قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ } الآية.
قد تقدَّم في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الرُّوح، فقوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ } هو ذلك السؤال، واختلفوا في ذي القرنين، فقيل: هو الإسكندر بن فيلبوس اليونانيُّ، وقيل: كان اسمه مرزبان بن مرزبة من ولد يونان بن يافث بن نوحٍ، وكان أسود، قال بعضهم: كان نبيًّا، لقوله تعالى: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ } والأولى حمله على التمكين في الدِّين، والتَّمكين الكامل في الدِّين هو النبوة، ولقوله تعالى: { وَءَاتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } ومن جملة الأسباب النبوة، فمقتضى العموم أنه آتاهُ من النبوة سبباً، ولقوله تعالى: { يَٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } والذي يتكلَّم الله معه لا بد وأن يكون نبياً. قال أبو الطفيل، وسئل عن ذي القرنين: أكان نبيًّا أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً، ولا ملكاً، ولكن كان عبداً أحبَّ الله، فأحبَّه الله، وناصح الله فناصحه.
روي أنَّ عمر - رضي الله عنه - سمع رجلاً يقول لآخر: "يَا ذَا القرنين" فقال: تسمَّيتم بأسماء النبيين، فلم ترضوا حتى تسمّيتم بأسماء الملائكة. والأكثرون على أنه كان ملكاً عادلاً صالحاً، واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين قيل: لأنه بلغ قرني الشمس: مشرقها ومغربها، وأيضاً: بلغ ملكه أقصى الشمال، لأنَّ "يأجُوجَ ومأجُوجَ" قومٌ من التركِ يسكنون في أقصى الشمالِ، فهذا المسمَّى بذي القرنين قد دلَّ القرآن على أنَّ ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال، وهذا نهاية المعمور من الأرض، ومثل هذا الملك البسيط على خلاف العادات، فيجب أن يبقى ذكره مخلّداً على وجه الدهر لا يخفى، والذي اشتهر في كتب التواريخ أن الذي بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر، وذلك أنه لمَّا مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم، وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصر، فبنى الإسكندرية، وسمَّاها باسم نفسه، ثم دخل الشَّام، وقصد بني إسرائيل، وورد "بيت المقدس"، وذبح في مذبحه، ثم انعطف إلى "أرمينيَّة" و "باب الأبواب" ودان له العراقيُّون، والقبط، والبربر، ثم توجه نحو دارا بن دارا، وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس، وقصد الهند والصِّين، وغزا الأمم البعيدة، ورجع إلى "خراسان" وبنى المدن الكثيرة، ورجع إلى العراق، ومرض بـ "شهرزور" ومات، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض أو ما يقرب منها، وثبت من التَّواريخ أن من هذا شأنه ما كان إلاَّ الإسكندر وجب القطعُ بأنَّ المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني.
قيل: وسمِّي بذي القرنين، لأنه ملك الرُّوم وفارس، وقيل: لأنه دخل النور والظلمة، وقيل: لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشَّمس، وقيل: لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان، وقيل: لأنه كان له قرنان تواليهما العمامة.
وروى أبو الفضلِ عن عليّ أنه أمر قومهُ بتقوى الله، فضربوه على قرنه الأيمن، فمات، فبعثه الله، فأمرهم بتقوى الله، فضربوه على قرنه الأيسر، فمات فأحياه الله.
وقيل: كان لتاجه قرنان، وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس، وقيل: لأن الله سخر له النُّور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه، وتمتد الظلمة من ورائه.
فروي أن ذا القرنين أمر ببناء مدنٍ كثيرةٍ منها: "الدبوسية" و "حمدان" و "برج الحجارة"، ولما بلغ "الهند" بنى مدينة "سرنديب" وأن أرباب الحساب قالوا له: إنَّك لا تموتُ إلا على أرض من حديدٍ، وسماء من خشب، وكان يدفن كنوز كلِّ بلدٍ فيها، ويكتب ذلك معه بصفته وموضعه، فبلغ "بابل"، فرعف، فسقط عن دابَّته، فبسطت له دروع فنام عليها، فآذته الشمس، فأظلوه بتُرسٍ، فنظر وقال: هذه أرضٌ من حديدٍ وسماء من خشبٍ، فأيقن بالموت، فمات وهو ابنُ ألف سنة وثلاثمائة سنة.
وقال أبو الرَّيحان البيروني في كتابه المسمِّى بـ "الآثار الباقية عن القرون الخالية": قيل: إنَّ ذا القرنين هو أبو كربٍ سُمَيُّ بن عبرين بن أقريقيش الحميريّ، وأنَّ ملكهُ بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير: [الكامل]
قَدْ كَانَ ذُو القَرنيْنِ قَبْلي مُسْلِماً مَلِكاً عَلا فِي الأرْضِ غير مُفَنَّدِ
بلغَ المشارِقَ والمغارِبَ يَبتَغِي أسْبابَ ملكٍ من كَرِيم سيِّدِ
ثم قال أبو الريحان: ويشبهُ أن يكون هذا القول أقرب، لأن الأذواء كانوا من اليمن، وهمُ الذين لا يخلون أساميهم من "ذي كذا" المنار، و "ذي نواس"، و "ذي النُّون"، و "ذي رعين" والقول الأول أظهر، لما تقدم من الدليل، ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سمِّي ذا القرنَيْنِ لأنَّه طاف قرنَي الدُّنيا شرقها وغربها" .
قال ابن الخطيب: إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً قويًّا، وهو أن الإسكندر كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم، وكان على مذهبه، فتعظيم الله إيَّاه يُوجِبُ الحكم بأنَّ مذهب أرسطاطاليس حقٌّ وصدقٌ، وذلك ممَّا لا سبيل إليه.
قال ابن كثير: روي عن ابن عباسٍ: أنَّ اسم ذي القرنين عبد الله بن الضحاك.
وقيل: مصعبُ بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الآزر بن عون بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان.
وروي أنَّه كان من حمير، وأمُّه روميَّة، وأنه كان يقال له الفيلسوفُ؛ لعقله.
وقال السهيلي: قيل: كان اسمه مرزبي بن مرذبة ذكره ابن هشام، وهو أول التَّبابعة.
وقيل: إنه أفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك ويروى في خطبة قيس بن ساعدة التي خطبها بسوق عكاظ، أنه قال فيها يا معشر إياد أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين، وأوّل المسلمين، وعمر ألفين، ثم كان ذلك كطرفة عين، وأنشد ابن هشام: [الكامل]
والصَّعبُ ذُو القرنيْنِ أصْبحَ ثَاوِياً بالحِنْوِ حيث أميم مقيم
أمَّا ذو القرنين الثاني فهو الإسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن هردوس ابن ميطون بن رومي بن نويط بن نوفيل بن ليطى بن يونان بن يافث بن نوح بن سرحون بن رومي بن قريط بن نوفيل بن رومي بن الأصفر بن اليغز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليه السلام - كذا نسبه ابن عساكر المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندرية الذي يؤرِّخ بأيَّامه الروم، وكان متأخِّراً عن الأول بدهر طويل، وكان هذا قبل المسيح بنحوٍ من ثلاثمائة سنة، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف، وهو قتل دارا بن دارا [ملك] ملوكِ الفرس.
وإنما نبهنا على هذا؛ لأنَّ كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحدٌ، وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيرهُ، فيقع بذلك خطأ كثير؛ فإنَّ الأول كان مؤمناً عبداً صالحاً، وملكاً عادلاً، وكان وزيره الخضر - عليهما السلام - وكان نبيًّا، وأمَّا الثاني فكان مشركاً، وكان وزيره فيلسوفاً، وكان بين زمانيهما أزيد من ألفي [سنة] فأين هذا من هذا؟.
قوله: "سَأتلُو": دخلت السين ها هنا؛ لأن المعنى أني سأفعل هذا إن وفَّقني الله عليه، وأنزل عليَّ وحياً، وأخبرني عن كيفية تلك الحال.
قوله "مِنْهُ ذِكْراً" أي: من أخباره وقصصه.
قوله: "إنَّا مكَّنا له".
ومعنى "مكنَّا لهُ": أوطأنا، والتمكينُ: تمهيد الأسباب قال عليٌّ: سخَّر له السَّحاب، فحمله عليه، ومدَّ له في الأسباب، وبسط له في النُّورِ، وكان اللَّيلُ والنهار عليه سواء، فهذا معنى تمكنيه في الأرض؛ وأنه سهَّل عليه السير فيها، وذلل له طريقها.
وهذا التَّمكينُ بسبب النبوة، ويحتمل أن يكون المراد التمكين بسبب الملكِ من حيث إنه ملك مشارق العالم ومغاربه، والأول أولى؛ لأنَّ التمكينَ بسبب النبوّة أعلى من التمكين بسبب الملك، وحمل كلام الله تعالى على الوجه الأكمل الأفضل أولى، ثم قال: { وَءَاتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } قالوا: السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود، وهو يتناول العلم والقدرة والآلة، فلذلك قيل: { وءَاتيناه من كل شيء } ما يستعين به الملوك على فتح المدن، ومحاربة الأعداء "سبباً" أي: علماً يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض، وقيل: قرَّبنا له أقطار الأرض.
واستدلوا بعموم قوله: { وَءَاتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } على أنه كان نبيًّا كما تقدَّم، ومن أنكر نبوته قال: المعنى: وآتيناه من كلِّ شيءٍ يحتاجُ إلى إصلاح ملكه إلاَّ أن تخصيص العموم خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلاَّ بدليلٍ.
قوله: { فَأَتْبَعَ سَبَباً }.
قرأ نافع، وابن كثيرٍ، وأبو عمرو "فَاتَّبعَ" و "ثمَّ اتَّبعَ" في الموضعين بهمزة وصل، وتشديد التاء. والباقون بهمزة القطع في المواضع الثلاثة وسكون التاء.
فقيل: هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ.
وقيل: "أتْبَعَ" بالقطع متعدٍّ لاثنين حذف أحدهما تقديره: فأتْبع سبباً سبباً آخر، أو فأتبع أمره سبباً آخر، ومنه { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً } [القصص: 42] فعدَّاه لاثنين ومن حذف أحد المفعولين: قوله تعالى: { { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } [الشعراء: 60]، أي: أتبعوهم جنودهم. و اختار أبو عبيد "اتَّبعَ" بالوصل، قال: "لأنَّه من المسيرِ" قال: تقول: تبعتُ القوم واتَّبعتُهم. فأمَّا الإتباعُ بالقطع فمعناه اللحاقُ، كقوله تعالى: { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات: 10].
وقال يونس، وأبو زيدٍ: "أتْبعَ" بالقطع عبارة عن المجدِّ المسرعِ الحثيثِ الطلب. وبالوصلِ إنَّما يتضمَّن الاقتفاء دون هذه الصفات.
قال البغويُّ: والصحيح الفرق بينهما، فمن قطع الألف، فمعناه: أدرك ولحق، ومن قرأ بالتشديد فمعناه: سار، يقال: ما زلتُ أتَّبعه حتى اتبعته، أي: ما زلتُ أسير خلفهُ حتى لحقته، ومعنى الآية: أنه تعالى لمَّا أعطاهُ من كل شيءٍ سببه، فإذا أراد سبباً أتبع سبباً يوصله إليه { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة }.
عن أبي ذرٍّ قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملٍ، فرأى الشمس حين غابت، فقال: أتدري يا أبا ذرٍّ، أتدري أين تغربُ هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: "فإنَّها تغربُ في عينٍ حاميةٍ" وهي قراءة ابن مسعود، وطلحة، وابن عمر، واختارها أبو عبيدة، قال: لأنَّ عليها جماعة من الصحابة.
وأما القراءة الثانية، فهي من الحمأةِ، وهي الطِّين، وهي قراءة ابن عبَّاس.
فصل
ثبت بالدَّليل أنَّ الأرض كرة، وأنَّ السماء محيطة، وأنَّ الشمس في الفلك الرابع، وكيف يعقل دخولها في عينٍ؟ وأيضاً قال: "وجد عِنْدهَا قوماً" ومعلومٌ أن جلوس القوم قرب الشَّمسِ غير موجودٍ، وأيضاً فالشمس أكبر من الأرض بمراتٍ كثيرةٍ، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ وإذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله تعالى: { تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } من وجوه:
الأول: أنَّ ذا القرنين لما بلغ موضعاً من المغرب، لم يبق بعدهُ شيءٌ من العماراتِ، وجد الشَّمس كأنَّها تغربُ في عينٍ مظلمةٍ، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة كما أنَّ راكب البحر يرى الشمس كأنَّها تغيبُ في البحر إذا لم يرَ الشطَّ، وهي في الحقيقة تغيبُ وراء البحر، ذكر هذا التأويل الجبائيُّ في تفسيره.
الثاني: أنَّ للجانب الغربيّ من الأرض مساكنَ يحيطُ البحر بها، فالناظرُ إلى الشَّمْسِ يتخيلُ كأنَّها تغيب في تلك البحار، ولا شكَّ أنَّ البحار الغربية قويةٌ السخونة، فهي حاميةٌ، وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الماء ومن الحمأةِ السَّوداءِ، فقوله: { تَغْربُ في عينٍ حمئةٍ } إشارةٌ إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط البحر به، وهو موضعٌ شديدُ السخونة، قال أهل الأخبار: إنَّ الشمس تغيب في عينٍ كثيرة الماءِ والحمأةِ، وهذا في غاية البعد؛ وذلك لأنَّا إذا رصدنا كسوفاً قمريًّا، فإذا اعتبرناه، ورأينا أنَّ المغربيين قالوا: حصل هذا الكسوف في أوَّل الليل، ورأينا المشرقيين، قالوا: حصل في أوَّل النَّهار علمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا هو وقت العصر في بلد، ووقت الظُّهر في بلدٍ آخر، ووقت الضَّحوة في بلد ثالثٍ، ووقت طلوع الشمس في بلدٍ رابع، ونصف الليل في بلد خامسٍ، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بالاستقراء والأخبار وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنَّها تغيبُ في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين؛ وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلاَّ أن يصار إلى التَّأويل المذكور.
ثم قال: { ووجد عندها قوماً } أي: عند العين أمة، وقيل: الضمير [عائد] إلى الشمس.
قال ابن جريج: مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجبُ.
قوله: { قُلْنَا يَٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ } يدل على أنه تعالى كلمه من غير واسطة، وذلك يدل على أنه كان نبيًّا، فإن قيل: خوطب على ألسنة بعض الأنبياء، فهو عدولٌ عن الظاهر.
وقال بعضهم: المراد منه الإلهام.
قوله: { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ }.
يجوز فيه الرفع على الابتداء، والخبر محذوف، أي: إمَّا تعذيبك واقعٌ، والرفع على خبر مضمرٍ، أي: هو تعذيبك، والنصب أي: إمَّا أن تفعل أن تعذِّب.
وهذا يدلُّ على أنَّ سكَّان آخر المغرب، كانوا كفاراً، فخيَّر الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب، إن أقاموا على الكفر، وبين المنِّ عليهم، والعفو عنهم، وهذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح المرين، كما خيَّر نبيه - محمداً عليه الصلاة و السلام - بين المنِّ على المشركين، وبين قتلهم.
وقال الأكثرون: هذا التعذيب هو القتل، وأمَّا اتِّخاذ الحسنى فيهم، فهو تركهم أحياء.
ثم قال ذو القرنين: { أَمَّا مَن ظَلَمَ } أي: ظلم نفسه؛ بمعنى "كفر" لأنَّه ذكر في مقابلته: { وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ } ثم قال: { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } أي بقتله { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ } في الآخرة { عَذَاباً نُّكْراً } أي: منكراً فظيعاً. وهو النار، والنار أنكر من القتل.
قوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً }.
{ وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ } الآية.
قوله: { جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ } قرأ الأخوان، وحفص بنصب "جزاءً" وتنوينه، والباقون برفعه مضافاً، فالنصب على المصدر المؤكِّد لمضمون الجملة، أو بنصب بمضمرٍ، أو مؤكدٍ لعامل من لفظه مقدَّر، أي: يجزي جزاء، وتكون الجملة معترضة بين المبتدأ وخبره المقدَّم عليه، وقد يعترض على الأول: بأنَّ المصدر المؤكِّد لمضمون جملة لا يتقدَّم عليها، فكذا لا يتوسَّطُ، وفيه نظر يحتمل الجواز والمنع، وهو إلى الجواز أقرب.
الثالث: أنه في موضع الحال.
الرابع: نصبه على التفسير، قاله الفراء؛ يعني التمييز، وهو بعيد.
وقرأ ابن عباس، ومسروق بالنصب والإضافة، وفيها تخريجان:
أحدهما: أن المبتدأ محذوف، وهو العامل في "جزاءَ الحُسْنى" التقدير: فله الجزاء جزاء الحسنى.
والثاني: أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [المتقارب]
3565-................. ولا ذَاكِرَ الله إلاَّ قَلِيلا
ذكره المهدويُّ.
والقراءة الثانية رفعه فيها على الابتداء، والخبر الجار قبله، و "الحُسْنَى" مضاف إليها، والمراد بالحسنى الجنَّة، وقيل: الفعلة الحسنى.
وقرأ عبد الله، وابن أبي إسحاق "جزاءٌ" مرفوعاً منوناً على الابتداء، و "الحُسْنَى" بدلٌ، أو بيان، أو منصوبة بإضمار "أعْنِي" أو خبر مبتدأ مضمرٍ.
و "يُسْراً" نعت مصدر محذوف، أي: قولاً ذا يسرٍ، وقرأ أبو جعفر بضم السين في اليُسُر حيث ورد.
فصل في اختلاف معنى الآية باختلاف القراءة
قال المفسرون: المعنى على قراءة النصب: فله الحسنى جزاء؛ كما يقال: لك هذا الثوب هبةً.
وعلى قراءة الرفع، فيه وجهان:
أحدهما: فله الجزاءُ الحسنى، والفعلةُ الحسنى: هي الإيمانُ، والعمل الصَّالح.
والثاني: فلهُ جزاء المثوبة الحسنى، وإضافة الموصوف إلى الصِّفة مشهورةٌ؛ كقوله: { { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ } [يوسف: 109]. و { { حَقُّ ٱلْيَقِينِ } [الواقعة: 95].
وقوله: { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } الآية، أي: لا نأمرهُ بالصَّعب الشَّاق، ولكن بالسَّهل الميسَّر من الزَّكاة، والخراج وغيرهما، وتقديره: ذا يسر؛ كقوله: { قَوْلاً مَّيْسُوراً } [الإسراء: 28].
قوله: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ }.
أي: سلك طرقاً ومنازل { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ } أي: موضع طلوعها { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً }.
قال الحسنُ وقتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستراً، وليس هناك شجرٌ، ولا جبلٌ، ولا أبنيةٌ، تمنع [طلوع] الشمس عليهم؛ لأنَّهم كانوا في مكان لا يستقرُّ عليهم بناءٌ، وكانوا يكونون في أسراب لهم، حتَّى إذا زالت الشمس عنهم، خرجوا إلى معايشهم وحروثهم.
وقال الحسن: كانوا إذا طلعت الشمس، يدخلون الماء، فإذا ارتفعت عنهم، خرجوا فرعوا؛ كأنَّهم بهائمُ.
قال الكلبيُّ: هم قومٌ عراةٌ؛ كسائر الحيوان، يفترشُ أحدهم أذنيه؛ أحدهما تحته، ويلتحفُ بالأخرى.
فصل فيما يروى عن السد
ذكروا في بعض كتب التفسير: أن بعضهم، قال: سافرت، حتَّى جاوزت الصِّين، فسألت عن هؤلاء القوم، فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلةٍ، فبلغتهم، فإذا أحدهم يفترش إحدى أذنيه، ويلبس الأخرى، فلما قرب طلوع الشمس، سمعت صوتاً كهيئة الصَّلصلة، فغُشي عليَّ، ثم أفقتُ، فلمَّا طلعت الشمس؛ إذ هي فوق الماءِ؛ كهيئة الزيت، فأدخلونا سرباً لهم، فلما ارتفع النَّهار، جعلوا يصطادون السَّمك فيطرحونه في الشمس؛ فينضج.
قوله: { مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ }.
العامَّة على كسر اللام من "مَطْلِع" والمضارعُ "يَطلُع" بالضم، فكان القياس فتح اللام في المفعل مطلقاً، ولكنَّها مع أخواتٍ لها سمع فيها الكسر، وقياسها الفتح، وقد قرأ به الحسن، وعيسى، وابن محيصن، ورويت عن ابن كثيرٍ، وأهل مكة، قال الكسائي: "هذه اللغة قد ماتت" يعني: أي: بكسر اللام من المضارع، والمفعل، وهذا يشعرُ أنَّ من العرب من كان يقول: طَلَع يَطلِعُ، بالكسر في المضارع.
قوله: { كَذَٰلِكَ }: الكاف: إمَّا مرفوعة المحلِّ، أي: الأمر كذلك، أو منصوبته، أي: فعلنا مثل ذلك.
ومعنى الكلام: كذلك فعل ذو القرنينِ، أتبع هذه الأسباب، حتى بلغ، وقد علمنا حين ملَّكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك.
وقيل: كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسول الله - عليه السلام - في هذا الذِّكر.
وقيل: كذلك كانت حالهُ مع أهل المطلع؛ كما كانت حاله مع أهل المغرب، قضى في هؤلاء، كما قضى في أولئك؛ من تعذيب الظالمين، والإحسان إلى المؤمنين.
وقيل: تمَّ الكلام عند قوله: { كَذَٰلِكَ }.
والمعنى: أنه تعالى قال: أمر هؤلاء القوم، كما وجدهم عليه ذو القرنين، ثم قال بعده: { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } أي: كنَّا عالمين بأنَّ الأمر كذلك.
قوله: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } الآية.
و { بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } "بين" هنا يجوز أن يكون ظرفاً، والمفعول محذوف، أي: بلغ غرضه ومقصوده، وأن يكون مفعولاً به على الاتِّساع، أي: بلغ المكان الحاجز بينهما.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بفتح سين "السَّدَّين" و "سَدًّا" في هذه السورة، وحفصٌ فتح الجميع، أعني موضعي هذه السورة، وموضعي سورة يس [الآية: 9]، وقرأ الأخوان بالفتح في "سدًّا" في سورتيه، وبالضمِّ في "السُّدَّين" والباقون بالضمِّ في الجميع، فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وقيل: المضمومُ: ما كان من فعل الله تعالى، والمفتوحُ ما كان من فعل النَّاس، وهذا مرويٌّ عن عكرمة، و الكسائي، وأبي عبيد وابن الأنباريِّ.
قال الزمخشري: لأنَّ السُّدَّ، بالضمِّ: "فُعْل" بمعنى "مفْعُول" أي: هو مما فعله الله، وخلقه، والسَّدُّ، بالفتح: مصدر حدث يحدثه الناس. وهو مردودٌ: بأنَّ السدَّين في هذه السورة جبلان، سدَّ ذو القرنين بينهما بسدٍّ، فهما من فعلِ الله، والسدُّ الذي فعله ذو القرنين من فعل المخلوق، و "سدًّا" في يس من فعلِ الله تعالى؛ لقوله: "وجعلنا" ومع ذلك قرىء في الجميع، بالفتح، والضمِّ، فعلم أنَّهما لغتان؛ كالضَّعف، والضُّعف، والفَقر، والفُقر، وقال الخليل: المضموم اسمٌ، والمفتوح مصدر، وهذا هو الاختيار.
فصل في مكان السد
الأظهرُ: أنَّ موضع السدَّين في ناحية الشَّمال، وقيل: جبلان بين أرمينيَّة، وأذربيجان.
وقيل: هذا المكان في مقطع أرض التُّرك.
وحكى محمد بن جرير الطبريُّ في تاريخه: أنَّ صاحب أذربيجان أيَّام فتحها، وجَّه إنساناً إليه من ناحية الخزر، فشاهده، ووصف أنَّه بنيانٌ رفيعٌ وراء خندقٍ وثيقٍ منيعٍ، وذكر ابن خرداذبة في كتابه "المسالك والممالك" أن الواثق بالله رأى في المنام كأنَّه فتح هذا الردم، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه، فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه، فوصفوا أنه بنيانٌ من لبنٍ من حديد مشدود بالنُّحاس المذاب، وعليه بابٌ مقفلٌ، ثم إنَّ ذلك الإنسان لمَّا حاول الرُّجوع، أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند.
فصل في مقتضى هذا الخبر
قال أبو الرَّيحان البيرونيُّ: مقتضى هذا الخبر أنَّ موضعه في الربع الشماليِّ الغربيِّ من المعمورة.
قوله: { يَفْقَهُونَ }: قرأ الأخوان بضمِّ الياء، وكسر القاف، من أفقه غيره، فالمفعول محذوف، أي: لا يفقهون غيرهم قولاً، والباقون بفتحهما، أي: لا يفهمون كلام غيرهم، وهو بمعنى الأول، وقيل: ليس بمتلازمٍ؛ إذ قد يفقه الإنسان كلام غيره، ولا يفقه قوله غيره، وبالعكس.
فصل في كيفية فهم ذي القرنين كلام أولئك القوم
لمَّا بلغ ذو القرنين ما بين السَّدين { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } [أي] من ورائهما مجاوزاً عنهما "قوماً"، أي: أمَّة من الناس { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }.
فإن قيل: كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام، بعد أن وصفهم الله تعالى بقوله: { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }؟.
فالجواب من وجوه:
أحدهما: قيل: كلّم عنهم مترجمٌ؛ ويدل عليه قراءة ابن مسعودٍ: لا يكادون يفقهون قولاً، قال الذين من دونهم: يا ذا القرنين { إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ }.
وثانيها: أن قوله: { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } يدلُّ على أنَّهم قد يفقهون بمشقَّة وصعوبة [من إشارة ونحوها].
وثالثها: أنَّ "كاد" معناه المقاربة؛ وعلى هذا، فلا بدَّ من إضمارٍ، تقديره: لا يكادون يفقهون إلاَّ بمشقةٍ؛ من إشارة ونحوها.
قوله: { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ }: قرأ عاصم بالهمزة الساكنة، والباقون بألف صريحة، واختلف في ذلك؛ فقيل: هما أعجميَّان، لا اشتقاق لهما، ومنعا من الصرف؛ للعلميَّة والعجمة، ويحتمل أن تكون الهمزة أصلاً، والألف بدلاً منها، أو بالعكس؛ لأنَّ العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية، وقيل: بل هما عربيَّان، واختلف في اشتقاقهما.
فقال الكسائي: يأجوجُ: مأخوذٌ من تأجُّج النار، ولهبها أو شدَّة توقُّدها؛ فلسرعتهم في الحركة سمُّوا بذلك، ومأجوج من موج البحر.
وقيل من الأجِّ، وهو الاختلاط أو شدَّة الحرِّ.
وقال القتيبيُّ: من الأجِّ، وهو سرعة العدو، ومنه قوله: [الطويل]
3566-................. تَؤجُّ كمَا أجَّ الظَّلِيم المُنفَّرُ
وقيل: من الأجاجِ، وهو الماءُ المالح الزُّعاقُ.
وقال الخليلُ: الأجُّ: حبٌّ؛ كالعدس، والمجُّ: مجُّ الرِّيق، فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما، ووزنهما يفعولُ، ومفعول، وهذا ظاهر على قراءة عاصم، وأمَّا قراءة الباقين، فيحتمل أن تكون الألف بدلاً من الهمزة الساكنة، إلا أنَّ فيه أنَّ من هؤلاء من ليس أصله قلب الهمزة الساكنة، وهم الأكثر، ولا ضير في ذلك، ويحتمل أن تكون ألفهما زائدتين، ووزنهما "فَاعُول" من يجَّ، ومجَّ.
ويحتمل أن يكون ماجوج من "مَاجَ، يَمُوجُ" أي: اضطرب، ومنه الموجُ، فوزنه مفعول، وأصله: مَوجُوج، قاله أبو حاتم، وفيه نظر؛ من حيث ادِّعاءُ قلب حرف العلة، وهو ساكنٌ، وشذوذه كشذوذ "طائي" في النَّسب إلى طيِّىء.
وعلى القول بكونهما عربيَّين مشتقَّين، فمنع صرفهما؛ للعلميَّة والتأنيث؛ بمعنى القبيلة؛ كما تقدَّم في سورة هود، ومثل هذا الخلاف والتعليل جارٍ في سورة الأنبياء [الآية: 93] - عليهم السلام - والهمزة في يأجوج ومأجوج لغة بني أسدٍ، وقرأ رؤبة وأبوه العجاج "آجُوج".
فصل في اصل يأجوج ومأجوج
اختلفوا في أنَّهم من أيِّ الأقوام، فقال الضحاك: هم جيلٌ من التُّرك.
وقال السديُّ: التُّرك: سريَّة من يأجُوج ومأجوج، خرجت، فضرب ذو القرنين السدَّ، فبقيت خارجة، فجميع الترك منهم.
وعن قتادة: أنَّهم اثنان وعشرون قبيلة، بنى ذو القرنين السدَّ على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت قبيلة واحدة، وهم التُّركُ، سمُّوا بذلك؛ لأنَّهم [تركوا] خارجين.
فصل في أجناس البشر
قال أهل التَّاريخ: أولاد نوحٍ ثلاثة: سام، وحام، ويافث. فسام أبو العرب، والعجم، والرُّوم.
وحام: أبو الحبشة، والزَّنج، والنُّوبة.
ويافث: أبو التُّرك، والخزر، والصقالبة، ويأجوج ومأجوج.
واختلفوا في صفاتهم:
فمن النَّاس من وصفهم بقصر القامة، وصغر الجثَّة بكون طول أحدهم شبراً، ومنهم من يصفهم بطُول القامة، وكبر الجثَّة، فقيل: طول أحدهم مائةُ وعشرون ذراعاً، ومنهم من طوله وعرضه كذلك، وأثبتوا لهم مخالب في الأظفار وأضراساً كأضراسِ السِّباع، ومنهم من يفترش إحدى أذنيه، ويلتحفُ بالأخرى.
فصل في إفسادهم
واختلفوا في كيفية إفسادهم:
فقيل: كانوا يقتلون الناس.
وقيل: كانوا يأكلون لحوم النَّاس، وقيل: كانوا يخرجون أيَّام الربيع ولا يتركون لهم شيئاً أخضر.
وبالجملة: فلفظ الفساد يحتمل هذه الأقسام.
ثمَّ إنَّه تعالى حكى عن أهل ما بين السَّديْن أنَّهم قالوا لذي القرنين: { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } الآية.
قوله: "خَرْجاً" قرأ ابن عامر "خَرْجاً" هنا وفي المؤمنين [الآية: 72] بسكون الراء، والأخوان "خَرَاجاً"فَخَراج" في السورتين بالألف، والباقون كقراءة ابن عامر في هذه السورة، والأول في المؤمنين، وفي الثاني، وهو "فَخرَاج" كقراءة الأخوين، فقيل: هما بمعنى واحد كالقول والقوال، والنّوْل والنَّوال، وقيل: "الخَراجُ" بالألف ما ضرب على الأرض من الإتاوةِ كلَّ عامٍ، وبغير الألف بمعنى الجعل، أي: نُعطيكَ من أموالنا مرَّة واحدة ما تستعينُ به على ذلك، وقال أبو عمر: الخرج: ما تبرَّعت به، والخراج ما لزمك أداؤهُ.
قال مكيٌّ -رحمه الله -: واختيار تركُ الألف؛ لأنَّهم إنما عرضوا عليه: أن يعطوه عطيَّة واحدة على بنائه، لا أن يضرب ذلك عليهم كلَّ عامٍ، وقيل: الخرجُ: ما كان على الرءوس، والخراج: ما كان على الأرض، قاله قطرب يقال: أدِّ خرج رأسك، وخراج أرضك، قاله ابن الأعرابيِّ، وقيل: الخرجُ أخصُّ، والخَراجُ أعمُّ، قاله ثعلبٌ، وقيل: الخرجُ مصدر، والخراجُ: اسم لما يعطى، ثم قد يطلق على المفعول المصدر؛ كالخلقِ؛ بمعنى المخلوق.
ثم قال: { عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } أي: حاجزاً، فلا يصلون إلينا.
قوله: { مَا مَكَّنِّي }: "ما" بمعنى "الذي" وقرأ ابن كثيرٍ: "مكَّنني" بإظهار النون، والباقون بإدغامها في نون الوقاية؛ للتخفيف.
وهي مرسومةٌ في مصاحف غير مكَّة بنون واحدة، وفي مصاحف مكَّة بنونين، فكلٌّ وافق مصحفه.
ومعنى الكلام: ما قوَّاني عليه ربِّي خيرٌ من جعلكم، أي: ما جعلني مكيناً من المال الكثير، خيرٌ ممَّا تبذلُون لي من الخراج؛ فلا حاجة بي إليه، كقول سليمان - عليه السلام -: { فَمَآ آتَٰنِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُم } [النمل: 36].
قوله: { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } أي: لا أريد المال، ولكن أعينوني بأيديكم، وقوَّتكم { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً }.
والرَّدْم: هو السدُّ، يقال: ردمت الباب، أي: سددتُّه، وردمتُ الثوب: رقعته؛ لأنه يسدُّ موضع الخرق بالرَّقع، والرَّدم أكثر من السدِّ؛ من قولهم: ثوبٌ مردم، أي: وضعت عليه رقاعٌ.
قالوا: وما تلك القوة؟. قال: فعلةٌ وصنَّاعٌ يحسنون البناء والعمل، والآلة.
قالوا: وما تلك الآلة؟.
قال: { آتُونِيَ }: قرأ أبو بكرٍ "ٱيتُونِي" بهمزة وصلٍ؛ من أتى يأتي في الموضعين من هذه السورة؛ بخلاف عنه في الثاني، ووافقه حمزة على الثاني، من غير خلافٍ عنه، والباقون بهمزة القطع فيهما.
فـ "زُبرَ" على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض، أي: جيئُوني بزُبرِ الحديد، وفي قراءة قطعها على المفعول الثاني؛ لأنه يتعدَّى بالهمزة إلى اثنين، وعلى قراءة أبي بكرٍ يحتاج إلى كسر التنوين من "رَدْماً" لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ همزة الوصل، تسقط درجاً، فيقرأ له بكسر التنوين، وبعده همزة ساكنة هي فاءُ الكلمة، وإذا ابتدأت بكلمتي "ٱئتُونِي" في قراءته، وقراءة حمزة، تبدأ بهمزة مكسورة للوصلِ، ثم ياءٍ صريحة، هي بدلٌ من همزة فاء الكلمة، وفي الدَّرج تسقط همزة الوصل، فتعود الهمزة؛ لزوالِ موجب إبدالها.
والباقون يبتدئون، ويصلون بهمزة مفتوحة؛ لأنَّها همزة قطعٍ، ويتركون تنوين "رَدْماً" على حاله من السكون، وهذا كله ظاهر لأهل النحو، خفيٌّ على القراء.
والزُّبَرُ: جمع زُبْرَة، كغُرفَةٍ وغُرَفٍ.
و "زُبَرَ الحَديدِ" قطعه.
قال الخليل: الزُّبرة من الحديد: القطعة الضخمة.
وقرأ الحسن بضمِّ الباء.
قوله: "سَاوَى" هذه قراءة الجمهور، وقتادة "سوَّى" بالتضعيف، وعاصم في رواية "سُوِّيَ" مبنيًّا للمفعول.
وفيه إضمارٌ، أي: فأتوهُ بها، فوضع تلك الزُّبرَ بعضها على بعض { حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ } أي سدت ما بين الجبلين إلى أعلاهما.
قوله: "الصَّدفَيْنِ" قرأ أبو بكرٍ بضم الصاد، وسكون الدَّال، وابن كثيرٍ، وأبو عمرو، وابن عامر بضمهما، والباقون بفتحهما، وهذه لغاتٌ قرىء بها في السَّبع، وأبو جعفرٍ، وشيبة، وحميد بالفتح والإسكان، والماجشونُ بالفتح والضمِّ، وعاصم في رواية بالعكس.
والصَّدفانِ: ناحيتا الجبلين، وقيل: أن يتقابل جبلان، وبينهما طريقٌ، والناحيتان صدفان؛ لتقابلهما، وتصادفهما، من صادفت الرجل، أي: لاقيته وقابلته، وقال أبو عبيد: "الصَّدفُ: كل بناءٍ مرتفعٍ، وقيل: ليس بمعروفٍ، والفتحُ لغة تميمٍ، والضمُّ لغة حميرٍ".
فصل في بناء السد
لما أتوهُ بزبر الحديد، وضع بعضها على بعض؛ حتى ساوتْ، وسدَّت ما بين الجبلينِ، ووضع المنافخ عليها، والحطب، حتَّى إذا صارت كالنَّار، صبَّ النُّحاس المذاب على الحديدِ المحمَّى، فالتصق بعضه ببعض، فصار جبلاً صَلْداً.
وهذه معجزةٌ تامَّةٌ؛ لأنَّ هذه الزُّبَر الكثيرة، إذا نفخ عليها؛ حتَّى تصير كالنَّار، لم يقدر الحيوان على القرب منها، والنَّفخُ عليها لا يكون إلا بالقرب منها، فكأنَّه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النَّافخين عليها.
قيل: إنَّه وضع الحديد على الحطب، والحطب على الحديد؛ فصار الحطب في خلال الحديد، ثمَّ نفخُوا عليه؛ حتَّى صار ناراً، أفرغ عليه النُّحاس المذاب؛ فدخل في خلال الحديد مكان الحطب؛ لأنَّ النَّار أكلت الحطب؛ فصار النحاسُ مكان الحطب؛ حتَّى لزم الحديدُ النُّحاس.
قال قتادة: صار كالبُرد المحبَّر طريقة سوداء وطريقة حمراء.
فصل فيما بين السدين
قال الزمخشريُّ: قيل: بعد ما بين السَّدين مائة فرسخٍ.
وروي: عرضهُ كان خمسين ذراعاً، وارتفاعه مائتي ذراعٍ.
قوله: "قِطْراً" هو المتنازع فيه، وهذه الآية أشهر أمثلةِ النحاةِ في باب التنازع، وهي من إعمال الثاني؛ للحذف من الأول، والقِطرُ: النُّحاس، أو الرَّصاصُ المذاب؛ لأنه يقطر.
قوله: { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ }: قرأ حمزة بتشديد الطاء، والباقون بتخفيفها، والوجه في الإدغام، كما قال أبو عليٍّ: "لمَّا لم يمكنْ إلقاء حركة [التَّاء] على السِّين؛ لئلاَّ يحرَّك ما لا يتحرَّك" - يعني: أنَّ سين "اسْتَفْعَلَ" لا تتحرَّك - أدغم مع السَّاكن، وإن لم يكن حرف لين، وقد قرأت القراء غير حرفٍ من هذا النحو؛ وقد أنشد سيبويه "ومَسْحيِ" يعني في قول الشاعر: [الرجز]
3567- كَأنَّهُ بَعْدَ كَلالِ الزَّاجرِ ومَسْحِيِ مرُّ عُقابٍ كَاسرِ
[يريد "ومَسْحِه"] فأدغم الحاء في الهاء بعد أن قلب الهاء حاء، وهو عكس قاعدة الإدغام في المتقاربين، وهذه القراءة قد لحَّنها بعض النُّحاة، قال الزجاج: "من قرأ بذلك، فهو لاحِنٌ مخطىءٌ" وقال أبو عليٍّ: "هي غيرُ جائزةٍ".
وقرأ الأعشى، عن أبي بكر "اصْطاعُوا" بإبدال السِّين صاداً، والأعمش "استطاعوا" كالثانية.
فصل
حذفت تاء "اسْتطَاعُوا" للخفَّة؛ لأنَّ التاء قريبة المخرجِ من الطَّاء، ومعنى "يَظْهَرُوهُ" أي: يعلونه من فوق ظهره؛ لطوله، وملاسته، وصلابته، وثخانته، ثم قال ذو القرنين: "هَذَا" إشارةٌ إلى السدِّ "رَحْمَةٌ" أي: نعمة من الله، ورحمة على عباده { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } أي: القيامة.
وقيل: وقت خروجهم { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } أي: جعل السدَّ مدكوكاً مستوياً، مع وجه الأرض.
قوله: { جَعَلَهُ دَكَّآءَ }: الظاهر أنَّ "الجَعْلَ" هنا بمعنى "التَّصْيير" فتكون "دكَّاء" مفعولاً ثانياً، وجوَّو ابن عطيَّة: أن يكون حالاً، و "جَعَلَ" بمعنى "خَلَقَ" وفيه بعدٌ؛ لأنه إذ ذاك موجود، وتقدَّم خلاف القراء في "دكَّاء" في الأعراف.
قوله: { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } الوعْدُ هنا مصدر بمعنى "المَوعُود" أو على بابه.
فصل فيما روي عن يأجوج ومأجوج
روى قتادة، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، يرفعه: أنَّ يأجُوج ومأجُوجَ يحفرونه كلَّ يومٍ، حتَّى إذا كادوا يرون شُعاعَ الشَّمسِ، قال الذي عليهم: ارجعوا؛ فسَتحْفُرونهُ غداً، فيُعيدهُ الله كما كان، حتَّى إذا بَلغَتْ مُدَّتهُمْ، حفروا؛ حتَّى كادوا يرون شعاع الشَّمسِ، قال الذي عليهم: ارْجِعُوا، فسَتحْفرُونَهُ، إن شاء الله تعالى غداً، واستثنى، فيَعُودُونَ إليه، وهو كهيئته حين تركوهُ، فيحفرونه، فيخرجون على النَّاس [فَيَشْرَبُونَ] المياهَ، ويتحَصَّنُ النَّاس في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السَّماءِ، فتَرجِعُ فيها كهيئةِ الدَّم، فيقولون: قهرنا أهْلَ الأرْضِ، وعلونا أهل السَّماء، فيَبعَثُ الله عليهم نغفاً في أقفائهم، فَيهلكُونَ، وإنَّ دوابَّ الأرضِ لتسمنُ وتشكرُ من لحومهم.
وعن النَّواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدَّجَّال ذات غداةٍ، فخفَّض فيه ورفَّع حتَّى ظننَّاهُ في طائفةِ النَّخل، فلمَّا رحنا إليه، عرف ذلك فينا، فقال: ما شَأنكم؟ قلنا: يا رسول الله، ذكرتَ الدَّجالِ الغَداةَ، فخفَّضْتَ، ورفَّعتَ؛ حتَّى ظَننَّاهُ في طائفةِ النخَّلِ؛ فقال: غيرُ الدَّجالِ أخْوفني عليكم، إنْ يخرجْ وأنا فيكم، فأنا حَجيجُهُ دونكم، وإن يخرج، ولستُ فيكم، فكلُّ امرىءٍ حَجِيجُ نفسه، والله خليفتي على كلِّ مسلم؛ إنَّهُ شابٌّ قططٌ، عينه طافيةٌ؛ كأنِّي أشبِّهه بعبد العُزَّى بن قطنٍ، فمن أدركه منكم، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنَّه خارجٌ خلَّة بين الشَّام والعراق، فعاث يميناً، وعاث شمالاً؛ يا عباد الله فاثبتوا قلنا: يا رسول الله، وما لبثهُ في الأرض؟ قال: أربعون يوماً؛ يومٌ كسنةٍ، ويومٌ كشهرٍ، ويومٌ كجمعةٍ، وسَائِرُ أيَّامه كأيَّامكُمْ، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليومُ الذي كسنةٍ، يكْفِينَا فيه صلاةُ يوم؟ قال: لا، اقدرُوا لهُ قدرهُ، قلنا: يا رسول الله، وما إسراعهُ في الأرض؟ قال: كالغَيْثِ اسْتدْبَرَتهُ الرِّيحُ، فيأتي على القومِ، فيَدعُوهُمْ، فيُؤمِنُونَ به، ويسْتَجيبُونَ له، فيَأمُر السَّماءَ، فتُمْطِرُ، والأرض فتُنْبِتُ، وتَروحُ عليهم سارحتهم، أطول ما كانت ذُرًى، وأسبغهُ ضُرُوعاً، وأمدَّهُ خَواصِرَ، ثمَّ يأتي القوم، فيَدعُوهُمْ، فيَردُّونَ عليه قوله، قال: فيَنْصرِفُ عنهم، فيُصْبِحُونَ مُمْحلين، ليس بايديهم شيءٌ من أموالهم، ويمرُّ بالخربة، فيقول لها: أخرجي كنُوزكِ، فتَتْبَعُهُ كنُوزهَا؛ كيعَاسيب النَّحلِ، ثمَّ يدعو رجلاً مُمتلِئاً شباباً، فيَضْرِبُهُ بالسَّيفِ، فيَقْطعُه جزلتين رمية الغرض، ثمَّ يدعوهُ، فيُقْبلُ، يتهلَّلُ وجههُ؛ يضحك، فبينما هو كذلك؛ إذْ بعثَ الله عيسى ابن مريم المسيح - عليه السلام - فينزلُ عند المنارةِ البيضاءِ شرقيَّ دمشق، بين مهرُودتين واضعاً كفَّيه على أجْنحَةِ ملكين، إذا طأطأ رأسهُ، قطر، وإذا رفعه؛ تحدَّر منه مثل جمان اللؤلؤِ، فلا يحلُّ للكافر يجدُ ريحَ نفسه إلاَّ مات، ونفسه ينتهي حيثُ ينتهي طرفه حتَّى يدركه ببابِ لدٍّ، فيقتلهُ، ثمَّ يأتي عيسى قومٌ قد عصمهمُ الله منهُ، فيَمْسحُ عن وجوههم، ويحدِّثهُمْ بدرجاتهم في الجنَّة، فبينما هو كذلك إذْ أوحى الله تعالى إلى عيسى: إنِّي قَدْ أخرجتُ عباداً لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم، فحرِّزْ عبادي إلى الطُّور، ويبعثُ الله يأجُوج ومأجُوجَ، وهُمْ من كلِّ حدبٍ ينسلون، فيمُرُّ أوائلهُم على بحيرة "طبَريَّة" فيَشْربُونَ ما فيها، ويمرُّ آخرهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرَّة ماءٌ، ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأسُ الثَّور لأحدهم خيراً من مائة دينارٍ لأحدكم اليْومَ، فيرغب نبيُّ الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيُرسِلُ الله تعالى عليهم النَّغف في رقابهم، فيُصْبِحُون فَرْسَى كموتِ نفسٍ واحدةٍ ثمَّ يهبطُ نبيُّ الله وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدُونَ في الأرض موضع شبر إلا ملأهُ زَهمهُمْ ونتنهُمْ، فيَرْغبُ نبيُّ الله عيسى وأصحابهُ إلى الله، فيُرسِلُ الله عليهم طيراً؛ كأعناقِ البُخْتِ، فتَحْملهُمْ، فتَطْرَحهُمْ حيثُ شَاءَ الله، ثمَّ يرسلُ الله مطراً، لا يكنُّ منهُ بيتٌ مَدَرٌ، ولا وبرٌ، فيَغْسِلُ الأرض، حتَّى يَتركهَا كالزَّلقة، ثمَّ يقال للأرض: أنْبتِي ثَمرتك، ورُدِّي بَركتَكِ، فيَومئذٍ: تَأكلُ العَصابةُ الرُّمانَة، ويَسْتظلُّونَ بِقحْفِهَا، ويبارك في الرِّسلِ، حتَّى إنَّ اللقحة من الإبل، لتكفي الفئامَ من النَّاس، وبينما هم كذلك؛ إذْ بعث الله ريحاً طيبة، فتَأخُذهُمْ تحت آباطهم، فتَقْبِضُ رُوح كلِّ مؤمنٍ، وكلِّ مسلمٍ، ويبقى شِرارُ النَّاس يَتهارَجُونَ فيها تَهارُجَ الحُمُر، فعليهم تَقومُ السَّاعةُ.
قوله: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } الآية.
قيل: هذا عند فتح السَّد، وتركنا يأجوج ومأجوج يموجُ بعضهم في بعضٍ، أي: يزدحمون كموج الماء، ويختلط بعضهم في بعضٍ؛ لكثرتهم.
وقيل: هذا عند قيام السَّاعة يدخل الخلق بعضهم في بعض، ويختلط إنسيُّهم بِجنِّيِّهِمْ حَيَارَى.
قوله: "يَوْمئِذٍ" التنوين عوضٌ من جملةٍ محذوفة، تقديرها: يوم إذ جاء وعدُ ربِّي، أو إذ حجز السدُّ بينهم.
قوله: { يَمُوجُ }: مفعول ثانٍ لـ "تَركْنَا" والضمير في "بَعْضهُمْ" يعود على "يَأجُوج ومأجُوج" أو على سائر الخلق.
قوله: { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ }. لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب السَّاعة، وتقدَّم الكلام في الصور، { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } في صعيدٍ واحدٍ.
"وعَرضْنَا": أبْرَزنَا.
{ جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } حتَّى يشاهدوها عياناً.
قوله: { ٱلَّذِينَ كَانَتْ }: يجوز أن يكون مجروراً بدلاً من "لِلْكافِرينَ" أو بياناً، أو نعتاً، وأن يكون منصوباً بإضمار "أذمُّ" وأن يكون مرفوعاً خبر ابتداءٍ مضمرٍ.
ومعنى { كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ }: أي: [غشاء]، والغطاء: ما يغطِّي الشيء ويسترهُ { عَن ذِكْرِي }: عن الإيمان والقرآن، والمراد منه: شدَّة انصرافهم عن قَبُول الحقِّ، وعن الهدى والبيان، وقيل: عن رؤية الدلائل: { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً }.
أي: سمع الصَّوت، أي: القبول والإيمان؛ لغلبةِ الشَّقاء عليهم.
وقيل: لا يعقلون، وهذا قوله: { { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } [المائدة: 71].
أما العمى، فهو قوله: { كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي } وأما الصّمم فقوله: { لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً }.
أي: لا يقدرون [أن يَسْمَعُوا] من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتلوه عليهم؛ لشدَّة عداوتهم له.