خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً
٨٠
وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً
٨١
وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً
٨٢
وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً
٨٣
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً
٨٤
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } الآية.
يحتمل أن يكون "مدخل" مصدراً، وأن يكون ظرف مكانٍ، وهو الظاهر، والعامة على ضمِّ الميم فيهما؛ لسبقهما بفعل رباعيٍّ، وقرأ قتادة، وأبو حيوة، وإبراهيم بن أبي عبلة، وحميدٌ بفتح الميم فيهما: إمَّا لأنهما [مصدران على حذف الزوائد؛ كـ
{ { أَنبَتَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17]؛ وإمَّا لأنهما] منصوبان بمقدر موافق لهما، تقديره: فادخل مدخل، واخرج مخرج، وقد تقدَّم هذا مستوفًى في قراءةِ نافع في سورة النساء [الآية: 31]، وأنه قرأ كذلك في سورة الحجِّ [الآية: 59].
و "مُدخلَ صِدقٍ"، و "مُخرجَ صِدقٍ" من إضافة التبيين، وعند الكوفيين من إضافة الموصوف لصفته؛ لأنه يوصف به مبالغة.
و "سلطاناً" هو المفعول الأول للجعلِ، والثاني أحدُ الجارَّين المتقدمين، والآخر متعلِّقٌ باستقراره، وقوله "نَصِيراً" يجوز أن يكون محولاً من "فاعلٍ" للمبالغة، وأن يكون بمعنى مفعول.
فصل في معنى "مُدخَلَ صِدقٍ" و "مُخرَجَ صِدْقٍ"
قد تقدَّم في قوله:
{ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ } [الإسراء: 76] قولان:
أحدهما: أن يكون المراد منه سعي كفَّار مكَّة في إخراجه منها.
والثاني: المراد منه اليهود؛ قالوا له: الأولى أن تخرج من المدينة إلى الشَّام، ثم قال: "أقم الصَّلاة" واشتغل بعبادة الله تعالى، ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهَّال، فإنَّ الله تعالى يعينك، ثمَّ عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة من أن كفَّار مكَّة أرادوا إخراجه، فأراد الله تعالى هجرته إلى المدينة، وقال له: { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ }، وهو المدينة، { وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ }، وهو مكَّة، وهذا قول ابن عبَّاس، والحسن، وقتادة.
وعلى التفسير الثاني، وهو أنَّ المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذَّهاب إلى الشَّام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ أمر بأن يرجع إليها، فلمَّا عاد إلى المدينة، قال: "ربِّ أدخلْنِي مُدخلَ صدقٍ" وهي المدينة، "وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدقٍ" يعني: إلى مكة؛ [بالفتح]، أي: افتحها.
وقال الضحاك: "أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ" ظاهراً على مكة بالفتح "وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدْقٍ" من مكة، آمناً من المشركين.
وقال مجاهد: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة، والقيام بمهمات أداء شريعتك، "وأخْرِجْنِي" من الدنيا، وقد قمت بما وجب عليَّ من حقِّها "مُخرجَ صِدقٍ" أي: إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ.
وعن الحسن: "أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ" الجنة، "وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدْقٍ" أي: إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ من مكة.
وقيل: أدخلني في طاعتك، وأخرجني من المناهي.
وقيل: أدخلني القبر مدخل صدقٍ، وأخرجني منه مخرج صدقٍ، وقيل: أدخلني حيثُ ما أدخلتني بالصِّدق، وأخرجني بالصِّدق، أي: لا تجعلني ممَّن يدخل بوجهٍ، ويخرج بوجهٍ، فإنَّ ذا الوجهين لم يكن عند الله وجيهاً.
ووصف الإدخال والإخراج بالصِّدقِ؛ لما يئول إليه الدُّخولُ والخروج من النصر، والعزِّ، ودولة الدِّين، كما وصف القدم بالصِّدق؛ فقال:
{ { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [يونس: 2].
{ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً }.
قال مجاهد: حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني، وقال الحسن: ملكاً قويًّا تنصرني به على من عاداني، وعزًّا ظاهراً أقيم به دينك، وقد أجاب الله - تعالى - دعاءه، وأعلمه أنه يعصمه من النَّاس؛ فقال:
{ { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67]. وقال:
{ { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [المجادلة: 22].
وقال:
{ { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } [التوبة: 33].
ولما سأل الله تعالى النُّصرة، بيَّن أنَّه أجاب دعاءه؛ فقال: { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ }. وهو دينه وشرعه.
قوله: { وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ }. وهو كل ما سواه من الأديان، والشَّرائع، قاله السديُّ.
وقيل: جاء الحقُّ، أي: القرآن. وزهق الباطل، أي: ذهب الشيطان، قاله قتادة.
وقيل: الحقُّ: عبادة الله تعالى، والباطل عبادة الأصنام.
وعن ابن مسعودٍ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكَّة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائةٍ وستُّون صنماً، فجعل يضربها بعودٍ في يده، وجعل يقول: { جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ }.
[أي: ذهب الشيطان] كان الصَّنمُ ينكبُّ على وجهه.
قوله: { إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }. أي: إنَّ الباطل، وإن كان له دولةٌ، لا يبقى، بل يزول بسرعة.
والزُّهوقُ: الذِّهاب، والاضمحلال؛ قال: [الكامل]

3457- ولقَدْ شَفَى نَفْسِي وأبْرَأ سُقمهَا إقْدامهُ بِمزَالةٍ لمْ يَزْهقِ

يقال: زهقت نفسي تزهقُ زهوقاً بالضمِّ، وأمَّا الزُّهوقُ، بالفتح، فمثال مبالغة؛ كقوله: [الطويل]

3458- ضَرُوبٌ بِنصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها .................................

قوله تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ }: في "مِنْ" هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها لبيان الجنس، قاله الزمخشري، وابن عطيَّة، وأبو البقاء، وردَّ عليهم أبو حيان: بأنَّ التي للبيان، لا بد وأن يتقدَّمها ما تبينه، لا أن تتقدم هي عليه، وهنا قد وجد تقدُّمها عليه.
الثاني: أنها للتبعيض، وأنكره الحوفي؛ قال: "لأنه يلزم ألاَّ يكون بعضه شفاء" وأجيب عنه: بأنَّ إنزاله إنَّما هو مبعضٌ، وهذا الجواب ليس بظاهرٍ، وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يشفي من المرض. وهذا يؤيده الدَّليلُ المتقدِّم، وأجاز الكسائيُّ: "ورَحْمةً" بالنصب عطفاً على ما تظاهر وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيِّد الحيِّ الذي لدغ، بالفاتحة؛ فشفي.
الثالث: أنها لابتداءِ الغاية، وهو واضحٌ.
والجمهور على رفع "شفاءٌ ورحمةٌ" خبرين لـ "هُوَ"، والجملة صلة لـ "مَا" وزيد بن عليٍّ بنصبهما، وخرِّجت قراءته على نصبهما على الحال، والخبر حينئذ "لِلمُؤمنينَ" وقدِّمت الحال على عاملها المعنوي، كقوله تعالى: { وَالسَّمَٰوَاتُ مطويَّاتٍ } [الزمر: 67] في قراءة من نصب "مَطْويَّاتٍ"، وقول النابغة:

3459- رَهْطُ ابنِ كُوزٍ مُحقِبِي أدْرَاعهُمْ فِيهمْ ورَهْطُ رَبيعَة بْنِ حُذارِ

وقيل: منصوبان بإضمار فعلٍ، وهذا عند من يمنع تقديمها على عاملها المعنوي، وقال أبو البقاء: وأجاز الكسائي: "ورحْمَةً" بالنصب عطفاً على "مَا" فظاهر هذا أن الكسائيَّ [بقَّى] "شِفاءٌ" على رفعه، ونصب "رَحْمةً" فقط عطفاً على "ما" الموصولة؛ كأنه قيل: ونُنزِّل [من القرآن رحمة، وليس في نقله ما يؤذن بأنه تلاها قرآناً، وتقدَّم الخلاف في] "ونُنزِّلُ" تخفيفاً وتشديداً، والعامة على نون العظمة. ومجاهد "ويُنزِلُ" بياء الغيبة، أي: الله.
فصل في المراد بـ "مِنْ" في الآية
قال المفسِّرون: إنَّ "من" هنا للجنسِ؛ كقوله تعالى:
{ { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } [الحج: 30].
أي: ونُنزِّل من هذا الجنس الذي هو قرآنٌ ما هو شفاءٌ، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، أي: بيانٌ من الضلالة والجهالة يتبيَّن به المختلف، ويتَّضح به المشكل، ويستشفى به من الشُّبهة، ويهتدى به من الحيرة، وهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها.
واعلم أنَّ القرآن شفاء من المراض الرُّوحانيَّة، والأمراض الجسمانية.
أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية؛ لأنَّ المرض الروحانيَّ قسمان:
أحدهما: الاعتقادات الباطلة، وأشدُّها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيَّات، والنبوَّات، والمعاد، والقضاءِ، والقدر؛ والقرآن كلُّه مشتملٌ على دلائل الحقِّ في هذه المطالب.
والثاني: الأخلاق المذمومة؛ والقرآن مشتمل على تفاصيلها، وتعريف ما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة، وكان القرآن شفاء من الأمراض الروحانيَّة.
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية؛ فلأنَّ التبرُّك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض؛ ويؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"مَنْ لَمْ يَستشْفِ بالقرآنِ، فلا شَفاهُ الله تعالى" .
وما ورد في حديث الرقية بالفاتحة.
ثم قال: { ولا يَزيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً } المراد بالظالمين ها هنا: المشركون؛ لأنَّ سماع القرآن يزيدهم غضباً، وغيظاً، وحقداً، وكلَّما نزلت آيةٌ يتجدَّد تكذيبٌ؛ فتزداد خسارتهم.
قال مجاهد وقتادة: لم يجالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان: قضاء الله الذي قضاه شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين، ولا يزيد الظَّالمين إلا خساراً.
ثم إنه تعالى ذكر السَّبب الأصلي في وقوع هؤلاء الجهَّال في أودية الضَّلال، وهو حبُّ الدنيا، والرغبة في المال والجاه، واعتقادهم أن ذلك إنَّما يحصل بجدِّهم واجتهادهم، فقال: { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ }.
قال ابن عباس: الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة.
والأوْلى أنَّ كل إنسان من شأنه إذا فاز بمقصوده، اغترَّ وصار غافلاً عن عبادة الله - تعالى - وتمرَّد على طاعته؛ كما قال:
{ كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6، 7].
قوله تعالى: { وَنَأَى }: قرأ العامة بتقديم الهمزة على حرف العلة؛ من النَّأي، وهو البعدُ، وابن ذكوان - ونقلها أبو حيان وابن الخطيب عن ابن عامر وأبو جعفر: "نَاءَ" مثل "جَاءَ" بتقديم الألف على الهمزة، وفيها تخريجان: أحدهما: أنها من: نَاءَ، يَنُوء، أي: نَهضَ؛ قال: [الرجز]

3460- حتَّى إذا مَا التَأمَتْ مَفاصِلُه ونَاءَ في شقِّ الشِّمالِ كَاهِلُه

والثاني: أنه مقلوبٌ من "نَأى"، ووزنه "فَلعَ" كقولهم في "رَأى": "رَاءَ" إلى غير ذلك فيكونان بمعنى، ولكن متى أمكن عدم القلب، فهو أولى، وهذا الخلافُ أيضاً في حم السجدة [فصلت: 51].
وأمال الألف إمالة محضة الأخوان، وأبو بكرٍ، عن عاصمٍ، وبين بين؛ بخلاف عنه، السوسيُّ، وكذلك في فصِّلت، إلا أبا بكرٍ؛ فإنه لم يمله.
وأمال فتحة النون في السورتين خلفٌ، وأبو الحارث والدُّوري عن الكسائيِّ.
ثم قال: { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ }، أي: الشِّدة، والضر { كَانَ يَئُوساً } أيساً قنوطاً.
وقيل: معناه: أنَّه يتضرَّع، ويدعو عند الضُّرِّ والشدَّة، فإذا تأخَّرت الإجابة، أيس، ولا ينبغي للمؤمن أن يَيْئَسَ من الإجابة، وإن تأخَّرت، فيدع الدعاء.
قوله تعالى: { عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ }: متعلق بـ "يَعْمَلُ"، والشَّاكلةُ: أحسنُ ما قيل فيها ما قاله الزمخشريُّ والزجاج: أنها مذهبه الذي يشاكلُ حاله في الهدى والضلالة؛ من قولهم: "طريقٌ ذو شَواكلَ"، وهي الطرقُ التي تَشعَّبتْ منه؛ والدليل عليه قوله تعالى: { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً }، وقيل: على دينه، وقيل: خلقه، وقال ابن عباسٍ: "جانبه" وقال الحسن، وقتادة: على نيَّته. وقال الفراء: "على طَريقتهِ، والمذهب الذي جبل عليه".
[وهو] من "الشَّكلِ" وهو المثل؛ يقال: لست على شكْلِي، ولا شَاكلتي، وأمَّا "الشِّكلُ" بالكسر فهو الهيئة؛ يقال: جاريةٌ حسنة الشِّكلِ، وقال امرؤ [القيس] في "الشَّكل" بالفتح: [الكامل]

3461- حَيِّ الحُمولَ بِجانبِ العَزْلِ إذْ لا يُلائِمُ شَكلُهَا شَكْلِي

أي: لا يلائم مثلها مثلي.
قال ابن الخطيب: والذي يقوى عندي: أنَّ المراد من المشاكلة ما قاله الزجاج، والزمخشريُّ؛ لقوله بعد ذلك: { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً } [الإسراء: 84].
وفيه وجه آخر: وهو أنَّ المراد: أن كلَّ أحد يفعل على وفق ما يشاكله جوهر نفسه، ومقتضى روحه، فإن كانت مشرقة، ظاهرة، علوية، صدرت منه أفعالٌ فاضلةٌ، وإن كانت نفسه كدرة خبيثة [مضلَّةً ظُلمانيَّة، صدرت عنه أفعال خسيسة] فاسدةٌ.
وأقول: اختلف العقلاء في أنَّ النفوس الناطقة البشريَّة، هل هي مختلفةٌ بالماهيَّة، أم لا؟.
منهم من قال: إنَّها مختلفةٌ بالماهيَّة، وإنَّ اختلاف أحوالها وأفعالها لاختلاف جواهرها وماهيَّاتها.
ومنهم من قال: إنَّها متساوية في الماهية، واختلاف أحوالها وأفعالها لاختلاف أمزجتها.
والمختار عندي: هو القسم الأوَّل، والقرآن يشعر به؛ لأنه تعالى بيَّن في الآية المتقدمة: أنَّ القرآن بالنِّسبة إلى البعض يفيد الشِّفاء، والرحمة، وبالنِّسبة إلى الآخرين يفيد الخسار، والخزي، ثم أتبعه بقوله: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ }.
ومعناه: أن اللائق بتلك النُّفوس أن يظهر فيها القرآن الخير وآثار الذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار، وتسوِّد وجهه، وهذا الكلام لا يتم المقصود به، إلاَّ إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة ماهيَّاتها، فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نورٌ على نورٍ، وبعضها كدرةٌ ظلمانيةٌ، ويظهر فيها من القرآن ضلال عل ضلالٍ، ونكالٌ على نكالٍ.
قوله: "أهْدَى" يجوز أن يكون من "اهْتدَى"؛ على حذف الزوائد، وأن يكون من "هَدَى" المتعدِّي، وأن يكون من "هَدَى" القاصر، بمعنى "اهتدى". وقوله "سَبِيلاً" تمييزٌ.
[والمعنى:] فربُّكم أعلم بمن هو أوضح طريقاً.