خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً
٣
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ }.
العامَّة على نصب "ذريَّة" وفيها أوجه:
أحدها: انها منصوبةٌ على الاختصاص، وبه بدأ الزمخشري.
الثاني: أنَّها منصوبة على البدل من "وكيلاً"، أي: ألاَّ تتخذوا من دوني ذرية من حملنا.
الثالث: أنها منصوبة على البدل من "مُوسَى" ذكره أبو البقاء، وفيه بعدٌ.
الرابع: أنها منصوبة على المفعول الأول لـ "تتخذوا" والثاني هو "وكيلاً" فقدِّم، ويكون "وكيلاً" ممَّا وقع مفرد اللفظ، والمعنيُّ به جمعٌ، أي: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلاً كقوله:
{ { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً } [آل عمران: 80].
الخامس: أنها منصوبة على النداء، أي: يا ذرية من حملنا، وهو قول مجاهد وخصَّ الواحديُّ هذا الوجه بقراءة الخطاب في "تتَّخذوا" وهو واضحٌ عليها، إلا أنه لا يلزم، وإن كان مكيٌّ قد منع منه؛ فإنه قال: "فأمَّا من قرأ "لا يتخذوا" بالياء فـ "ذرية" مفعول لا غير، ويبعد النداء؛ لأن الياء للغيبة، والنداء للخطاب، فلا يجتمعان إلا على بعدٍ" وليس كما زعم؛ إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصاً، ويخبر عن آخر، فيقول: "يَا زيْدُ، يَنطلِقُ بَكْرٌ، وفعَلتَ كذا" و "يَا زَيْدُ لِيفْعَلْ عَمرٌو كَيْتَ وكَيْتَ".
السادس: قال مكيٌّ: وقيل: نصب على إضمار "أعْني". وقرأت فرقة "ذُريَّةُ" بالرفع، وفيها وجهان:
أحدهما: أنها خبر مبتدأ مضمرٍ تقديره: هم ذريَّة، ذكره أبو البقاء وليس بواضحٍ.
والثاني: أنها بدل من واو "تتخذوا" قال ابن عطية: "ولا يجوز ذلك في القراءة بالتاء، لأنك لا تبدل من ضمير المخاطب، لو قلت: "ضَربْتُكَ زيداً" على البدل، لم يجزْ".
وردَّ عليه أبو حيَّان هذا الإطلاق، وقال: "ينبغي التفصيل، وهو إن كان بدل بعض أو اشتمال، جاز، وإن كان كلاًّ من كلٍّ، وأفاد الإحاطة؛ نحو: "جِئْتُم كَبِيرُكم وصَغِيركُمْ" جوَّزه الأخفش والكوفيون".
قال: "وهو الصحيح".
قال شهاب الدين: وتمثيل ابن عطيَّة بقوله "ضَربْتُكَ زيْداً" قد يدفع عنه هذا الرَّد.
وقال مكيٌّ: "ويجوز الرفع في الكلام على قراءة من قرأ بالياء على البدل من المضمر في "يَتَّخذوا" ولا يحسن ذلك في قراءة التاء؛ لأنَّ المخاطب لا يبدل منه الغائب، ويجوز الخفض على البدل من بني إسرائيل".
قال شهاب الدِّين: أمَّا الرفع، فقد تقدَّم أنه قرىء به، وكأنه لم يطَّلعْ عليه، وأمَّا الجرُّ فلم يقرأ به فيما علمت، ويرد عليه في قوله "لأنَّ المخاطب لا يبدل منه الغائب" ما ورد على ابن عطيَّة، بل أولى؛ لأنه لم يذكر مثالاً يبيّن مراده، كما فعل ابن عطيَّة.
قوله: { مَنْ حَمَلْنَا }: يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة.
قال قتادة: النَّاسُ كلُّهم ذرية نوح - عليه السلام - لأنَّه كان معه في السَّفينةِ ثلاث بنينَ: سَام وحَام ويَافث، والناس كلُّهم من ذريَّة أولئك، فكأن قوله: يا ذرية من حَملْنَا مَع نُوحٍ قام مقام
{ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } [البقرة: 21].
وهذا يدلُّ على أنه ذهب إلى أنه منصوبٌ على النداء، وقد تقدَّم نقله عن مجاهدٍ أيضاً.
ثم إنه تعالى أثنى على نوح، فقال: { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } أي: كثير الشُّكرِ،
"روي أنه - عليه السلام - كان إذا أكل قال: الحَمْدُ للهِ الَّذي أطْعَمنِي، ولو شَاءَ لأجَاعَنِي، وإذَا شَرِبَ، قَالَ الحَمْدُ للهِ الَّذي أسْقانِي ولَوْ شَاءَ لأظْمَأنِي، وإذا اكتسى، قال: الحَمدُ للهِ الَّذي كَسانِي، ولو شَاءَ أعْرَانِي، وإذا احْتَذَى، قال: الحَمْدُ للهِ الَّذي حَذانِي، ولوْ شَاءَ أحْفَانِي، وإذَا قَضَى حاجَتهُ، قال: الحَمْدُ للهِ الَّذي أخْرجَ عنِّ الأذى في عَافيةٍ، ولوْ شَاءَ حَبَسهُ" .
ورُوِيَ أنه كان إذا أراد الإفطار، عرض طعامهُ على من آمن به فإن وجده محتاجاً، آثرهُ به.
فإن قيل: ما وجه ملائمةِ قوله: { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } بما قبله؟ فالجواب: التقدير: كأن قيل: لا تَتَّخذُوا من دوني وكيلاً، ولا تشركوا بي؛ لأنَّ نوحاً - عليه السلام - كان عبداً شكوراً، وإنما يكون شكوراً، إذا كان موحِّداً لا يرى حصول شيءٍ من النعم إلاَّ من فضل الله، وأنتم ذرية قومه، فاقتدوا بنوحٍ، كما أن آباءكم اقتدوا به.