خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
١٣
وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً
١٤
هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
١٥
وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً
١٦
-الكهف

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ } [أي: نقص عليك نبأهم] على وجه الصدق.
قوله: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } شبَّان { ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } إيماناً وبصيرة.
وقوله: { ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ }: فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة؛ إذ لو جاء على نسقِ الكلامِ، لقيل: إنَّهم فتيةٌ آمنوا بنا، وقوله: "وَزِدْنَاهُم" التفات من هذه الغيبة إلى التكلم أيضاً.
ومعنى قوله: "ورَبَطْنَا" وشددنا "عَلى قُلوبِهمْ" بالصَّبْر والتثبت، وقوَّيناهم بنور الإيمان، حتَّى صبروا على هجران ديار قومهم، ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش، وفرُّوا بدينهم إلى الكهف، والرَّبطُ: استعارةٌ لتقوية كلمة في ذلك المكان الدَّحض.
قوله: { إِذْ قَامُواْ }: منصوب بـ "رَبَطْنَا". وفي هذا القيام أقوالٌ:
أحدها: قال مجاهدٌ: كانوا عظماء مدينتهم، فخرجوا، فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعادٍ، فقال أكبرهم: إنِّي لأجد في نفسي شيئاً، إنَّ ربِّي ربُّ السموات والأرض، فقالوا: نحن كذلك نجد في أنفسنا، فقاموا جميعاً، فقالوا: { رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ }.
والثاني: أنَّهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس، حين عاتبهم على ترك عبادة الصَّنم، { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً } فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم، حتَّى عصوا ذلك الجبَّار، وأقرُّوا بربوبيَّة الله تعالى.
الثالث: قال عطاءٌ ومقاتلٌ: إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النَّوم، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ الله تعالى استأنف قصَّتهم فقال: { نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم }.
قوله: { لَّقَدْ قُلْنَآ إِذاً شَطَطاً }.
"إذن" جواب وجزاء، أي: لقد قلنا قولاً شططاً، إن دعونا من دونه إلهاً، و "شططاً" في الأصل مصدر، يقال: شطَّ شططاً وشُطُوطاً، أي: جار وتجاوز حدَّه، ومنه: شطَّ في السَّوم، وأشطَّ، أي: جاوز القدر حكاه الزجاج وغيره، ومن قوله: "ولا تشطط" وشطَّ المنزلُ: أي بعد، [من ذلك] وشطَّت الجارية شطاطاً أي: طالت، من ذلك.
فصل
قال الفراء: ولم أسمع إلا "أشطَّ يُشطُّ إشطاطاً" فالشطُّ البعد عن الحقِّ.
قال ابن عباس: "شَطَطاً" أي: جوراً.
وقال قتادة: كذباً. وفي انتصابه ثلاثة أوجه:
الأول: مذهب سيبويه النصب على الحال، من ضمير مصدر "قُلْنَا".
الثاني: نعت لمصدر، أي: قولاً ذا شططٍ، أو هو الشَّططُ نفسه؛ مبالغة.
الثالث: أنه مفعول بـ "قُلنا" لتضمُّنه معنى الجملة.
قوله: { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ }: يجوز في "قَوْمنَا" أن يكون بدلاً، أو بياناً، و "اتَّخذُوا" هو خبر "هؤلاء" ويجوز أن يكون "قَوْمُنا" هو الخبر، و "اتَّخذوا" حالاً، و "اتَّخذ" يجوز أن يتعدى لواحد؛ بمعنى "عملوا" لأنهم نحتوها بأيديهم، ويجوز أن تكون متعدية لاثنين؛ بمعنى "صيَّروا" و "مِن دونه" هو الثاني قدِّم، و "آلهة" هو الأول، وعلى الوجه الأول يجوز في "من دونه" أن يتعلق بـ "اتَّخذُوا" وأن يتعلق بمحذوفٍ حالاً من "آلهة" إذ لو تأخَّر، لجاز أن يكون صفة لـ "آلهة".
قوله: "لَوْلاَ يَأتُونَ" تحضيض فيه معنى الإنكار، و "عَليْهِمْ" أي: على عبادتهم، أو على اتخاذهم، فحذف المضاف للعلم به، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة التحضيضية صفة لـ "آلهة" لفساده؛ معنى وصناعة؛ لأنها جملة طلبية.
فإن قلت: أضمر قولاً؛ كقوله: [الرجز]

3491- جَاءُوا بمَذْقٍ هل رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطْ

فالجواب لم يساعد المعنى لفساده عليه.
فصل في المعني بقوله تعالى: { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا }
هذا قول أصِحاب الكهف يعنون أهل بلدهم هم الذين كانوا في زمن دقيانوس، عبدوا الأصنام { لَّوْلاَ يَأْتُونَ } هلا يأتون "عَليْهِمْ" على عبادتهم "بسُلْطَانٍ" بحجَّة بينة واضحة، ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدَّليل لا يدلُّ على عدم المدلول، وهذه الآية تدلُّ على صحَّة هذه الطريقة؛ لأنَّه تعالى استدلَّ على عدم الشركاء والأضداد؛ لعدمِ الدَّليل عليه، ثم قال: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } فزعم أنَّ له شريكاً، وولداً، يعني أنَّ الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلمٌ وافتراءٌ على الله وكذبٌ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتَّقليد.
قوله: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ }: "إذْ" منصوب بمحذوف، أي: وقال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم، وجوَّز بعضهم أن تكون "إذ" للتعليل، أي: فأووا إلى الكهف؛ لاعتزالكم إيَّاهم، ولا يصحُّ.
قوله: "ومَا يَعبُدُونَ" يجوز في "مَا" ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون بمعنى "الذي" والعائد مقدر، أي: واعتزلتم الذي يعبدونه وهذا واضح. و "إلاَّ الله" يجوز فيه أن يكون استثناء متصلاً، فقد روي أنَّهم كانوا يعبدون الله ويشركون به غيره، ومنقطعاً؛ فقد روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط، والمستثنى منه يجوز أن يكون الموصول، وأن يكون عائدهُ، والمعنى واحد.
والثاني: أن تكون مصدرية، أي: واعتزلتم عبادتهم، أي: تركتموها، و "إلاَّ الله" على حذف مضافٍ، أي: إلاَّ عبادة الله، وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان.
الثالث: أنها نافية، وأنه من كلام الله تعالى، وعلى هذا، فهذه الجملة معترضة بين أثناء القصَّة، وإليه ذهب الزمخشريُّ، و "إلاَّ الله" استثناء مفرَّغٌ، أخبر الله عن الفتيةِ أنهم لا يعبدون غيره، وقال أبو البقاء: "والثالث: أنها حرف نفيٍ، فيخرج في الاستثناء وجهان:
أحدهما: هو منقطعٌ، والثاني: هو متصل، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا الله".
فظاهر هذا الكلام: أن الانقطاع والاتصال في الاستثناء مترتِّبان على القول يكون "ما" نافية، وليس الأمر كذلك.
فصل في كلام أهل الكهف
قال المفسِّرون: إنَّ أهل الكهف قال بعضهم لبعض: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ } يعني قومكم { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ }، أي: اعتزلتموهم، وجميع ما يعبدون إلا الله، فإنَّكم لم تعتزلوا عبادته، فإنَّهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأوثان.
وقرأ أبو مسعود: "ومَا يعبدون من دون الله، فأووا إلى الكهف".
قال الفراء: هو جواب "إذْ" كما تقولُ: إذ فعلت كذا فافعل كذا، والمعنى اذهبوا إليه، واجعلوه مأواكم.
{ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } أي يبسطها عليكم، { وَيُهَيِّئْ لَكُم } يسهِّل لكم { مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } ما يعود إليه رفقكم.
قوله: "مرفقاً" قرأ الجمهور بكسر الميم، وفتح الفاءِ.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية البرجمي وأبو جعفر بالعكس، وفيها خلاف عند أهل اللغة؛ فقيل: هما بمعنى واحد، وهو ما يرتفق به، وليس بمصدر، وقيل: هو بكسر الميم لليد، وبفتحها للأمر، وقد يستعمل كل واحدٍ منهما موضع الآخر، حكاه الأزهريُّ عن ثعلب، وأنشد الفراء جمعاً بين اللغتين في الجارحة: [الرجز]

3492- بِتُّ أجَافِي مِرْفقاً عن مَرْفقِ

و [قد] يستعملان معاً في الأمرِ، وفي الجارحة، حكاه الزجاج.
وحكى مكيٌّ، عن الفرَّاء أنه قال: "لا أعرفُ في الأمر، ولا في اليد، ولا في كلِّ شيء إلا كسر الميم".
قلت: وتواترُ قراءة نافعٍ والشاميين يردُّ عليه، وأنكر الكسائي كسر الميم في الجارحة، وقال: لا أعرفُ فيه إلا الفتح، وهو عكس قول تلميذه، ولكن خالفه أبو حاتم، وقال: "هو بفتح الميم: الموضع كالمسجد، وقال أبو زيد: هو بفتح الميم مصدر جاء على مفعلٍ" وقال بعضهم: هما لغتان فيما يرتفق به، فأمَّا الجارحةُ، فبكسر الميم فقط، وحكي عن الفراء أنه قال: "أهل الحجاز يقولون: "مرفقاً" بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به، ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب بعد يكسرون الميم منهما جميعاً" وأجاز معاذٌ فتح الميم والفاء، وهو مصدر كالمضرب والمقتل.
و "مِنْ أمْرِكُم" متعلق بالفعل قبله، و "مِنْ" لابتداء الغاية، أو للتبعيض.
وقيل: هي بمعنى بدلٍ، قاله ابن الأنباري، وأنشد: [الطويل]

3493- فَليْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزمَ شَرْبةً مُبرَّدةً باتتْ على طَهيَانِ

أي: بدلاً. ويجوز أن يكون حالاً من "مِرْفقاً" فيتعلق بمحذوفٍ.