قوله: { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً }.
قال قتادة: هذا من كلام القوم؛ لأنَّه تعالى قال: { { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف: 22] إلى أن قال: { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ } أي: إنَّ أولئك الأقوام، قالوا ذلك، ويؤيِّده قوله تعالى بعده { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } وهذا يشبهُ الردَّ على الكلام المذكور قبله.
ويؤيِّده أيضاً ما ورد في مصحف عبد الله: (وقالوا ولبثوا في كهفهم).
وقال آخرون: هو كلام الله تعالى أخبر عن كميَّة هذه المدَّة.
وأما قوله: { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } فهو كلامٌ تقدَّم، وقد تخلَّل بينه وبين هذه الآية ما يوجبُ انقطاع أحدهما عن الآخر، وهو قوله: { فلا تمار فِيهمْ إلاَّ مِراءً ظَاهِراً }.
وقوله تعالى: { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } لا يوجب أنَّ ما قبله حكاية؛ لأنَّه تعالى أراد بل الله أعلم بما لبثوا، فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب، والمعنى أن الأمر في مدَّة لبثهم، كما ذكرنا، فإن نازعوك فيها، فأجبهم فقل: { اللَّهُ أعْلمُ بِما لَبِثُوا } أي: فهو أعلم منكم، وقد أخبر بمدَّة لبثهم.
وقيل: إنَّ أهل الكتاب قالوا: إنَّ المدَّة من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاثمائة وتسع سنين، فردَّ الله عليهم، وقال: { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا، لا يعلمه إلاَّ الله.
قوله: { ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ }: قرأ الأخوان بإضافة "مِئةِ" إلى "سنين" والباقون بتنوين "مِئةٍ".
فأمَّا الأولى: فأوقع فيها الجمع موقع المفرد؛ كقوله: { { بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } [الكهف: 103]. قاله الزمخشريُّ يعني أنه أوقع "أعْمَالاً" موقع "عملاً" وقد أنحى أبو حاتمٍ على هذه القراءة ولا يلتفت إليه، وفي مصحف عبد الله "سنة" بالإفراد، وبها قرأ أبيّ، وقرأ الضحاك "سِنُونَ" بالواو على أنها خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هي سنُونَ.
وأمَّا الباقون، فلما لم يروا إضافة "مِئَة" إلى جمعٍ، نَوَّنُوا، وجعلوا "سِنينَ" بدلاً من "ثَلاثمائةٍ" أو عطف بيان.
قال البغويُّ: فإن قيل لِمَ قال: "ثلاثمائة سنين" ولم يقل سنة؟ فالجواب، لمَّا نزل قوله تعالى: { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ } فقالوا: أيَّاماً، أو شهوراً، أو سنين، فنزلت "سنين".
وقال الفراء: من العرب من يضع "سنين" موضع سنة.
ونقل أبو البقاء أنها بدل من "مِئَةٍ" لأنها في معنى الجمع. ولا يجوز أن يكون "سِنينَ" في هذه القراءة تمييزاً؛ لأنَّ ذلك إنما يجيء في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز؛ كقوله:
3507أ- إذَا عَاشَ الفَتَى مِئَتيْنِ عَاماً فَقدْ ذَهبَ اللَّذاذَةُ والفَتَاءُ
فصل
قيل: المعنى: ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة { وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً }.
قال الكلبيُّ: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة، فقد عرفناها، وأما التسع، فلا علم لنا بها، فنزلت: { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ }.
روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: عند أهل الكتاب: أنَّهم لبثُوا ثَلاثمائَةٍ شَمْسيَّة، والله تعالى ذَكرَ ثَلاثمَائةِ سنةٍ قمريَّة، والتَّفاوتُ بين الشَّمسية والقمريَّة في كلِّ مائةِ سنةٍ ثلاث سنين، فيكونُ ثَلاثمائَةٍ، وتِسْع سنينَ، فَلذلِكَ قال: "وازْدَادُوا تِسْعاً".
قال ابن الخطيب: وهذا مشكلٌ؛ لأنه لا يصحُّ بالحساب، فإن قيل: لِمَ لا قيل: ثلاثمائة، وتسع سنين؟.
وما الفائدة في قوله: "وازْدَادُوا تِسْعاً"؟.
فالجواب: أن يقال: لعلَّهم لما استكمل لهم ثلاثمائة سنة، قرب أمرهم من الانتباه، ثمَّ اتفق ما أوجب [بقاءهم في النَّوم] تسع سنين.
قوله: "تِسْعاً" أي: تسع سنين، حذف المميِّز؛ لدلالةِ ما تقدَّم عليه؛ إذ لا يقال: عندي ثلاثمائة درهم وتسعة، إلا وأنت تعني: تسعة دراهم، ولو أردتَّ ثياباً ونحوها، لم يجزْ؛ لأنه إلغازٌ، و "تِسْعاً" مفعولٌ به، وازداد: افتعل، أبدلت التاء دالاً بعد الزاي، وكان متعدِّياً لاثنين؛ نحو: { { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [الكهف: 13]، فلما بني على الافتعال، نقص واحداً.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية "تسعاً" بفتح التاء كعشرٍ.
قوله: { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدَّة من الناس الذين اختلفوا فيها؛ لأنَّه إله السموات والأرض ومدبِّر العالم له غيبُ السَّموات والأرض.
والغَيْبُ: ما يغيب عن إدراكك، والله - تعالى - لا يغيبُ عن إدراكه شيءٌ، ومن كان عالماً بغيب السموات والأرض، يكون عالماً بهذه الواقعة، لا محالة.
قوله: { أَبْصِرْ بِهِ }: صيغة تعجُّب بمعنى "مَا أبْصرَهُ" على سبيل المجاز، والهاء لله تعالى، وفي مثل هذا ثلاثة مذاهب: الأصح: أنه بلفظ الأمر، ومعناه الخبر، والباء مزيدة في الفاعل؛ إصلاحاً للفظ أي ما أبصر الله بكلِّ موجودٍ، وأسمعه بكلِّ مسموعٍ.
والثاني: أنَّ الفاعل ضمير المصدر.
والثالث: أنه ضمير المخاطب، أي: أوقع أيُّها المخاطب، وقيل: هو أمر حقيقة لا تعجب، وأن الهاء تعود على الهدى المفهوم من الكلام.
وقرأ عيسى: "أسْمعَ" و "أبْصرَ" فعلاً ماضياً، والفاعل الله تعالى، وكذلك الهاء في "به"، أي: أبصر عباده وأسمعهم.
وتقدَّم الكلام على هذه الكلمة عند قوله: { { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } [البقرة: 175].
قوله: { مَّا لَهُم } أي: ما لأهلِ السموات والأرض.
قوله: "مِنْ دُونهِ" أي: من دون الله.
قوله: "مِنْ وليٍّ" أي من ناصرٍ.
و "مِنْ وليٍّ" يجوز أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأ.
قوله: "ولا يُشْرِكُ" قرأ ابن عامر بالتاء والجزم [عطفاً على قوله: { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ } [الكهف: 23] وقوله: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ }] أي: ولا تشركْ أنت أيها الإنسانُ، والباقون بالياء من تحت، ورفع الفعل، أي: ولا يشرك الله في حكمه أحداً، فهو نفيٌ محضٌ.
فصل في المراد بالحكم في الآية
قيل: الحكم ها هنا علم الغيب، أي: لا يشركُ في علم غيبه أحداً.
وقرأ مجاهد وقتادة: "ولا يُشرِكْ" بالياء من تحت والجزم.
قال يعقوب: "لا أعرف وجهه". قال شهاب الدين: وجهه أنَّ الفاعل ضميرُ الإنسان، أضمر للعلم به.
والضمير في قوله "مَا لهُمْ" يعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عطية: "وتكون الآية اعتراضاً بتهديد" كأنَّه يعني بالاعتراض: أنهم ليسوا ممَّن سيق الكلام لأجلهم، ولا يريد الاعتراض الصِّناعي.
فصل
قوله: { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ }.
قيل: ما لأصحاب الكهف من دون الله وليٌّ؛ فإنَّه هو الذي يتولَّى حفظهم في ذلك النَّوم الطَّويل.
وقيل: ليس لهؤلاءِ القوم المختلفين في مدَّة لبث أصحاب الكهف وليٌّ من دون الله، يتولَّى أمرهم، ويقيم لهم تدبير أنفسهم، فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه، فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه؟!.
فصل
واختلفوا في زمن أصحاب الكهف وفي مكانهم، فقيل: كانوا قبل موسى - عليه الصلاة والسلام - وأنَّ موسى صلى الله عليه وسلم ذكرهم في التَّوراة، فلهذا سأل اليهودُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصَّتهم.
وقيل: دخلوا الكهف قبل المسيح، وأخبر المسيحُ بخبرهم، ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى، وبين محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنَّهم دخلوا الكهف بعد الميسح، حكى هذا القول القفَّال عن محمد بن إسحاق، وذكر أنهم لم يموتوا، ولا يموتون إلى يوم القيامة.
وأمَّا مكان الكهف، فحكى القفَّال عن محمد بن موسى الخُوارزميِّ المنجم: أن الواثق أنفذه؛ ليعرف حال أصحاب الكهف من ملك الرُّوم، قال: فوجَّه ملكُ الرُّوم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه.
وقيل: إنَّ الرجل قال: إنَّ الرجل الموكَّل بذلك الموضع فزَّعني من الدُّخول عليهم، قال: فدخلت فرأيت الشُّعور على صدورهم.
قال: وعرفت أنَّ ذلك تمويهٌ واحتيالٌ، وأنَّ الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة؛ لتصونها عن البلاء؛ كالتلطيخ بالصَّبر وغيره.
قال القفَّال: والذي عندنا أنَّ موضع أصحاب الكهف لا يعرف، ولا عبرة بقول أهل الرُّوم، وذكر الزمخشري عن معاوية "أنَّه لما غزا الرُّومَ، فمرَّ بالكهف، فقال: لو كشف عن هؤلاء، ننظر إليهم، فقال له ابن عباس: أيُّ شيءٍ لك في ذلك؟ قد منع الله من هو خيرٌ منك، فقال: { لَو اطَّلعتَ عَليْهِمْ، لولَّيتَ مِنهُمْ فِراراً، ولمُلِئْتَ مِنهُمْ رُعْباً }.
فقال: لا أنتهي عن ذلك، حتَّى أعلم حالهم، فبعث أناساً، فقال: اذهبوا، فانظروا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً، [فأخرجتهم]".
فصل
قال ابن الخطيب: والعلم بذلك الزَّمان، وذلك المكان، ليس للعقل فيه مجالٌ، وإنما يستفاد ذلك من نصٍّ، وهو مفقودٌ؛ فثبت أنَّه لا سبيل إليه.
قال ابن الخطيب: هذه السور الثلاث اشتملت كلُّ واحدة منها على حصول حالةٍ غريبةٍ عجيبةٍ نادرةٍ في هذا العالم: سورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بالجسد الشريف صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الشَّام، وهي حالة عجيبة، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدَّة ثلاثمائة سنةٍ، وأزيد، وهي أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب، وهي أيضاً حاله غريبة والمعتمد في بيان هذه العجائب، والغرائب المذكورة: أنَّه تعالى قادر على كلِّ الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات من الجزئيات والكليَّات، فإنَّ كلَّ ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات.
وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث، ولما كان قادراً على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن، فكذلك بقاؤهُ مدة ثلاثمائة سنةٍ، يوجب أن يكون ممكناً، بمعنى: أن إله العالم يحفظه عن الآفةِ.
وأما الفلاسفةُ فإنهم يقولون: لا يبعد وقوع أشكالٍ فلكية غريبة توجب في عالم الكون والفساد حصول أحوالٍ غريبة نادرة، وذكر أبو علي بن سفيان في "باب الزَّمان" من كتاب "الشِّفا" أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المباطيل حالةٌ شبيهة بأصحاب الكهف.
قال ابن سينا: ويدلُّ التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف.
قوله تعالى: { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ } الآية.
اعلم أن كفَّار قريش اجتمعوا، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الذين آمنوا بك، فنهاهُ الله عن ذلك، وبيّن في هذه الآيات أنَّ الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً، وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه، ولا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنتهم، فقال: { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ } أي التزم قراءة الكتاب الذي أوحي إليك والزم العمل به { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي: لا مغيِّر للقرآن، وهذه آية تدل على أنه لا يجوز تخصيص النصِّ بالقياس؛ لأن معنى الكلام: الزم العمل بمقتضى هذا الكتاب، وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره.
فإن قيل: فيجب ألا يتطرَّق النسخ إليه أيضاً.
فالجواب: أن هذا مذهبُ أبي مسلم الأصفهاني، وليس ببعيد، وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديلٍ؛ لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ، فالناسخ كالمغاير، فكيف يكون تبديلاً؟ ثم قال: { ولن تَجدِ مِنْ دُونهِ مُلتحداً } أي: ملجأ، قال أهل اللغة: هو من لحد وألحد: إذا مال، ومنه قوله { { ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ } [فصلت: 40] والملحدُ: الماثل عن الدِّين.
قال ابن عباس: حرزاً.
وقال الحسن: مدخلاً.
وقال مجاهد: ملجأ.
وقيل: ولن تجد من دونه ملتحداً في البيان والإرشاد.
قوله: { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ } أي: احبسها وثبتها قال أبو ذؤيب: [الكامل]
3507ب- فَصَبرْتُ نَفْساً عِنْدَ ذلِكَ حُرَّة تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجَبانِ تَطلَّعُ
وقوله: "بالغَداةِ" تقدَّم الكلام عليها في الأنعام.
فصل في نزول الآية
نزلت في عيينة بن حصن الفزاريِّ، أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، وعنده جماعةٌ من الفقراءِ فيهم سلمان، وعليه شملةٌ قد عرق فيها، وبيده خوصةٌ يشقها، ثم ينسجها؛ فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم: أما يؤذيكَ ريحُ هؤلاء؟ ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا، أسلم الناس، وما يمنعنا من اتِّباعِكَ إلاَّ هؤلاء، حتى نتبعك، واجعل لنا مجلساً، ولهم مجلساً، فأنزل الله تعالى: { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ }، أي: احبسْ يا محمد نفسك { مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } طرفي النَّهار، { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي: يريدون الله، لا يريدون به عرضاً من الدنيا.
وقال قتادة: نزلت في أصحاب الصُّفة، وكانوا سبعمائة رجلٍ فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة، ولا إلى زرع، يصلُّون صلاة، وينتظرون أخرى، فلما نزلت هذه الآية، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي جعل في أمَّتي من أمرتُ أن أصبر نفسي معهم" . وهذه القصة منقطعة عما قبلها، وكلامٌ مفيدٌ مستقلٌّ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام، وهو قوله تعالى: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } [الأنعام: 52] ففي تلك الآية نهى الرسول - عليه السلام - عن طردهم، وفي هذه الآية أمرهُ بمجالستهم والمصابرة معهم.
فصل في قراءات الآية
قرأ ابن عامر بالغداة والعشيّ، بضمِّ الغين، والباقون بالغَداة، وهما لغتان، فقيل: المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كلِّ الأوقاتِ كقول القائل: ليس لفلانٍ عمل بالغداة والعشيِّ إلاَّ شتم الناس، وقيل: المراد صلاة الفجر والعصر.
وقيل: المراد الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النَّوم إلى اليقظة، ومن اليقظة إلى النَّوم.
قوله: { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } فيه وجهان:
أحدهما: أن مفعوله محذوف، تقديره: ولا تعد عيناك النظر.
والثاني: أنه ضمِّن معنى ما يتعدَّى بـ "عَنْ" قال الزمخشريُّ: "يقال: عدَّاه، أي: جاوزه فإنما عدِّي بـ "عَنْ" لتضمين "عَدا" معنى نبا وعلا في قولك: نَبتْ عنه عينه، وعلتْ عنه عينه، إذا اقتحمته، ولم تعلق به، فإن قيل: أي غرضٍ في هذا التضمين؟ وهلاَّ قيل: ولا تعدهم عيناك، أو: ولا تعل عيناك عنهم؟ فالجواب: الغرض منه إعطاءُ مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى [فذٍّ] ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك متجاوزتين إلى غيرهم، ونحوه { { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [النساء: 2]، أي: لا تضمُّوها إليها آكلين لها".
وردَّه أبو حيان: بأنَّ مذهب البصريين أن التضمين لا ينقاس، وإنما يصار إليه عند الضرورة، فإذا أمكن الخروج عنه، فلا يصار إليه.
وقرأ الحسن "ولا تُعدِ عَينَيْكَ" من أعدى رباعيًّا، وقرأ هو، وعيسى، والأعمش "ولا تُعدِّ" بالتشديد، من عدَّى يعدِّي مضعفاً، عدَّاه في الأولى بالهمزة، وفي الثانية بالتثقيل؛ كقول النابغة: [البسيط]
3508- فَعدِّ عَمَّا تَرَى إذْ لا ارتِجاعَ لهُ وانْمِ القُتودَ على عَيْرانةٍ أجُدِ
كذا قال الزمخشري، وأبو الفضل، وردَّ عليهما أبو حيان: بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزة، أو التضعيف، لتعدَّى لاثنين؛ لأنه قبل ذلك متعد لواحد بنفسه، وقد أقرَّ الزمخشري بذلك؛ حيث قال: "يقال: عداهُ إذا جاوزه، وإنَّما عدِّي بـ "عن" لتضمنه معنى علا، ونبا" فحينئذٍ يكون "أفْعلَ" و "فعَّل" ممَّا وافقا المجرَّد وهو اعتراضٌ حسنٌ.
فصل
يقال: عدَّاه، إذا جاوزه، ومنه قولهم: عدا طورهُ، وجاءني القومُ عدا زيداً؛ لأنَّها تفيد المباعدة، فكأنَّه تعالى نهى نبيَّه عن مباعدتهم، والمعنى: لا تزدري فقراء المؤمنين، ولا تثني عينيك عنهم؛ لأجل مجالسة الأغنياء.
ثم قال: "تُريدُ" جملة حالية، ويجوز أن يكون فاعل "تريدُ" المخاطب، أي: تريد أنت، ويجوز أن يكون ضمير العينين، وإنما وحِّد؛ لأنهما متلازمان يجوز أن يخبرَ عنهما خبر الواحد، ومنه قول امرىء القيس: [الهزج]
3509- لِمَنْ زُحلوفَةٌ زُلُّ بِهَا العَيْنانِ تَنهَلُّ
وقول الاخر: [الكامل]
3510- وكَأنَّ في العَيْنينِ حبَّ قَرنْفُلٍ أو سُنْبُلاً كُحلَتْ بِهِ فانهَلَّتِ
وفيه غير ذلك، ونسبة الإرادة إلى العينين مجازٌ، وقال الزمخشري: "الجملة في موضع الحال" قال أبو حيان: "وصاحبُ الحال، إن قدِّر "عَيْناكَ" فكان يكون التركيبُ: يريدان". قال شهاب الدين: غفل عن القاعدة المتقدِّمة: من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يخبر عنهما إخبار الواحد، ثم قال: "وإن قدَّر الكاف، فمجيءُ الحال من المجرورِ بالإضافة نحو هذا فيه إشكالٌ؛ لاختلاف العامل في الحال، وذي الحال، وقد أجاز ذلك بعضهم، إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزءِ، وحسَّن ذلك أنَّ المقصود هو نهيه - عليه الصلاة والسلام - وإنما جيء بقوله "عَيْناكَ" والمقصود هو؛ لأنَّهما بهما تكونُ المراعاة للشخص والتلفُّتُ له".
قال شهاب الدين: وقد ظهر لي وجهٌ حسنٌ، لم أر غيري ذكره: وهو أن يكون "تَعْدُ" مسنداً لضمير المخاطب صلى الله عليه وسلم، و "عَيْناكَ" بدلا من الضمير، بدل بعض من كل، و "تُرِيدُ" على وجهيها من كونها حالاً من "عَيْناكَ" أو من الضمير في "تَعْدُ" إلا أن في جعلها حالاً من الضمير في "ولا تعدُ" ضعفاً؛ من حيث إنَّ مراعاة المبدل منه بعد ذكر البدل قليلٌ جدًّا، تقول: "الجاريةُ حسنها فاتنٌ" ولا يجوز "فَاتِنةٌ" إلاَّ قليلاً، كقوله:
3511أ- فَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّراة كأنَّهُ مَا حَاجِبَيْهِ مُعيَّنٌ بِسوَادِ
فقال: "مُعيَّنٌ" مراعاة للهاء في "كَأنَّه" وكان الفصيحُ أن يقول: "مُعيَّنانِ" مراعاة لحاجبيه الذي هو البدل.
فصل
{ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا }، أي تطلب مجالسة الأغنياء، والأشراف، وصحبة أهل الدنيا، ولما جاء أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين، نهاه عن الالتفات إلى قول الأغنياء والمتكبرين، فقال: { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } يعني عيينة بن حصين، وقيل: أميَّة بن خلف، { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } في طلب الشَّهوات { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } قال قتادة ومجاهد: ضياعاً.
وقيل: ندماً، وقال مقاتلٌ: سرفاً.
وقال الفراء: متروكاً.
وقيل: باطلاً.
وقال الأخفش: مجاوزاً للحدِّ.
قوله: "أغْفَلنَا قَلبَهُ" العامة على إسناد الفعل لـ "نا" و "قلبهُ" مفعول به.
وقرأ عمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وموسى الأسواري بفتح اللام، ورفع "قَلبهُ" أسندوا الإغفال إلى القلب، وفيه أوجهٌ، قال ابن جنِّي: من ظنَّنا غافلين عنه. وقال الزمخشريُّ: "من حَسِبنَا قلبُه غافلينَ، من أغفلته، إذا وجدته غافلاً". وقال أبو البقاء: فيه وجهان:
أحدهما: وجدنا قلبه معرضين عنه.
والثاني: أهمل أمرنا عن تذكُّرنا.
قوله: "فرطاً" يحتمل أن يكون وصفاً على "فعلٍ" كقولهم: "فَرسٌ فرط"، أي: متقدِّمٌ على الخيل، وكذلك هذا، أي: متقدِّماً للحقِّ، وأن يكون مصدراً بمعنى التفريط، أو الإفراط، قال ابن عطيَّة: الفرط: يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتَّضييع، أي: أمرهُ الذي يجب أن يلزم، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف.
قال الليث: الفرط: الأمرُ الذي يفرط فيه، يقال: كلُّ أمر فلانٍ فرطٌ، وأنشد: [الهزج]
3511ب- لَقدْ كَلَّفْتنِي شَطَطَا وأمْراً خائباً فُرُطا
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهَّال.
قالت المعتزلة: المراد بقوله: { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا }: وجدنا قلبه غافلاً، وليس المراد منه: خلق الغفلة.
ويدلُّ عليه ما روي عن عمرو بن معدي كرب الزبيديِّ أنَّه قال لبني سليم: "قَاتَلنَاكُمْ فَما أجَبْنَاكُمْ، وسَألناكُمْ فَما أبْخَلْناكُمْ، وهَجرْنَاكُمْ فمَا أفْحَمناكُمْ" أي ما وجدناكم جبناء، ولا بخلاء، ولا مفحمين.
وحمل اللفظ على هذا المعنى أولى؛ لوجوه:
الأول: لو كان كذلك، لما استحقُّوا الذمَّ.
الثاني: أنه قال بعد هذه الآية { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه، لما صحَّ ذلك.
الثالث: أنه لو خلق الغفلة في قلبه، لوجب أن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، فاتبع هواهُ؛ لأن على هذا التقدير: يكون ذلك من أفعالِ المطاوعة، وهي إنما تعطف بالفاءِ، لا بالواو، يقال: كسرتهُ، فانكسر، ودفعته فاندفع، ولا يقال: وانكسر، واندفع.
الرابع: قوله: { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } فلو أغفل قلبهم في الحقيقة، لم يجز أن يضاف ذلك إلى { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ }.
والجواب عن الأول من وجهين:
الأول: أن الاشتراك خلاف الأصل، فوجب أن يكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر، وجعله حقيقة في التكوين، مجازاً في الوجدان أولى من العكس؛ لوجوه:
أحدها: مجيءُ بناءِ الأفعال بمعنى التَّكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان، والكثرة دليلٌ على الرُّجحان.
وثانيها: أن مبادرة الفهم من هذا البناءِ إلى التَّكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان، ومبادرة الفهم دليل الرجحان.
وثالثها: إنَّ جَعْلَنا إيَّاه حقيقة في التكوين أمكن من جعله مجازاً عن الوجدان؛ لأنَّ العلم بالشيء تابعٌ لحصول المعلوم، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوعِ مجازاً في التَّبع موافقٌ للمعقول، أمَّا لو جعلناه حقيقة في الوجدان، مجازاً في الإيجاد، لزم جعله حقيقة في التَّبع مجازاً في الأصل، وهو عكسُ المعقول.
والوجه الثاني من الجواب: سلَّمنا كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان، إلاَّ أنَّا نقول: يجب حمل قوله: "أغْفَلْنَا" على إيجاد الغفلة؛ لأنَّ الدليل دلَّ على أنَّه يمتنع كون العبدُ موجداً للغفلة في نفسه؛ لأنَّه إذا حاول إيجاد الغفلة، فإمَّا أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة، أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معيَّن، والأول باطلٌ، وإلاَّ لم يكن حصول الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن يحصل له الغفلة عن شيءٍ آخر؛ لأنَّ الطبيعة المشتركة فيها بين الأنواعِ الكثيرةِ تكون نسبتها إلى كلِّ تلك [الأنواع] على السويَّة.
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ الغفلة عبارةٌ عن غفلة لا تمتاز عن سائر الأقسام، إلاَّ بكونها منتسبة إلى ذلك الشيء المعيَّن بعينه، فعلى هذا: لا يمكن أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا، إلاَّ إذا تصوَّر العلم أن كون تلك الغفلة غفلة عن كذا، ولا يمكنه أن يتصوَّر تلك الغفلة غفلة عن كذا إلاَّ إذا تصوَّر كذا؛ لأنَّ العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروطٌ بتصوُّر كلِّ واحد من المنتسبين؛ فثبت أنَّه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة، إلاَّ عند الشعور بكذا، لكن الغفلة عن كذا ضدُّ الشعور بكذا؛ فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة إلاَّ عند اجتماع الضدين، وذلك محالٌ، والموقوف على المحال محالٌ، فثبت أنَّ العبد غير قادرٍ على إيجاد الغفلة؛ فوجب أن يكون خالقُ الغفلة وموجدها في العباد هو الله تعالى، وأما المدحُ والذمُّ فمعارضٌ بالعلم والدَّاعي، وقد تقدَّم.
وأما قوله: { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29] فسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى.
وأما قولهم: لو كان المراد إيجاد الغفلة، لوجب ذكر الفاء، فهذا إنَّما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتِّباع الشَّهوة والهوى، كما أن الكسر من لوازمه حصول الانكسار، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى؛ لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله، ولا يتَّبع الهوى، بل يبقى متوقِّفاً حيراناً مدهوشاً خائفاً.
وذكر القفَّال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً:
أحدها: أنه تعالى، لما صبَّ عليهم الدنيا صبًّا، وأدَّى ذلك إلى حصول الغفلة في قلوبهم، صحَّ أن يقال: إنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم، كقوله تعالى: { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } [نوح: 6].
وثانيها: أن معنى { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي: تركناه، فلم نسمهُ بسمةِ أهل الطَّهارة والتقوى.
وثالثها: { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي خلاَّه مع الشيطان، ولم يمنعه منه. والجواب عن الأول: أنَّ فتح أبواب لذَّات الدنيا عليه، هل يؤثِّر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر؟ فإن أثر، كان أثر إيصال اللذَّات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه، وذلك عينُ القول بأنه فعل الله، أي: فعل ما يوجب الغفلة في قلبه، وإن لم يؤثِّر في حصول الغفلة، فبطل إسناده إليه، وعلى الثاني وهو أنَّه بمعنى تركناه فهو لا يفيدُ إلاَّ ما ذكرناه.
وعن الثالث: إن كانت للتَّخلية؛ بمعنى حصول تلك الغفلة، فهو قولنا، وإلاَّ بطل إسناد تلك الغفلة إلى الله تعالى.
قوله تعالى: { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } الآية.
في تقرير النَّظم وجوهٌ:
الأول: أنه تعالى، لمَّا أمر رسوله ألا يلتفت إلى قول الأغنياء، قال: { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } الآية أي: قل لهؤلاء: هذا الدِّين الحق من عند الله تعالى، فإن قبلتموه، عاد النَّفع عليكم، وإن لم تقبلوهُ، عاد الضَّرر إليكم، ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى.
والثاني: أنَّ المراد أنَّ الحقَّ ما جاء من عند الله، والحقَّ الذي جاءنا من عنده أن أصير نفسي مع هؤلاء الفقراء، ولا أطردهم، ولا ألتفت إلى الرؤساء، [ولا أنظر إلى] أهل الدنيا.
والثالث: أن يكون المراد هو أنَّ الحقَّ الذي جاء من عند الله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } وأنَّ الله تعالى لم يأذن في طرد أحدٍ ممَّن آمن وعمل صالحاً؛ لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار.
فإن قيل: أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهمِّ، وطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلاَّ سقوط حرمتهم، وهذا ضررٌ قليلٌ.
وأما عدم طردهم، فإنَّه يوجبُ بقاء الكفَّار [على الكفر وهذا ضررٌ عظيمٌ؟.
فالجواب: سلَّمنا أنَّ عدم طردهم يوجبُ بقاء الكفَّار على الكفر]، لكن من ترك الإيمان؛ حذراً من مجالسة الفقراء، فإنَّ إيمانهُ ليس بإيمان، بل هو نفاقٌ؛ فيجب على العاقل ألاَّ يلتفت إلى من هذا حاله.
الرابع: قل يا محمد للَّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: يا أيُّها الناس، من ربكم الحقُّ، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضَّلال، ليس إليَّ من ذلك شيءٌ، وقد بعثتُ إلى الفقراءِ والأغنياء { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } وهذا على طريق التهديد والوعيد، كقوله { { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُم } [فصلت: 40] والمعنى: لست بطارد المؤمنين لهواكم، فإن شئتم، فآمنوا، وإن شئتم، فاكفروا.
قال ابن عبَّاس: معنى الآية: من شاء الله له الإيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر.
فصل
قالت المعتزلة: هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الإيمان والكفر والطاعة والمعصية باختيار العبد.
قال ابن الخطيب: وهذه الآية من أقوى الدَّلائلِ على صحَّة مذهب أهل السُّنَّة؛ لأنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ حصول الإيمان، وحصول الكفر موقوفان على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر، وصريح العقل يدلُّ على أنَّ الفعل الاختياريَّ يمتنع حصوله بدون القصد إليه، وبدون الاختيار.
وإذا عرفت هذا، فنقول: حصول ذلك القصد والاختيار، إن كان بقصدٍ آخر يتقدَّمه، لزم أن يكون كلُّ قصدٍ واختيارٍ مسبوقاً بقصدٍ آخر، واختيارٍ آخر إلى غير نهاية، وهو محالٌ؛ فوجب انتهاء ذلك القصد والاختيار إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة، وعند حصول ذلك القصد الضروريِّ، والاختيار الضروريِّ، يجب الفعل؛ فالإنسان شاء أو لم يشأ، فإنه تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعاصي، وإذا حصلت تلك المشيئةُ الجازمةُ، فشاء أو لم يشأ، يجب حصول الفعل، فالإنسان مضطرٌّ في صورة مختار.
فصل
دلَّت الآية على أنَّ صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والدَّاعي محالٌ، وعلى أنَّ صيغة الأمر لا لمعنى الطَّلب في كتاب الله كثيرةٌ.
قال عليٌّ - رضي الله عنه -: هذه الصيغة تهديدٌ ووعيدٌ، وليست تخييراً.
ودلَّت أيضاً على أنَّه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين، ولا يتضرر بكفر الكافرين، بل نفع الإيمان يعود عليهم، وضرر الكفر يعود عليهم؛ لقوله تعالى: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء: 7].
قوله: { وَقُلِ ٱلْحَقُّ }: يجوز فيه ثلاثة أوجه:
الأول: أنه خبر لمبتدأ مضمرٍ، أي: هذا، [أي] القرآن، أو ما سمعتم الحقُّ.
الثاني: أنه فاعل بفعلٍ مقدرٍ، دلَّ عليه السياقُ، أي: جاء الحق، كما صرَّح به في موضع آخر [في الآية 81 من الإسراء]، إلاَّ أنَّ الفعل لا يضمر إلاَّ في مواضع تقدَّم التنبيه عليها، منها: أن يجاب به استفهام، أو يردَّ به نفي، أو يقع بعد فعلٍ مبني للمفعول، لا يصلح إسناده لما بعده؛ كقراءة: { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [النور: 36] كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
الثالث: أنه مبتدأ، وخبره الجار بعده.
وقرأ أبو السمال قعنب: "وقُلُ الحقَّ" بضم اللام؛ حيث وقع، كأنه إتباعٌ لحركة القاف، وقرأ أيضاً بنصب "الحقَّ" قال صاحب "اللَّوامح": "هو على صفة المصدر المقدَّر؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على مصدره، وإن لم يذكر، فينصبه معرفة، كما ينصبه نكرة، وتقديره: وقل القول الحقَّ، وتعلق "مِنْ" بمضمرٍ على ذلك، أي: جاء من ربكم" انتهى.
وقرأ الحسن والثقفي بكسر لامي الأمر، في قوله: "فليُؤمِنْ" و "فَليَكْفُرْ" وهو الأصل.
قوله: { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن } يجوز في "مَنْ" أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، والفاء لشبهه بالشرط، وفاعل "شَاءَ": الظاهر أنه ضمير يعود على "مَنْ" وقيل: ضمير يعود على الله، وبه فسَّر ابن عباس، والجمهور على خلافه.
قوله: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } أعددنا وهيَّأنا، من العتاد، ومن العدَّة { لِلظَّالِمِينَ } للكافرين، أي: لمن ظلم نفسه، ووضع العبادة في غير موضعها.
واعلم أنَّه تعالى، لمَّا وصف الكفر والإيمان، والباطل والحق، أتبعه بذكر الوعيد على الكفر، وبذكر الوعد على الإيمان، و العمل الصَّالح.
قوله: { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } في محل نصبٍ، صفة لـ "ناراً" والسُّرادِقُ: قيل: ما أحاط بشيءٍ، كالمضرب والخباءِ، وقيل للحائط المشتمل على شيء: سُرادق، قاله الهوريّ، وقيل: هو الحجرة تكون حول الفسطاطِ، وقيل: هو ما يمدُّ على صحنِ الدار، وقيل: كل بيتٍ من كرسفٍ، فهو سرادق، قال رؤبة: [الرجز - السريع]
3512- يَا حكمُ بْنَ المُنذِرِ بْنِ الجَارُودْ سُرَادِقُ المَجْدِ عَليْكَ مَمدُودْ
ويقال: بيت مسردقٌ، قال الشاعر: [الطويل]
3513- هو المُدخِلُ النُّعْمانَ بيْتاً سَماؤهُ صُدورُ الفُيولِ بعد بيتٍ مُسرْدَقِ
وكان أبرويز ملك الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أرجُلِ الفيلةِ، والفيول: جمع فيلٍ، وقيل: السُّرادقُ: الدِّهليزُ، قال الفرزدق: [الطويل]
3514- تَمنَّيْتهُمْ حتَّى إذا مَا لَقِيتَهُم تَركْتَ لَهُم قَبْلَ الضِّرابِ السُّرادِقَا
والسُّرادِقُ: فارسي معرب، أصله: سرادة، قاله الجواليقيُّ، وقال الراغب: "السُّرادِقُ فارسيٌّ معربٌ، وليس في كلامهم اسم مفرد، ثالث حروفه ألفٌ بعدها حرفان".
فصل
أثبت تعالى للنَّار شيئاً شبيهاً بالسرادقِ تحيط بهم من سائرِ الجهاتِ، والمراد: أنهم لا مخلص لهم فيها، ولا فُرجة، بل هي محيطة بهم من كلِّ الجوانب.
وقيل: المراد بهذا السُّرادق الدخان الذي وصفه الله تعالى في قوله: { { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } [المرسلات: 30].
وقالوا: هذه الإحاطة بهم إنَّما تكون قبل دخولهم، فيحيط بهم هذا الدخان كالسرادق حول الفسطاط.
وروى أبو سعيد الخدريُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سُرادِقُ النَّارِ أربعةُ جُدرٍ، كِثفُ كلِّ جدارٍ مَسِيرةُ أرْبعِينَ سنةً".
وقال ابن عبَّاس: السُّرادِقُ حائط.
قوله: { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ }، أي: يطلبوا الغوث، والياء عن واوٍ؛ إذ الأصل: يستغوثوا، فقلبت الواو ياء كما تقدم في قوله: { { نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 2] وهذا الكلام من المشاكلة والتَّجانس، وإلاَّ فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم؛ كقوله: [الوافر]
3515-............... تَحِيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وجيعُ
وهو كثيرٌ.
وقوله: "كالمُهْل" صفة لـ "ماء" والمهلُ: دُرْدِيُّ الزيت، وقيل: ما أذيب من الجواهر كالنحاس والرصاص والذهب والفضة.
وعن ابن مسعود أنَّه دخل بيت المال، وأخرج ذهباً وفضة كانت فيه، وأوقد عليها، حتَّى تلألأتْ، وقال: هذا هو المهل.
وقيل: هو الصَّديد والقيح.
وقيل: ضرب من القطران، والمَهَل بفتحتين: التُّؤدَةُ والوَقارُ، قال: { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ } [الطارق: 17].
قوله: "يَشوي الوجوه" يجوز أن تكون الجملة صفة ثانية، وأن تكون حالاً من "ماء" لأنه تخصَّص [بالوصف]، ويجوز أن تكون حالاً من الجارِّ، وهو الكاف.
والشَّيءُ: الإنضاجُ بالنار من غير مرقةٍ، تكون مع ذلك الشيء المشويِّ.
فصل
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بِماءِ كالمُهْلِ" قال: كعكر الزَّيت، فإذا قرِّب إليه، سقطت فروة وجهه فيه.
وسئل ابن مسعود عن المهل، فدعا بذهب وفضة، فأوقد عليهما النَّار، حتَّى ذابا، ثم قال: هذا أشبه شيءٍ بالمهل.
قيل: إذا طلبوا ماء للشُّرب، فيعطون هذا المهل.
قال تعالى: { تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً تُسْقَىٰ مِن عَيْنٍ ءَانِيَةٍ } [الغاشية: 4، 5].
وقيل: إنَّهم يستغيثون من حرِّ جهنَّم، فيطلبون ما ء يصبونه على وجوههم للتبريد، فيعطون هذا الماء؛ كما حكى عنهم قولهم: { { أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ } [الأعراف: 50].
قوله: { بِئْسَ ٱلشَّرَابُ } المخصوص محذوف، تقديره: هو، أي: ذلك الماء المستغاث به.
قوله: { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } "ساءت" هنا متصرفة على بابها، وفاعلها ضمير النار، ومرتفقاً تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية، أي: ساء، وقبح مرتفقها. والمُرتَفقُ: المُتَّكأ ومنه سمي المرفق مرفقاً؛ لأنه يتكأ عليه، وقيل: المنزل قاله ابن عبَّاس.
وقال مجاهد: مجتمعاً للرُّفقة؛ لأنَّ أهل النَّار يجتمعون رفقاء، كما يجتمع أهل الجنَّة رفقاء.
فأمَّا رفقاء أهل الجنَّة، فهم الأنبياءُ والصِّديقُون والشُّهداء والصالحون { وَحَسُنَ أُوْلَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69].
وأما رفقاء النَّار، فهم الكفَّار والشَّياطين، أي: بئسَ الرفقاءُ هؤلاءِ، وبئس موضعُ الترافق النَّار، كما أنه نعم الرفقاءُ أهل الجنَّة، ونعم موضع الرفقاء الجنَّة، قاله ابن عباس وقيل: هو مصدر بمعنى الارتفاق، وقيل: هو من باب المقابلة أيضاً؛ كقوله في وصف الجنة بعد: { { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [الكهف: 31]، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري: إلا أن يكون من قوله: [البسيط]
3516- إنِّي أرِقْتُ فَبِتُّ اللَّيْلَ مُرتفِقاً كَأنَّ عينيَّ فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
فهو يعني من باب التَّهكُّم.