خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً
٨٩
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً
٩٠
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً
٩١
أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً
٩٢
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً
٩٣
-الإسراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } الآية.
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا }: مفعول محذوف، وقيل: "مِنْ" زائدة في "مِنْ كلِّ مَثلٍ" وهو المفعول، قاله ابن عطية، وهو مذهب الكوفيين و الأخفش.
وقرأ الحسن: "صَرَفْنَا" بتخفيف الراء، وتقدَّم نظيره.
فصل في ذكر الوجوه المحتملة في هذا الكلام
هذا الكلام يحتمل وجوهاً:
أحدها: أنه وقع التحدِّي بكلِّ القرآن؛ كما في هذه الآية، ووقع التحدِّي بسورة واحدة؛ كما في قوله:
{ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [الطور: 34] فقوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } يحتمل أن يكون المراد منه التحدِّي؛ كما شرحناه، ثم إنهم مع ظهور عجزهم عن جميع هذه المراتب، صاروا مصرِّين على كفرهم.
وثانيها: أن يكون المراد من "من كُلِّ مثلٍ": أنَّا أخبرناهم بأنَّ الذين بقوا مصرِّين على الكفر؛ مثل قوم نوحٍ، وعادٍ، وثمود - ابتلاهم الله بأنواع البلاء - وشرحنا هذه الطريقة مراراً - ثم إنَّ هؤلاء الأقوام - يعني أهل مكَّة - لم ينتفعوا بهذا البيان، بل أصرُّوا على الكفر.
وثالثها: أن يكون المراد من "مِنْ كلِّ مثلٍ": مِنْ كلِّ وجهٍ من العبر، والأحكام والوعد، والوعيد، وغيرها.
ورابعها: أن يكون المراد ذكر دلائل التوحيد، ونفي الشركاء في هذا لقرآن مراراً كثيرة، وذكر شبهات منكري النبوَّة، والمعاد؛ وأجاب عنها، ثمَّ أردفها بذكر الدَّلائل القاطعة على صحَّة النبوة، والمعاد، ثم إنَّ هؤلاء الكفَّار لم ينتفعوا بسماعها، بل بقوا مصرِّين على الشِّرك، وإنكار النُّبوَّة.
قوله: "إلاَّ كُفوراً" مفعول به، وهو استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّه في قوة: لم يفعلوا إلاَّ الكفور.
والمعنى: { فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ } يعني: أهل مكَّة، { إِلاَّ كُفُوراً } أي: جحوداً للحقِّ.
فإن قيل: كيف جاز: { فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } ولا يجوز أن يقال: ضربتُ إلا زيداً؟.
فالجواب: إنَّ لفظة: "أبَى" تفيد النَّفي؛ كأنه قيل: فلم يؤمنوا إلاَّ كفوراً.
قوله: { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } الآية.
قرأ الكوفيُّون ["تَفْجُرَ"] بفتح التَّاء، وسكون الفاء، وضم الجيم خفيفة، مضارع "فَجَرَ" واختاره أبو حاتم؛ قالوا: لأنّ الينبوع واحدٌ، والباقون، بضمِّ التاء، وفتح الفاء، وكسر الجيم شديدة، مضارع "فجَّر"، للتكثير، ولم يختلفوا في الثانية: أنَّها بالتثقيل للتصريح بمصدرها، وقرأ الأعمش "تُفْجِرَ" بضمِّ التاء، وسكون الفاء، وكسر الجيم خفيفة، مضارع "أفْجرَ" بمعنى "فَجرَ" فليس التضعيفُ، ولا الهمزة معدِّيينِ.
فمن ثقَّل، أراد كثيرة الانفجار من الينبوع، وهو وإن كان واحداً، فلكثرة الانفجار فيه يحسن أن يثقَّل؛ كما تقول: ضرَّب زيدٌ، إذا كثر الضَّربُ منه؛ لكثرة فعله، وإن كان الفاعل واحداً، ومن خفَّف؛ فلأن الينبوع واحدٌ.
و "يَنْبُوعاً" مفعول به، ووزنه "يَفعُولٌ"؛ لأنه من النَّبعِ، واليَنبُوعُ: العين تفور من الأرض.
فصل فيما يثبت صدق النبوة
اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن بالدليل كون القرآن معجزاً، وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ: تمَّ الدليل على كونه نبيًّا صدقاً؛ لأنَّا نقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ادَّعى النبوة، وأظهر المعجزة على وفق دعواه، وكلُّ من كان كذلك، كان نبيًّا صادقاً؛ فهذا يدلُّ على أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم صادقٌ، وليس من شرط كونه نبيًّا صادقاً تَواترُ المعجزات الكثيرة، وتواليها؛ لأنَّا لو فتحنا هذا الباب، للزم ألاَّ ينقطع فيه، وكلما أتى الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - بمعجز، اقترحوا عليه معجزاً آخر، ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدِّ ينقطع عنده عناد المعاندين؛ لأنَّه تعالى حكى عن الكفَّار: أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزاً، التمسُوا من الرسُول - عليه الصلاة والسلام - ستَّة أنواعٍ من المعجزات الباهرات، كما روى عكرمة، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -
"أنَّ رؤساء أهل مكَّة، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوسٌ عند الكعبة، فقالوا: يا محمد، إنَّ أرض مكَّة ضيقةٌ، فسير جبالها؛ لننتفع فيها، وفجِّر لنا ينبوعاً، أي: نهراً، وعيوناً نزرع فيها، فقال: لا أقدر عليه.
فقال قائلٌ منهم: أو يكون لك جنّة من نخيل وعنبٍ فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً، فقال: لا أقْدرُ عَليْهِ فقيل: أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ، أي: من ذهبٍ، فيُغْنِيكَ عَنَّا، فقال: لا أقدِرُ عَليْهِ فقيل له: أما تَسْتطِيعُ أن تَأتي قوْمكَ بِمَأ يسْألُونكَ؟ فقال: لا أسْتطِيعُ، فقالوا: فإذا كنت لا تَسْتطِيعُ الخير، فاسْتطعِ الشَّر، فأرسل السَّماء؛ كما زَعمْتَ، عَليْنَا كِسَفاً"
.
قرأ العامة "تُسْقِطَ" بإسناد الفعل للمخاطب، و "السَّماء" مفعول بها، ومجاهد على إسناده إلى "السَّماء" فرفعها به.
وقرأ نافع، و ابن عامرٍ، وعاصم "كِسَفاً" هنا، بفتح السِّين، وفعل ذلك حفصٌ في الشعراء [الآية: 187] وفي سبأ [الآية: 9]، والباقون يسكنونها في المواضع الثلاثة، وقرأ ابن ذكوان بسكونها في الروم [الآية: 48]؛ بلا خلافٍ، وهشام عنه الوجهان، والباقون بفتحها.
فمن فتح السين، جعله جمع كسفةٍ؛ نحو: قِطعَةٍ وقِطَع، وكِسْرةٍ وكِسرٍ، ومن سكَّن، جعله جمع كسفة أيضاً على حدِّ: سِدْرةٍ وسِدْرٍ، وقِمْحَةٍ وقِمَحٍ.
وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين:
أحدهما: أنه جمعٌ على "فَعَلٍ" بفتح العين، وإنما سكِّن تخفيفاً، وهذا لا يجوز؛ لأنَّ الفتحة خفيفة يحتملها حرف العلة، حيث يقدر فيه غيرها، فكيف بالحرف الصحيح؟.
قال: والثاني: أنه "فَعْلٌ" بمعنى "مَفْعُولٍ"؛ كـ "الطحْن" بمعنى "مَطْحُون"؛ فصار في السكون ثلاثة أوجهٍ.
وأصل الكسفِ: القطع، يقال: كسَفْتُ الثَّوبَ قطعته؛ وفي الحديث في قصَّة سليمان مع الصَّافناتِ الجياد: أنه
"كَسَفَ عَراقِيبهَا" ، أي: قطعها.
فصل في معنى الكسف
قال اللَّيثُ: الكسف: قطع العرقوب، قال الفرَّاء: وسمعتُ أعرابيًّا يقول لبزَّاز: أعطني كسفةً، وقال الزجاج: "كَسفَ الشيء بمعنى غطَّاهُ"، قيل: ولا يعرفُ هذا لغيره.
وانتصابه على الحال في القراءتين فإن جعلناه جمعاً، كان على حذفِ مضاف، أي: ذات كسفٍ، وإن جعلناه "فِعْلاً" بمعنى "مَفعُول" لم يحتج إلى تقدير، وحينئذ: فإن قيل لِمَ لمْ يُؤنَّث؟ فالجواب: لأنَّ تأنيثه أعني: السَّماء غير حقيقيٍّ، أو بأنها في معنى السَّقف.
قوله: "كَمَا زعَمْتَ": نعت لمصدر محذوف، أي: إسقاطاً مثل مزعومك؛ كذا قدَّره أبو البقاء.
فصل في المراد بالآية
قال عكرمة: { كَمَا زَعَمْتَ }، يا محمد: أنَّك نبيٌّ، "فأسْقِط" السماء علينا كسفاً.
وقيل: كما زعمت أن ربَّك إن شاء فعل، وقيل: المراد قوله:
{ { أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } [الإسراء: 68].
فقيل: اجعل السَّماء قطعاً متفرقة؛ كالحاصب، وأسقطها علينا.
قوله: { أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً }.
القَبِيلُ: بمعنى: المقابل؛ كالعشير، بمعنى: المُعاشِر.
وقال ابن عباس: فوجاً بعد فوجٍ. وقال الليث: كلُّ جندٍ من الجنِّ والإنسِ قبيلٌ، وقيل: كفيلاً، أي ضامناً.
قال الزجاج: يقال: قبلتُ به أقبل؛ كما يقال: كفلت به أكفل، وعلى هذا: فهو واحدٌ أريد به الجمعُ؛ كقوله:
{ { وَحَسُنَ أُوْلَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69]، وقال أبو عليِّ: معناه المعاينة؛ كقوله تعالى: { { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } [الفرقان: 21].
قوله: "قَبِيلاً" [حالٌ من "الله، والمَلائِكَةِ" أو من أحدهما، والآخر محذوفة حاله، أي: بالله قبيلاً، والملائكة قبيلاً؛] كقوله: [الطويل]

3465-............. كُنْتُ مِنهُ ووالِدي بَرِيئاً...............

وكقوله: [الطويل]

3466-........................ فَإنِّي وقيَّارٌ بِهَا لغَرِيبُ

ذكره الزمخشريُّ، هذا إذا جعلنا "قَبِيلاً" بمعنى كفيلاً، أي: "ضَامِناً" أو بمعنى "معاينة" كما قاله الفارسي، وإن جعلناه بمعنى "جَماعَة" كان حالاً من "المَلائِكَة".
وقرأ الأعرج "قِبَلاً" من المقابلة.
قوله { أَوْ تَرْقَىٰ }: فعل مضارع [منصوبٌ] تقديراً؛ لأنه معطوفٌ على "تَفْجُرَ"، أي: أو حتَّى ترْقَى في السَّماء، [أي:] في معارجها، والرقيُّ: الصعود، يقال: رَقِيَ، بالكسر، يرقى، بالفتح، رقيًّا على فعولٍ، والأصل: "رُقُوي" فأدغم بعد قلب الواو ياء، ورقياً بزنة ضربٍ، قال الراجز: [الرجز]

3467- أنْتَ الَّذي كَلَّفتَنِي رقْيَ الدَّرجْ عَلى الكَلالِ والمَشِيبِ والعَرجْ

قوله تعالى: { نَّقْرَؤُهُ } يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون نعتاً لـ "كتاباً".
والثاني: أن يكون حالاً مِنْ "نَا" في "عَليْنَا"؛ قاله أبو البقاء، وهي حال مقدرة؛ لأنهم إنما يقرؤونه بعد إنزاله، لا في حال إنزاله.
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون: لمّا قال المشركون: { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُر لَنَا } الآيات، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معهُ عبدُ الله بن أميَّة، وهو ابنُ عمَّته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمد، عرض عليك قومُك ما عرضُوا، فلم تقبلهُ منهم، ثمَّ سألوكَ لأنفسهم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله تعالى، فلم تفعل، ثمَّ سألوك أن تعجِّل ما تُخوِّفهم به، فلم تفعل، فوالله لا أومن بك حتَّى تتَّخذ إلى السَّماء سلَّماً ترقى فيه، وأنا أنظر حتَّى تأتيها، وتنزل بنُسخةٍ منشورةٍ، ومعك نفرٌ من الملائكةِ يشهدون لك بما تقولُ. وأيم الله، لو فعلت ذلك، لظننتُ أنِّي لا أصدِّقك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسل حزيناً لما يرى من مباعدتهم.
ثم قال تعالى: قل، يا محمد: { سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } أمره بتنزيهه، وتمجيده، أي: أنَّه لو أراد أن ينزل ما طلبوا، فلعل، ولكن لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر.
واعلم أنَّه تعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآياتِ والمعجزات ما يغني عن هذا كلِّه مثل القرآن، وانشقاق القمر، وتفجير العيون من بين الأصابع، وما أشبهها، والقوم عامَّتهم كانوا متعنِّتين، لم يكن قصدهم طلب الدَّليل؛ ليؤمنوا، فردَّ الله عليهم سؤالهم.
قوله: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } قرأ ابن كثير، وابن عامرٍ "قال" فعلاً ماضياً؛ إخباراً عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - بذلك، والباقون "قُلْ" على الأمر أمراً منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، وهي مرسومة في مصاحف المكيين والشاميين: "قال" بألف، وفي مصاحف غيرهم "قل" بدونها، فكل وافق مصحفه.
قوله: { إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } يجوز أن يكون "بَشَراً" خبر "كُنْتُ" و "رَسُولاً" صفته، ويجوز أن يكون "رَسُولاً" هو الخبر، و "بَشَراً" حال مقدمة عليه.
فصل في استدلالهم بهذه الآية
استدلُّوا بهذه الآية على أن المجيء على الله والذهاب محالٌ؛ لأنَّ كلمة "سبحان" للتنزيه عمَّا لا ينبغي.
فقوله: { سُبْحَانَ رَبِّي }: تنزيه لله تعالى عن شيءٍ لا يليقُ به، وذلك تنزيهٌ الله عما نسب إليه ممَّا تقدَّم ذكره، وليس فيما تقدَّم ذكره شيء مما لا يليقُ بالله إلا قولهم: أو تأتي بالله، فدلَّ على أنَّ قوله: "سُبحانَ ربِّي" تنزيهٌ لله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في الإتيان، والمجيء؛ فدلَّ ذلك على فساد قول المشبهة.
فإن قالوا: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في اقتراح الأشياء؟.
فالجواب: أنَّ القوم لم يتحكَّموا على الله، وإنما قالوا للرسول: إن كنت نبيًّا صادقاً، فاطلب من الله أن يشرِّفك بهذه المعجزات، فالقوم إنَّما تحكَّموا على الرسول صلى الله عليه وسلم لا على الله، فلا يليقُ حمل قوله: { سُبْحَانَ رَبِّي } على هذا المعنى، فيجب حمله على قولهم { أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ }.
فصل في تقرير هذا الجواب
اعلم أنَّ تقرير هذا الجواب: أن يقال: إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنَّكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء، أو طلبتم منِّي أن أطلب من الله إظهارها على يديَّ؛ لتدلَّ لكم على كوني رسولاً حقًّا من عند الله.
والأول باطلٌ؛ لأنِّي بشر، والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء.
والثاني أيضاً: باطل؛ لأنِّي قد أتيتكم بمعجزة واحدة، وهي القرآن، فطلب هذه المعجزات طلبٌ لما لا حاجة إليه، وكان طلبها يجري مجرى التعنُّت والتحكُّم، وأنا عبدٌ مأمورٌ ليس لي أن أتحكَّم على الله؛ فسقط هذا السؤال؛ فثبت كونُ قوله: { سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } جواباً كافياً في هذا الباب.