خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً
٣٠
أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً
٣١
-الكهف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } الأية.
لما ذكر وعيد المبطلين، أردفه بوعد المحقِّين، وهذه الآية تدل على أنَّ العمل الصالح مغايرٌ للإيمان؛ لأنَّ العطف يوجب المغايرة.
قوله: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ }: يجوز أن يكون خبر "إنَّ الَّذينَ" والرابط: إمَّا تكرر الظاهر بمعناه، وهو قول الأخفش، ومثله في الصلة جائزٌ، ويجوز أن يكون الرابط محذوفاً، أي: منهم، ويجوز أن يكون الرابط العموم، ويجوز أن يكون الخبر قوله: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ } ويكون قوله: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } اعتراضاً، قال ابن عطية: ونحوه في الاعتراض قوله: [البسيط]

3517- إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ الله ألبَسهُ سِربَالَ مُلكٍ بهِ تُزْجَى الخَواتِيمُ

قال أبو حيَّان: ولا يتعيَّنُ أن يكون "إنَّ الله ألبسَهُ" اعتراضاً؛ لجواز أن يكون خبراً عن "إنَّ الخليفة". قال شهاب الدين: وابن عطيَّة لم يجعل ذلك معيَّناً بل ذكر أحد الجائزين فيه، ويجوز أن تكون الجملتان- أعني قوله: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } وقوله { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ } - خبرين لـ "إنَّ" عند من يرى جواز تعدد الخبر، وإن لم يكونا في معنى خبر واحد.
وقرأ الثقفيُّ "لا نُضيِّعُ" بالتشديد، عدَّاه بالتشديد، كما عدَّاه الجمهور بالهمزة.
وقيل: ولك أن تجعل "أولئك" كلاماً مستأنفاً بياناً للأجرِ المبهمِ.
فصل
قال ابن الخطيب: قوله: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ظاهره يقتضي أنَّه استوجب المؤمن على الله بحسن عمله أجراً، وعندنا الاستيجاب حصل بحكم الوعد. وعند المعتزلة: بذات الفعل، وهو باطلٌ؛ لأنَّ نعم الله كثيرةٌ، وهي موجبةٌ للشكر والعبوديَّة، فلا يصير الشُّكر والعبودية بموجبٍ لثوابٍ آخر؛ لأنَّ أداء الواجب لا يوجبُ شيئاً آخر.
واعلم أنَّه تعالى، لمَّا أثبت الأجر المبهم، أردفه بالتفصيل، فبيَّن أولاً صفة مكانهم، فقال: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدنُ في اللغة عبارة عن الإقامة، يقال: عدن بالمكان، إذا أقام به، فيجوز أن يكون المعنى: أولئك لهم جنات إقامة [كما يقال: دار إقامة]
ويجوز أن يكون العدن اسماً [الموضع] معيَّن في الجنَّة، وهو وسطها.
وقوله: "جنَّاتُ" اسم جمع، فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46] ثم قال: { { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [الرحمن: 62] ويمكن أن يكون المراد نصيب كلِّ واحدٍ من المكلَّفين جنَّة على حدةٍ، ثم ذكر أنَّ من صفات تلك الجنات أنَّ الأنهار تجري من تحتها، وذلك لأنَّ أحسن مساكن الدنيا البساتين التي تجري فيها الأنهار، ثمَّ ذكر ثانياً أنَّ لباسهم فيها ينقسم قسمين: لباسُ التستُّر، ولباس التحلِّي.
فأمَّا لباس التحلِّي فقال: { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } فقيل: على كلِّ واحد منهم ثلاثة أسورة: سوارٌ من ذهبٍ لهذه الآية، وسوار من فضَّة؛ لقوله:
{ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } [الإنسان: 21]، وسوار من لؤلؤ؛ لقوله { وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23].
وأمَّا لباسُ التستُّر، فلقوله: { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ }.
فالأول: هو الدِّيباجُ الرَّقيق.
والثاني: هو الديباجُ الصَّفيق.
وقيل: أصله فارسيٌّ معرَّبٌ، وهو "إستبره": أي غليظٌ.
قوله: { مِنْ أَسَاوِرَ }: في "مِنْ" هذه أربعة أوجه:
الأوّل: أنها للابتداءِ.
والثاني: أنها للتبعيض.
والثالث: أنها لبيان الجنس، أي: أشياء من أساور.
والرابع: أنها زائدة عند الأخفش؛ ويدلُّ عليه قوله:
{ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ } [الإنسان: 21]. [ذكر هذه الثلاثة الأخيرة أبو البقاء].
وأساور جمع أسورةٍ، [وأسْوِرَة] جمع سِوار، كحِمار وأحْمِرة، فهو جمع الجمع. وقيل: جمع إسوارٍ، وأنشد: [الرجز]

3518- واللهِ لَوْلاَ صِبْيَةٌ صِغَارُ كَأنَّمَا وجُوهُهمْ أقْمَارُ
أخَافُ أنْ يُصِيبَهُمْ إقْتَارُ أو لاطِمٌ ليْسَ لهُ إسْوَارُ
لمَّا رَآنِي مَلِكٌ جَبَّارُ بِبَابهِ مَا طَلَعَ النَّهارُ

وقال أبو عبيدة: هو جمع "إسوارٍ" على حذف الزيادة، وأصله أساوِيرُ.
وقرأ أبان، عن عاصم "أسْوِرَة" جمع سوارٍ، وستأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف [الزخرف: 30] هاتان القراءتان في المتواتر، وهناك يذكر الفرق إن شاء الله تعالى.
والسِّوارُ يجمع في القلَّة على "أسْوِرَةٍ" وفي الكثرة على "سُورٍ" بسكون الواو، وأصلها كقُذلٍ وحُمرٍ، وإنما سكنت؛ لأجل حرف العلَّة، وقد يضمُّ في الضرورة، قال: [السريع]

3519- عَنْ مُبرِقاتٍ بالبُرِينِ وتَبْــ ــدُو في الأكُفِّ اللامعاتِ سُورْ

وقال أهل اللغة: السِّوارُ: ما جعل في الذِّراعِ من ذهبٍ، أو فضَّة، أو نحاسٍ، فإن كان من عاج، فهو قلبٌ.
قوله: "مِنْ ذهبٍ" يجوز أن تكون للبيان، أو للتبعيض، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ؛ صفة لأساور، فموضعه جرٌّ، وأن تتعلق بنفس "يُحلَّوْنَ" فموضعها نصبٌ.
قوله: "ويَلْبَسُونَ" عطف على "يُحلَّوْن" وبني الفعل في التحليةِ للمفعول؛ إيذاناً بكرامتهم، وأنَّ غيرهم يفعل بهم ذلك ويزيِّنهم به، كقول امرىء القيس: [الطويل]

3520- عَرائِسُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمَةٍ يُحلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفقَّرا

بخلاف اللِّبس، فإنَّ الإنسان يتعاطاه بنفسه، وقدِّم التَّحلِّي على اللباس؛ لأنه أشهى للنَّفس.
وقرأ أبان عن عاصم "ويَلْبِسُونَ" بكسر الباء.
قوله: { مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } "مِنْ" لبيانِ الجنس، وهي نعتٌ لثياب.
والسُّندسُ: ما رقَّ من الدِّيباج، والإستبرق: ما غلظ منه وعن أبي عمران الجونيِّ قال: السُّندسُ: هو الديباجُ المنسوج بالذَّهب، وهما جمعُ سندسةٍ وإستَبْرقةٍ، وقيل: ليسا جمعين، وهل "إسْتَبْرق" عربيُّ الأصل، مشتقٌّ من البريق، أو معرب أصله إستبره؟ خلاف بين اللغويين. وقيل: الإستبرق اسم للحرير وأنشد للمرقش: [الطويل]

3521- تَراهُنَّ يَلبَسْنَ المشَاعِر مرَّةً وإسْتَبْرَقُ الدِّيباجِ طَوراً لِباسُهَا

وهو صالحٌ لما تقدَّم، وقال ابن بحرٍ: "الإستبرقُ: ما نسج بالذَّهب".
ووزن سُنْدسٍ: فُعْلُلٌ، ونونه أصليةٌ.
وقرأ ابن محيصن "واستبرق" بوصل الهمزة وفتح القافِ غير منونة، فقال ابن جنِّي: "هذا سهوٌ، أو كالسَّهو" قال شهاب الدين: كأنه زعم أنَّه منعه الصَّرف، ولا وجه لمنعه؛ لأنَّ شرط منع الاسم الأعجمي: أن يكون علماً، وهذا اسم جنسٍ، وقد وجَّهها غيره على أنه جعلها فعلاً ماضياً من "البريق" و "استَفْعَلَ" بمعنى "فعل" المجرد؛ نحو: قرَّ، واستقرَّ. وقال الأهوازيُّ في "الإقناعِ": "واسْتَبْرَقَ بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه" وظاهر هذا أنه اسم، وليس بفعلٍ، وليس لمنعه وجه؛ كما تقدَّم عن ابن جنِّي، وصاحب "اللوامح" لمَّا ذكر وصل الهمزة، لم يزد على ذلك، بل نصَّ على بقائه منصرفاً، ولم يذكر فتح القاف أيضاً، وقال ابنُ محيصنٍ: "واسْتَبْرَق" بوصل الهمزة في جميع القرآن، فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً؛ على غير قياسٍ، ويجوز أنَّه جعله عربيًّا من بَرِق يبرقُ بريقاً، ووزنه استفعل، فلمَّا سمِّي به، عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة، ومعاملة التمكين من الأسماء في الصَّرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنَّه عربية، وليس بمستعربٍ، دخل في كلامهم، فأعربوه.
قوله: "مُتَّكئين" حالٌ، والأرائِكُ: جمع أريكةٍ، وهي الأسرَّة، بشرط أن تكون في الحجالِ، فإن لم تكن لم تسمَّ أريكة، وقيل: الأرائكُ: الفرشُ في الحجالِ أيضاً، وقال الراغب: "الأريكةُ: حجلة على سريرٍ، فتسميتها بذلك: إمَّا لكونها في الأرض متَّخذة من أراك، أو من كونها مكاناً للإقامة؛ من قولهم: أَرَكَ بالمكانِ أروكاً، وأصل الأروكِ الإقامة على رعي الأرَاكِ، ثم تجوز به في غيره من الإقامات".
وقرأ ابن محيصن "عَلَّرائِكِ" وذلك: أنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف، فالتقى مثلان: لام "على" - فإنَّ ألفها حذفت؛ لالتقاء الساكنين - ولام التعريف، واعتدَّ بحركة النقل، فأدغم اللام في اللام؛ فصار اللفظ كما ترى، ومثله قول الشاعر: [الطويل]

3522- فَمَا أصْبحَتْ عَلَّرْضِ نفسٌ بَريئةٌ ولا غَيْرُهَا إلاَّ سُليْمَانُ نَالهَا

يريد "عَلَى الأرض" وقد تقدَّم قراءة قريبة من هذه أوَّل البقرة: "بما أنزِلَّيكَ"، أي: أنزل إليك.
قوله: "نعم الثواب" أي: نعم الجزاء.
قوله: { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } مجلساً، ومقرّاً، وهذا في مقابلة قوله:
{ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [الكهف: 29].