق نوحها، كمن سنَّ سنَّة سيئة، مع من عمل بها، ومن دعا إلى ضلالة، مع من أجابه.
والحديث الذي روتهُ حديثٌ آخر لا يجوز أن يردَّ به خبر الصَّادق؛ لأنَّ القوم قد يشهدون كثيراً ممَّا لا تشهد، مع أنَّ روايتها تحقِّق ذلك الحديث؛ فإنَّ الله - تعالى - إذا جاز أن يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله، جاز أن يعذِّب الميت ابتداء ببكاء أهله.
ثم في حديث ابن رواحة وغيره ممَّا تقدَّم ما ينصُّ على أن ذلك في المسلم؛ فإنَّ ابن رواحة كان مسلماً، ولم يوص بذلك، ثمَّ إنَّ الصحابة الذين رووه، لو فهموا منه الموصي، لما عجبوا منه، وأنكره من أنكره؛ فإنَّ من المعلوم أنَّ من أمر بمنكرٍ، كان عليه إثمه، ولو كان ذلك خاصًّا بالموصِي، لما خص بالنَّوح، دون غيره من المنكراتِ، ولا بالنَّوح على نفسه، دون غيره من الأموات.
وقال بعض العلماء: لمَّا كان الغالب على النَّاس النَّوح على الميِّت، وهو من أمور الجاهليَّة التي لا يدعونها في الاسلام، ولا يتناهى عنها أكثر النَّاس خرِّج الحديث على الأعمِّ الأغلب فيمن لم ينه عن النَّائحة، وهي عادة النَّاس، فيكون تركهُ للنَّهي مع غلبةِ ظنِّه بأنَّها تفعل إقراراً للمنكرِ وتركاً لإنكاره، فيعذب على ما تركه من الإنكار، ورضي به من المنكر، وأما من نهى عنه، وعصي أمره، فالله أكرم من أن يعذِّبه.
قال ابن تيمية: وهذا قريبٌ. وأجود منه، إن شاء الله - تعالى - أن العذاب على قسمين:
أحدهما: ألمٌ وأذى يلحقُ الميِّت بسبب غيره، وإن لم يكن من فعله؛ كما يلحق أهل القبُور من الأذى بمجاورة الجارِ السيّىء، وبالأعمال القبيحة عند القبور، والجلوس على القبر، أو التغوُّط عليه، إلى غير ذلك من الأشياء التي يتألَّم الإنسانُ بها حيًّا وميتاً، وإن لم تكن من فعله. فهذا الميِّت لما عصي الله بسببه، ونيح عليه، لحقهُ عذابٌ وألمٌ من هذه المعصية.
قال القاضي: سُئِلتُ عن ميِّتٍ دفن في داره، وبقُربِ قبره أولاد يشربون ويستعملون آلة اللَّهْو، هل يتأذَّى الميِّت؟.
فأجبت: أنَّه يتأذَّى.
وروى بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إنَّ المَيِّتَ يُؤذِيهِ في قَبْرهِ ما يُؤذِيهِ في بَيْتهِ" .
وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنه -: إذا مات لأحدكم الميِّت، فأحسنوا كفنه، وعجَّلوا إنفاذ وصيته، وأعمقوا له في قبره، وجنِّبُوهُ جار السُّوءِ.
قيل: يا رسُول الله: وهَلْ يَنفَعُ الجَارُ الصَّالحُ في الآخرة؟ قال: وهَلْ يَنْفَعُ في الدُّنيا؟ قالوا: نَعَمْ، قال: وكَذلِكَ يَنْفَعُهُ في الآخِرَةِ.
الثاني: أنَّ طبع البشر يُحِبُّ في حياته أن يبكى عليه بعد موته؛ لما فيه من الشَّرف والذِّكر، كما يحبُّ أن يثنى عليه، ويذكر بما يحبُّ، وكما يحبُّ أن يكون المالُ والسلطان لعقبه، وإن أيقن أنَّه لا لذَّة له بذلك بعد الموت، فعوقب بنقيض هذه الإرادة من عذاب النَّوح والبكاء؛ ليعلم النَّاس بذلك، فيتناهون عن هذه أو يكرهونه، فمن لم يكره النَّوح والبكاء، فهو باقٍ على موجب طبعه، ومن كرهه، كانت تلك الكراهةُ مانعة من لُحوقِ الذمِّ به.
الثالث: قال القاضي: دلَّت هذه الآية على أنَّ الوزْرَ والإثم ليس من فعل الله - تعالى -، وذلك من وجوهٍ:
أحدها: أنه لو كان كذلك، لامتنع أن يؤاخذ العبد به، كما لا يؤاخذ بوزْرِ غيره.
وثانيها: أنَّه كان يحبُّ ارتفاع الوِزْرِ أصلاً؛ لأنَّ الوزر إنَّما يصحُّ أن يوصف بذلك، إذا كان مختاراً يمكنه التحرُّز، ولهذا المعنى لا يوصف الصَّبيُّ بذلك.
الرابع: أن جماعة من الفقهاء المتقدِّمين امتنعوا من ضرب الدِّية على العاقلة، قالوا: لأنَّ ذلك يفضي إلى مؤاخذة الإنسان بفعل الغير، وذلك مضادٌ لهذه الآية.
ونجيب عنها بأنَّ المخطىء [غير مؤاخذٍ] على ذلك الفعل، فكيف يصير غيره مؤاخذاً بسبب ذلك الفعل، بل ذلك تكليفٌ واقعٌ ابتداءً من الله تعالى.
ثم قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }.
إقامة للحجَّة وقطعاً للعذر.
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ وجوب شكر النِّعم لا يثبت بالعقل، بل بالسمع؛ كقوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }.
وذلك لأنَّ الوجوب لا يتقرَّر إلاَّ بترتيب العقاب على التَّرك، ولا عقاب قبل الشَّرع بهذه الآية، وبقوله تعالى:
{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [النساء: 165].
وقوله تعالى:
{ { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } [طه: 134].
ولقائل أن يقول: هذا الاستدلالُ ضعيف من وجهين:
الأول: أنه لو لم يثبت الوجوب العقليُّ، لم يثبت الوجوب الشرعيُّ ألبتة، وهذا باطل.
فذلك باطل، وبيان الملازمة من وجوهٍ:
أنه إذا جاء الشَّارع، وادعى كونه نبيًّا من عند الله - تعالى - وأظهر المعجزة، فهل يجب على المستمع استماعُ قوله، والتأمُّل في معجزاته، أو لا يجب؟.
فإن وجب بالعقل، فقد ثبت الوجوب العقليُّ، وإن وجب بالشَّرع، فهو باطلٌ؛ لأنَّ ذلك الشارع إمَّا أن يكون هو ذلك المدَّعي أو غيره، والأول باطلٌ؛ لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أنَّ ذلك الرجل يقول: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقوله. وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان الشَّارع غيره، كان الكلام كما في الأول، ولزم الدَّور والتَّسلسل، وهما محالان.
وثانيها: أنَّ الشَّارع، إذا جاء، وأوجب بعض الأفعال، وحرَّم بعضها، فلا معنى للإيجاب أو التَّحريم إلا أن يقول: إن تركت كذا، أو فعلت كذا، عاقبتك، فنقول: إمَّا أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب، وذلك الاحترازُ إمَّا أن يجب بالعقل، أو بالسَّمعِ، فإن وجب بالعقل، فهو المقصود، وإن وجب بالسَّمع، لم يتقرَّر معنى هذا الوجوب إلاَّ بسبب ترتيب العقاب عليه، وحينئذٍ يعود التقسيمُ الأول، ويلزم التسلسل.
وثالثها: أنَّ مذهب أهل السنَّة أنه يجوز من الله - تعالى - أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب، وإذا كان كذلك ماهية الوجوب حاصلة، مع عدم العقاب، فلم يبق إلاَّ أن يقال: ماهية الوجوب إنَّما تتقرَّر بسبب حصول الخوف من الذَّم والعقاب؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّ الوجوب العقليَّ لا يمكن دفعه، وإذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان:
الأول: أن نجري الآية على ظاهرها، ونقول: العقل هو رسول الله إلى الخلق، بل هو الرسول الذي لولاه، لما تقرَّرت رسالةُ أحدٍ من الرُّسل.
فالعقل هو الرسول الأصليُّ، فكان معنى الآية: حتى نبعث رسولاً؛ أي رسول العقل.
والثاني: أن نخصِّص عموم الآية، فنقول: المراد وما كنا معذِّبين حتَّى نبعث رسولاً أي رسول العقل في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلاَّ بالشَّرع لا بعد مجيء الشرع، وتخصيص العموم وإن كان عدولاً عن الظاهر إلاَّ أنه يجب المصير إليه عند قيام الدَّلالة، وقد بينا قيام الدلائل الثلاثة على أنا لو نفينا الوجوب العقلي، لزمنا نفي الوجوب الشرعيِّ.
قال ابن الخطيب: والذي نذهبُ إليه: أن مجرَّد العقل يدلُّ على أنه يجب علينا فعل ما ينتفع به، وتركُ ما يتضرَّر به؛ لأنَّا مجبولون على طلب النفع، والهرب من الضَّرر، فلا جرم: كان العقل وحده كافياً في الوجوب في حقِّنا، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء، وذلك لأنه منزَّه عن طلب النفع، والهرب من الضَّرر، فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعلٍ أو تركه.