خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
٥٥
قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً
٥٦
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً
٥٧
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ }: في هذه الباءِ قولان:
أشهرهما: أنها تتعلق بـ "أعْلَمُ" كما تعلَّقت الباء بـ "أعْلَمُ" قبلها، ولا يلزمُ من ذلك تخصيص علمه بمن في السماوات والأرض فقط.
والثاني: أنها متعلقة بـ "يَعْلَمُ" مقدَّراً، قاله الفارسيُّ، محتجًّا بأنَّه يلزمُ من ذلك تخصيصُ علمه بمن في السماوات والأرض، وهو وهمٌ؛ لأنَّه لا يلزمُ من ذكر الشيء نفيُ الحكم عمَّا عداه، وهذا هو الذي يقول الأصوليُّون: إنه مفهومُ اللَّقبِ، ولم يقل به إلاَّ أبو بكرٍ الدَّقَّاق في طائفة قليلة.
فصل
معنى الآية أنَّ علمه غير مقصورٍ عليكم، ولا على أحوالكم، بل علمه متعلِّق بجميع الموجودات والمعدومات، وبجميع ذرَّات الأرضين، والسَّموات، فيعلم حال كلِّ أحد، ويعلم ما يليقُ به من المصالح والمفاسد، ولهذا جعلهم مختلفين في صورهم، وأحوالهم، وأخلاقهم، وفضَّل بعض النبيين على بعضٍ، وآتى موسى التوراة، وداود الزَّبُور، وعيسى الإنجيل، ولم يبعد أيضاً أن يؤتي محمَّداً صلى الله عليه وسلم القرآن مع تفضيله على الخلق.
فإن قيل: ما السَّبب في تخصيص داود بالذكر هاهنا؟.
فالجواب من وجوهٍ:
الأول: أنَّه تعالى ذكر أنَّه فضَّل بعض النَّبيِّينَ على بعض، ثم قال: { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } يعني أنَّ داود آتاه ملكاً عظيماً، ثم إنَّه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك، وذكر ما آتاه من الكتب؛ تنبيهاً على أنَّ التفضيل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدِّين، لا بالمال.
والثاني: أنَّ تخصيصه بالذِّكر أنَّه تعالى كتب في الزَّبُور أن محمَّداً خاتم الأنبياء، وأنَّ امَّة محمد خيرُ الأمم - صلوات الله وسلامه عليه -.
قال تعالى:
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } [الأنبياء: 105] وهم محمد وأمته.
فإن قيل: هلا عرفه كقوله: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ }.
فالجواب أن التنكير ها هنا يدل على تعظيم حاله؛ لأن الزبور عبارة عن المزبور، فكان معناه الكتاب، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً.
ويجوز أن يكون "زبور" علماً، فإذا دخلت عليه "أل" كقوله: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ } كانت للمْحِ الأصل كعبَّاس والعباس، وفضل والفضل.
وقيل: نكَّره هنا دلالة على التبعيض، أي: زبُوراً من الزُّبر، أو زبوراً فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق على القطعة منه زبورٌ، كما يطلق على بعض القرآن، قرآن.
الثالث: أنَّ السَّبب في تخصيص داود - صلوات الله عليه - أنَّ كفار قريش ما كانوا أهل نظرٍ وجدلٍ، بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشُّبهات، واليهود كانوا يقولون: لا نبيَّ بعد موسى، ولا كتاب بعد التَّوراة، فنقض الله عليهم كلامهم بإنزالِ الزَّبُور على داود، وتقدَّم خلافُ القراء في الزبور في آخر سورة النساء.
قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم }: مفعولا الزَّعم محذوفان؛ لفهم المعنى، أي: زعمتموهم آلهة، وحذفهما اختصاراً جائزٌ، واقتصاراً فيه خلاف.
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون: إن المشركين أصابهم قحطٌ شديدٌ؛ حتَّى أكلوا الكلاب والجيفَ واستغاثوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم، قال الله تعالى { قُلِ } للمشركين { ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم } أنها آلهة من دونه.
واعلم أنه ليس المراد الأصنام؛ لأنَّه تعالى قال في صفتهم:
{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [الإسراء: 57]
وابتغاءُ الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتَّة، وإذا ثبت هذا، فنقول: إنَّ قوماً عبدوا الملائكة، فنزلت هذه الآية فيهم.
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه ومجاهدٌ: إنَّها نزلت في الذين عبدوا المسيح، وعزيراً، والملائكة، و الشمس، والقمر، والنجوم.
وقيل: إنَّ قوماً عبدوا نفراً من الجنِّ، فأسلم النَّفر، وبقي أولئك الناس متمسِّكين بعبادتهم، فنزلت فيهم الآية.
قال ابن عباس: كل موضعٍ في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم، فهو كذبٌ. ثم إنَّه تعالى احتجَّ على فساد مذهب هؤلاء بأنَّ الإله المعبود هو القادر على إزالةِ الضرر، وإيصال النفع وهذه الأشياء التي يعبدونها، وهي الملائكة، والجنُّ، والمسيحُ، وعزيرٌ لا يقدرون على كشف الضرِّ، ولا على تحصيل النَّفع، فما الدليل على أنَّ الأمر كذلك؟ فإن قلتم: لأنَّا نرى أولئك الكفَّار يتضرَّعون إليها، ولا تحصل الإجابة. قلنا: ونرى أيضاً المسلمين يتضرَّعون إلى الله تعالى، ولا تحصل الإجابة والمسلمون يقولون بأجمعهم: إنَّ القدرة على كشف الضرِّ، وتحصيل النفع ليست إلاَّ لله تعالى، وعلى هذا التقدير، فالدليل غير تامٍّ.
فالجواب: أنَّ الدليل تامٌّ كاملٌ؛ لأنَّ الكفار كانوا مقرِّين بأنَّ الملائكة عباد الله تعالى، وخالق الملائكة، وخالق العالم لا بدَّ وأن يكون أقدر من الملائكة، وأقوى منهم، وأكمل حالاً منهم.
وإذا ثبت هذا، فنقول: كمال قدرة الله معلوم متفقٌ عليه، وكمال قدرة غير الله غير معلوم، ولا متفقٍ عليه، بل المتَّفق عليه أنَّ قدرتهم بالنِّسبة إلى قدرة الله تعالى قليلٌة حقيرةٌ، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة؛ لأنَّ استحقاق الله العبادة معلومٌ، وكون الملك كذلك مجهولٌ؛ والأخذ بالمعلوم أولى، وسلك المتكلِّمون من أهل السنَّة طريقة أخرى، وهو أنَّهم أقاموا الحجة العقليَّة على أنَّه لا موجد إلاَّ الله تعالى، ولا يخرج الشيء من العدم إلى الوجود إلا الله، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا ضارَّ ولا نافع إلا الله تعالى، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة، لأنهم لما جوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة - عليهم السلام - لا قدرة لها على الإحياء والإماتة، وخلق الجسم، وإذا عجزوا عن ذلك، لا يتمُّ لهم هذا الدليلُ، فهذا هو الدليل القاطع على صحَّة قوله: { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً }، والتحويلُ عبارة عن النَّقل من حالٍ إلى حالٍ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ، يقال: حوَّله، فتحوَّل.
قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ }: "أولئك" مبتدأ، وفي خبره وجهان:
أظهرهما: أنّه الجملة من "يَبْتغُونَ" ويكون الموصولُ نعتاً، أو بياناً أو بدلاً، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله، والمراد بالواو العبَّاد لهم، ويكون العائدُ على "الَّذينَ" محذوفاً، والمعنى: أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون، لكشف ضرِّهم - أو يدعونهم آلهة، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يبتغون.
ويجوز أن يكون المراد بالواو ما أريد بأولئك، أي: أولئك الأنبياء الذين يدعون ربَّهم أو النَّاس إلى الهدى يبتغون، فمفعول "يَدْعُونَ" محذوف.
والثاني: أن الخبر نفسُ الموصول، و "يَبْتَغُون" على هذا حالٌ من فاعل "يَدْعُون" أو بدلٌ منه. وقرأ العامة "يَدعُونَ" بالغيب، وقد تقدَّم الخلاف في الواو؛ هل تعود على الأنبياء أو على عابديهم، وزيد بن عليٍّ بالغيبة أيضاً، إلا أنه بناه للمفعول، وقتادة، وابن مسعود بتاء الخطاب، وهاتان القراءتان تقوِّيان أنَّ الواو للمشركين، لا للأنبياء في قراءة العامة.
فصل
إذا أعدنا "يَدْعُونَ" للعابدين، و "يَبْتَغُونَ" للمعبودين، فالمعنى: أولئك المعبودون يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة؛ لأنَّ الملائكة يرجعون إلى الله في طلبِ المنافع، ودفع المضارِّ، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، وإذا كانوا كذلك، كانوا عاجزين محتاجين، والله - تعالى - أغنى الأغنياء، فكان الاشتغال [بعبادته] أولى.
فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ الملائكة محتاجون إلى رحمة الله تعالى، وخائفون من عذابه.
فالجواب: أنَّ الملائكة: إمَّا أن يقال: إنَّها واجبة الوجود لذواتها، أو يقال: إنَّها ممكنة الوجود لذواتها، والأول باطلٌ؛ لأن جميع الكفَّار كانوا معترفين بأن الملائكة عبادُ الله، ومحتاجون إليه.
وأما الثاني: فهو يوجب القول بأنَّ الملائكة محتاجون في ذواتها، وفي كمالاتها إلى الله تعالى، فكان الاشتغالُ بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادةِ الملائكة.
وإن أعدنا "يَدْعُونَ" إلى الأنبياء - عليهم السلام - المذكورين في قوله تعالى: { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ } فالمعنى هو أنَّ الذي عظمت منزلتهم - وهم الأنبياء - لا يعبدون إلا الله تعالى، ولا يبتغون الوسيلة إلاَّ إليه، فأنتم بالاقتداءِ بهم أحق، فلا تعبدوا غير الله - عزَّ وجلَّ - والمراد بالوسيلةِ: الدَّرجةُ العليا.
وقيل: كل ما يتقرَّب إلى الله تعالى.
واحتجُّوا على صحَّة هذا القول بأنَّ الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، فلا يخافون عذابه، فثبت أنَّ هذا غير لائقٍ بالملائكةِ، وإنما هو لائقٌ بالأنبياء - صلوات الله عليهم -.
وأجيب بأنَّ الملائكة يخافون من عذاب الله، لو اقدموا على الذنب، قال تعالى:
{ { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 29] وقال تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } [النحل: 50] ثم قال عزَّ وجلَّ: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } أي من حقِّه أن يحذر، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله، فإنَّه لا يخرج عن كونه يجب الحذر عنه.
قوله تعالى: { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في "أيُّ" هذه وجهان:
أحدهما: أنها استفهامية.
والثاني: أنها موصولة بمعنى "الَّذي" وإنما كثر كلام المعربين فيها من حيث التقدير، فقال الزمخشريُّ: "وأيُّهم بدلٌ من واو "يَبْتَغُونَ" و "أيُّ" موصولة، أي: يبتغي من هو أقربُ منهم وأزلفُ، أو ضمِّن "يَبْتغُونَ الوسيلة" معنى يحرصون، فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب". فجعلها في الوجه الأول موصولة، وصلتها جملة من مبتدأ وخبر، حذف المبتدأ، وهو عائدها، و "أقْرَبُ" خبرٌ. واحتملت "أيُّ" حينئذٍ أن تكون مبنية، وهو الأكثر فيها، وأن تكون معربة، وسيأتي موضعه في مريم: [69] إن شاء الله تعالى وفي الثاني جعلها استفهامية؛ بدليل أنه ضمَّن الابتغاء معنى شيء تعلق، وهو يحرصون، فيكون "أيُّهُمْ" مبتدأ و "أقربُ" خبره، والجملة في محلِّ نصب على إسقاط الخافض؛ لأنَّ "تحْرِصُ" يتعدَّى بـ "على" قال تعالى:
{ إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ } [النحل: 37]، { أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَٰوةٍ } [البقرة: 96].
وقال أبو البقاء: "أيُّهُمْ" مبتدأ، و "أقْرَبُ" خبره، وهو استفهامُ في موضع نصبٍ بـ "يَدْعُونَ"، ويجوز أن يكون "أيُّهُمْ" بمعنى الذي، وهو بدلٌ من الضمير في "يَدعُونَ".
قال أبو حيان: "علَّق "يَدْعُونَ" وهو ليس فعلاً قلبيًّا، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحاليَّة، ولا يضرُّ ذلك، لأنَّها معمولة للصِّلة". قال شهاب الدين: أمَّا كون "يَدْعُونَ" لا يعلق، هو مذهب الجمهور، وقال يونس: يجوز تعليق الأفعال مطلقاً، القلبية وغيرها، وأمَّا قوله "فصل بالجملة الحالية" يعني بها "يَبْتَغُونَ" فصل بها بين "يَدعُونَ" الذي هو صلة "الَّذينَ" وبين معموله، وهو "أيُّهم أقْرَبُ" لأنه معلَّقٌ عنه، كما عرفته، إلا أنَّ الشيخ لم يتقدَّم في كلامه إعرابُ "يَبْتغُونَ" حالاً، بل لم يعربها إلاَّ خبراً للموصول، وهذا قريبٌ.
وجعل أبو البقاء أيًّا الموصولة بدلاً من واو "يَدْعُونَ"، ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك، بل كلُّهم يجعلونها من واو "يَبْتَغُونَ" وهو الظاهر.
وقال الحوفي-رحمه الله -: "أيُّهم أقربُ" ابتداء وخبر، والمعنى: ينظرون أيُّهم أقرب، فيتوسَّلون به، ويجوز أن يكون "أيهم أقرب" بدلاً من واو "يَبْتَغُون".
قال شهاب الدين: فقد أضمر فعلاً معلقاً، وهو ينظرون فإن كان من نظر البصرِ، تعدَّى بـ "إلى" وإن كان من نظر الفكر، تعدَّى بـ "في" فعلى التقديرين: الجملة الاستفهامية في موضع نصبٍ بإسقاطِ الخافض، وهذا إضمارُ ما لا حاجة إليه.
وقال ابن عطية: "وأيُّهُمْ ابتداء، و "أقْرَبُ" خبره، والتقدير: نظرهم ووكدهم أيهم أقرب، ومنه قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: "فبات النَّاس يدُوكُونَ أيُّهمْ يُعطَاهَا"، أي: يتبارون في القرب". قال أبو حيان: "فَجَعلَ المحذوف "نظرُهمْ ووكْدهُمْ" وهذا مبتدأ، فإن جعلت "أيُّهمْ أقربُ" في موضع نصب بـ "نَظرُهُمْ" بقي المبتدأ بلا خبر، فيحتاج إلى إضمار خبر، وإن جعلت "أيُّهم أقربُ" الخبر، لم يصحَّ؛ لأنَّ نظرهم ليس هو "أيُّهم أقربُ" وإن جعلت التقدير: "نَظرهُمْ في أيهم أقربُ" أي: كائنٌ أو حاصلٌ، لم يصحَّ ذلك؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يعلَّق".
فقد تحصَّل في الآية الكريمة ستَّة أوجه:
أربعة حال جعل "أيّ" استفهاماً:
الأول: أنها معلِّقة للوسيلة، كما قرَّره الزمخشريُّ.
الثاني: أنها معلّقة لـ "يَدعُونَ" كما قاله أبو البقاء.
الثالث: أنها معلقة لـ "يَنْظُرونَ" مقدراً، كما قاله الحوفيُّ.
الرابع: أنها معلقة لـ "نَظرُهمْ" كما قدَّره ابن عطيَّة.
واثنان حال جعلها موصولة:
الأول: البدل من واو "يَدعُونَ" كما قاله أبو البقاء.
الثاني: أنها بدلٌ من واو "يَبْتغُونَ" كما قاله الجمهور.