خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
٣٦
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

لمَّا شرح الأوامر الثلاثة، عاد بعده إلى ذكرِ النَّواهي، فنهى عن ثلاثةِ أشياء، أولها: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } العامَّة على هذه القراءة، أي: لا تتَّبعْ، من قفاه يقفوه إذا تتبَّع أثره، قال النابغة: [الطويل]

3417- ومِثلُ الدُّمى شمُّ العرانينِ ساكنٌ بِهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا

وقال الكميت: [الوافر]

3418- فَلا أرْمِي البَرِيءَ بِغيْرِ ذَنبٍ ولا أقًفُو الحَواصِنَ إنْ قُفينَا

وقرأ زيد بن عليٍّ: "ولا تَقْفُو" بإثبات الواو، وقد تقدَّم في قراءة قنبل في قوله تعالى: { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } [يوسف: 90] أن إثبات حرف العلَّة جزماً لغة قومٍ، وضرورة عند غيرهم، كقوله:

3419-................... مِنْ هَجْوِ زبَّان لمْ تَهْجُو ولمْ تَدعِ

وقرأ معاذ القارئ "ولا تَقُفْ" بزنةِ تقلْ، من قاف يقُوفُ، أي: تتبَّع أيضاً، وفيه قولان:
أحدهما: أنه مقلوبٌ؛ من قَفَا يَقْفُو.
والثاني - وهو الأظهر-: أنه لغة مستقلة جيدة؛ كجبذ وجذبَ؛ لكثرة الاستعمالين؛ ومثله: قعا الفحل الناقة وقاعها.
والباء في "به" متعلقةٌ بما تعلَّق به "لَكَ" ولا تتعلق بـ "عِلمٌ" لأنه مصدر، إلا عند من يتوسَّع في الجارِّ.
قوله تعالى: { وَٱلْفُؤَادَ } قرأ الجرَّاحُ العقيلي بفتح الفاء واوٍ خالصةٍ، وتوجيهها: أنه أبدل الهمزة واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدل، لأنَّها لغة في الفؤاد، يقال: فؤاد وفآدٌ، وأنكر أبو حاتمٍ هذه القراءة، وهو معذور.
فصل
يقال: قَفوْتُ أثر فلانٍ أقْفُو قَفْواً، إذا تتبَّعتَ أثره، وسُمِّيت قافية الشِّعر قافية؛ لأنَّ البيت يقفو البيت، وسمِّيت القبيلة المشهورة بالقافة؛ لأنَّهم يتَّبعون آثار أقدام النَّاسِ، ويستدلُّون بها على أحوال الإنسان.
وقال تعالى:
{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا } [الحديد: 27].
وسمِّي القفا قفاً؛ لأنه مؤخر بدنِ الإنسان ووراءه، كأنه شيء يتبعه ويقفوه.
فقوله: "ولا تَقْفُ" أي: لا تتَّبعْ ما لا علم لك به، من قول أو فعلٍ، فهو نهيٌ عن الحكم بما لا يكون معلوماً، وهذه قضية كليةٌ يندرجُ تحتها أنواعٌ كثيرةٌ، وكل واحدٍ من المفسِّرين حمله على واحدٍ من تلك الأنواع، فقيل: المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم؛ لأنَّه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتِّباع الهوى، فقال تعالى:
{ { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [النجم: 23].
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ } [النجم:23].
وقال في إنكارهم البعث
{ { بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } [النمل: 66].
وحكى عنهم أنَّهم قالوا:
{ { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [الجاثية: 32].
وقال:
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ } [القصص: 50].
وقال عزَّ وجلَّ:
{ { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } [النحل: 116].
وقال:
{ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } [الأنعام: 148].
وقال محمد ابن الحنفيَّة: المراد منه شهادة الزُّور.
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه -: لا تشهد إلاَّ بما رأته عيناك، وسمعته أذناك، ووعاهُ قلبك.
وقيل: المراد النَّهيُ عن القذف، وقيل: المراد النهي عن الكذبِ.
قال قتادة: لا تقل: سمعت، ولم تسمعْ، ورأيتُ، ولم تَرَ، وعلمتُ، ولم تعلمْ.
وقيل: القَفْوُ: هو البهت، وأصله من القَفَا؛ كأنه يقال: خلفه، وهو في معنى الغيبة. واللفظ عامٌّ يتناولُ الكلَّ، فلا معنى للتقييد.
فصل في الرد على نفاة القياس
احتجَّ نفاةُ القياسِ بهذه الآية، قالوا: القياسُ لا يفيدُ إلاَّ الظنَّ، والظَّن مغاير للعلم، فالحكم في دين الله تعالى بالقياس حكمٌ بغير العلم؛ فوجب ألا يجوز لقوله تعالى { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }.
وأجيب عنه بوجوه:
الأول: أن الحكم في الدِّين بمجرَّد الظنِّ جائزٌ بإجماع الأمَّة في صورٍ كثيرةٍ:
منها: العمل بالفتوى عملٌ بالظنِّ.
ومنها: العمل بالشهادة عملٌ بالظَّنِّ.
ومنها: الاجتهاد في القبلة عمل بالظنِّ.
ومنها: قيم المتلفات، وأروش الجنايات عملٌ بالظنِّ.
ومنها: الفصدُ، والحجامةُ، وسائر المعالجات؛ بناءً على الظنِّ.
ومنها: كون هذه الذَّبيحةِ ذبيحة مسلمٍ مظنون.
ومنها: الحكمُ على الشَّخص المعيَّن بكونه مؤمناً مظنونٌ، ثم يبنى على هذا الظنِّ أحكام كثيرة، كالتوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرهما.
ومنها: الأعمال المعتبرةُ في الدنيا من الأسفار، وطلب الأرباح، والمعاملات إلى الآجالِ المخصوصة، والاعتماد على صداقةِ الأصدقاء، وعداوة الأعداء كلِّها مظنونةٌ، وبناء الأمر على هذه الظنون جائزٌ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -:
"نَحْنُ نَحْكمُ بالظَّاهر والله يتولَّى السَّرائِر"
وذلك تصريح بأنَّ الظنَّ معتبر في هذه الأنواع، فبطل القول بأنه لا يجوز العمل بالظنِّ.
الثاني: أنَّ الظنَّ قد يسمَّى بالعلم؛ قال تعالى:
{ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ } [الممتحنة: 10].
ومن المعلوم أنَّه إنما يمكن العلم بإيمانهنَّ؛ بناء على إقرارهن، وهذا لا يفيد إلاَّ الظنَّ، وقد سمَّى الله تعالى الظنَّ ها هنا علماً.
الثالث: أنَّ الدليل القاطع، لما دلَّ على وجوب العمل بالقياس، كان ذلك الدليل دليلاً على أنَّه متى حصل ظنُّ أنَّ حكم الله في هذه الصُّورة يساوي حكمه في محلِّ النصِّ، فأنتم مكلَّفُون بالعمل على وفق ذلك الظنِّ، فها هنا الظن وقع في طريق الحكم، فأمَّا الحكم، فهو معلومٌ متيقَّن.
أجاب نفاةُ القياس عن الأول؛ فقالوا:
قوله عزَّ وعلا: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } دخله التخصيصُ في الصُّور العشرة المذكورة، فيبقى العموم حجة فيما وراءها، ثم نقول: الفرق بين هذه الصور وبين محلِّ النِّزاع أنَّ هذه الصور العشر مشتركة في أنَّ تلك الأحكام مختصَّة بأشخاصٍ معينين في أوقات معيَّنة؛ فإنَّ الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعيَّن إلى الفتى المعيَّن واقعة متعلقة بذلك الشخص المعيَّن، وكذا القول في الشَّهادة وفي طلب القبلة، وفي سائر الصور؛ والتنصيص على وقائع الأشخاص المعنيين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له، فلهذه الضرورة؛ اكتفينا بالظنِّ، أما الأحكام المثبتة، فهي أحكامٌ كليةٌ معتبرةٌ في وقائعِ كلية، وهي مضبوطة، والتنصيص عليها مكنٌ، ولذلك فإنَّ الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها، وذكروها في كتبهم.
إذا عرف هذا، فنقول: التنصيصُ على الأحكام في الصُّور العشر التي ذكرتموها غير ممكنٍ، فلا جرم: اكتفى الشَّارع فيها بالظنِّ، أما المسائلُ المثبتة بالطرق القياسيَّة فالتنصيصُ عليها ممكنٌ، فلا يجوز الاكتفاءُ فيها بالظنِّ، فظهر الفرقُ.
وقولهم: الظنَّ قد يسمَّى علماً، فهذا باطلٌ؛ فإنه يصحُّ أن يقال: هذا مظنونٌ، وغير معلوم، وهذا معلومٌ، وغير مظنونٍ، فدلَّ على حصول المغايرة، فيدلُّ عليه قوله تعالى:
{ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } [الأنعام: 148] نفى العلم، وأثبت الظنَّ، وذلك يدلُّ على المغايرة.
وأما قوله تعالى:
{ { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [الممتحنة: 10] فالمؤمن هو المقر، وذلك الإقرار معلوم.
وأمَّا الجوابُ عن الثالث، فنقول: الكلام إنَّما يتمُّ لو ثبت أن القياس حجَّة بدليل قاطع، وذلك باطل؛ لأنَّ القياس وهو الذي يفيد الظنَّ لا يجب عقلاً أن يكون حجة؛ لأنه لا نزاع أنَّه يصحُّ من الشَّرع أن يقول: نهيتكم عن الرجوع إلى القياسِ، ولو كان كونه حجَّة أمراً عقلياً، لامتنع ذلك.
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ الدليل النقليَّ في كون القياس حجَّة، إنما يكون قطعيًّا؛ إذ لو كان منقولاً نقلاً متواتراً، كانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعيَّة غير محتملة للتخصيص، ولو حصل مثل هذا الدليل، لوصل إلى الكلِّ، ولعرفه الكلُّ، ولارتفع الخلاف، وحيث لم يكن كذلك، علمنا أنَّه لم يحصل في هذه المسألة دليلٌ سمعيٌّ قاطعٌ، فثبت أنَّه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطعٌ ألبتة، فبطل قولكم: كون الحكم المثبتِ بالقياس حجَّة معلومٌ لا مظنونٌ.
قال ابن الخطيب: وأحسن ما يمكن أن يجاب عنه أن يقال: التمسُّك بهذه الآية الَّتي عولتم عليها تمسُّك بعامٍّ مخصوص، والتمسُّك بالعامِّ المخصوصِ لا يفيد إلاَّ الظنَّ، فلو دلَّت هذه الآية على أنَّ التمسُّك بالظنِّ غير جائز، لدلَّت على أن التمسُّك بهذه الآية غير جائز، فالقول بكون هذه الآية حجَّة يفضي ثبوته إلى نفيه، فكان تناقضاً، فسقط الاستدلال به.
وللمجيب أن يجيب عنه، فيقول: نعلم بالتواتر الظَّاهر من دين محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أنَّ التمسُّك بآياتِ القرآنِ حجَّة في الشريعة، ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العامِّ المخصوص حجَّة غير معلومٍ بالتواتر.
قوله تعالى: { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً }.
قوله تعالى: "أولئك" إشارة إلى ما تقدَّم من السمع، والبصر، والفؤاد؛ كقوله: [الكامل]

3420- ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى والعَيْشَ بعْدَ أولئِكَ الأيَّامِ

فـ "أولئكَ" يشارُ به إلى العقلاء وغيرهم من الجموع، واعتذر ابن عطيَّة عن الإشارة به لغير العقلاءِ، فقال: وعبَّر عن السَّمعِ، والبصرِ، والفؤاد بـ "أولئك" لأنها حواسٌّ لها إدراكٌ، وجعلها في هذه الآية مسئولة؛ فهي حالة من يعقل؛ ولذلك عبَّر عنها بكناية من يعقل، وقد قال سيبويه -رحمه الله - في قوله تعالى: { { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف: 4] إنما قال "رَأيْتهُم" في نجوم؛ لأن لمَّا وصفها بالسجود - وهو فعلُ من يَعْقِلُ - عبَّر عنها بكناية من يعقل، وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّرُ عمَّن يعقلُ وعمَّن لا يعقل بـ"أولئِكَ" وأنشد هو والطبريُّ: [الكامل]

3421- ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى والعَيْشَ بعْدَ أولئِكَ الأيَّامِ

وأمَّا حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأمَّا البيت فالرواية فيه "الأقوامِ" ولا حاجة إلى هذا الاعتذار لما عرفت، وأما قوله: "إنَّ الرواية: الأقوَامِ" فغير معروفةٍ والمعروفُ إنما هو "الأيَّامِ".
قوله: "كُلُّ أولَئِكَ" مبتدأ، و الجملة من "كَانَ" خبره، وفي اسم "كان" وجهان:
أحدهما: أنه ضمير عائد على "كلُّ" باعتبار لفظها، وكذا الضمير في "عَنْهُ" و "عَنْهُ" متعلق بـ "مَسْئُولاً" و "مَسْئُولاً" خبرها.
والثاني: أنَّ اسمها ضمير يعود على القافي، وفي "عَنْه" يعود على "كُلُّ" وهو من الالتفات؛ إذ لو جرى على ما تقدَّم، لقيل: كُنْتَ عنه مسئولاً، وقال الزمخشري: و "عَنْهُ" في موضع الرفعِ بالفاعلية، أي: كل واحدٍ كان مَسْئولاً عنه، فَمسئُول مسند إلى الجار والمجرور؛ كالمغضوب في قوله
{ { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [الفاتحة: 7] انتهى. وفي تسميته مفعول ما لم يسمَّ فاعله فاعلاً خلاف الاصطلاح.
وقد ردَّ أبو حيَّان عليه قوله: بأنَّ القائم مقام الفاعل حكمه حكمه، فلا يتقدَّم على رافعه كأصله، وليس لقائلٍ أن يقول: يجوز على رأي الكوفيِّين؛ فإنهم يجيزون تقديم الفاعل؛ لأن النحَّاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل، إذا كان جارًّا أو مجروراً، فليس هو نظير قوله { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } فحينئذٍ يكون القائم مقام الفاعل الضمير المستكنَّ العائد على "كُلُّ" أو على القافي.
فصل في ظاهر الآية
ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ الجوارح مسئولةٌ، وفيه وجوهٌ:
الأول: معناه أنَّ صاحب السَّمع، والبصر، والفؤاد هو المسئُول؛ لأنَّ السؤال لا يصحُّ إلاَّ من العاقل، وهذه الجوارح ليست كذلك، بل العاقل الفاهم هو الإنسانُ، فهو كقوله:
{ وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف:82] والمراد أهلها، والمعنى أن يقال للإنسان: لم سمعت ما لا يحلُّ سماعه، ولم نظرت إلى ما لا يحلُّ لك نظره، ولم عزمت على ما لا يحلُّ لك العزم عليه.
والثاني: أن أولئك الأقوام كلهم مسئولون عن السمع، والبصر، والفؤاد، فيقال لهم: استعملتم السمع فيماذا، أفي الطاعة، أو في المعصية؟ وكذلك القولُ في بقيَّة الأعضاء، وذلك؛ لأنَّ الحواسَّ آلاتُ النَّفس، والنَّفسُ كالأمير لها، والمستعمل لها في مصالحها، فإن استعملها في الخيرات، استوجب الثواب، وإذا استعملها في المعاصي، استحقَّ العقاب.
والثالث: أنه تعالى يخلقُ الحياة في الأعضاء، ثمَّ إنها تسألُ؛ لقوله تعالى:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24] فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل، والحياة، و النطق في هذه الأعضاء، ثمَّ إنَّها تسأل.
رُوي عن شكل بن حميدٍ -رحمه الله - قال:
"أتَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسُول الله، علِّمْنِي تعويذاً، أتعوَّذ به، فأخذ بيدي، ثم قال: قُل اللَّهُمَّ؛ أعُوذُ بِكَ من شرِّ سمعي، وشرِّ بصري، وشرِّ لسَانِي، وشرِّ قلبي، وشرِّ مَنِيِّي" قال فحفظتها.
قال سعيد: والمنيُّ ماؤه.