خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٣٠
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"من" اسم استفهام بمعنى الإنكار، فهو نفي في المعنى، لذلك جاءت بعده "إلاَّ" التي للإيجاب، ومحلّه رفع بالابتداء.
و "يرغب" خبره، وفيه ضمير يعود عليه.
والرغبة أصلها الطلب، فإن تعدت بـ "في" كانت بمعنى الإيْثَار له، والاختيار نحو: رغبت في كذا، وإن تعدت بـ "عن" كانت بمعنى الزّهَادة نحو: رغبت عنك.
قوله: { إِلاَّ مَن سَفِهَ } في "مَنْ" وجهان.
أحدهما: أنها في محلّ رفع البدل من الضمير في "يرغب"، وهو المختار؛ لأن الكلام غير موجب، والكوفيون يجعلون هذا من باب العطف.
فإذا قلت: ما قام القوم إلاَّ زيد، فـ "إلاَّ" عندهم حرف عطف، وزيد معطوف على القوم، وتحقيق هذا مذكور في كتب النحو.
الثاني: أنها في محلّ نصب على الاستثناء، و "من" يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون نكرة موصوفة، فالجملة بعدها لا محلّ لها على الأول، ومحلها الرفع، أو النصب على الثاني.
قوله: "نَفْسَهُ" في نصبه سبعة أوجه:
أحدها: وهو المختار أن يكون مفعولاً به؛ لأنه حكي أن "سَفِهَ" بكسر الفاء يتعدّى بنفسه كما يتعدى "سَفَّه" بفتح الفاء والتشديد، وحكى عن أبي الخَطّاب أنها لغة، وهو اختيار الزّمخشري [فإنه قال]: "سفه نفسه: امتهنها، واستخف بها"، ثم ذكر أوجهاً أخرى.
ثم قال والوجه الأول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث:
"الكِبْرُ أَنْ تَسْفَهَ الحَقَّ وَتُغْمِضَ النَّاسَ" .
الثاني: أنه مفعول به ولكن على تضمين "سفه" معنى فعل يتعدى، فقدره الزجاج وابن جني بمعنى "جهل"، وقدره أبو عبيدة بمعنى "أهلك".
قال القرطبي: وأما سَفُهَ بالضم فلا يتعدى قاله ثعلب والمبرد].
الثالث: أنه منصوب على إسقاط حرف الجَرّ تقديره: سَفِهَ في نَفْسه.
الرابع: توكيد لمؤكد محذوف تقديره: سفه في نفسه، فحذف المؤكد قياساً على النعت والمنعوت، حكاه مكّي.
الخامس: أنه تمييز، وهو قول الكوفيين.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف المميِّز؛ نحو قوله: [الوافر]

792ـ................... وَلاَ بِفزَارَةَ الشُّعْرِ الرِّقَابَا

[الوافر]

793ـ.................. أَجَبَّ الظَّهْرَ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ

فجعل "الرِّقَاب" و "الظَّهر" تمييزين، وليس كذلك، بل هما مُشَبَّهان بالمفعول به؛ لأنهما معمولا صفة مشهبة، وهي "الشُّعْر" جمع أَشْعَر، و "أَجَبّ" وهو اسم.
السادس: أنه مشبه بالمفعول وهو قول بعض الكوفيين.
السابع: أنه توكيد لمن سفه؛ لأنه في محل نصب على الاستثناء في أحد القولين، وهو تخريج غريب نقله صاحب "العَجَائب والغَرَائب".
والمختار الأول؛ لأن التضمين لا ينقاس، وكذلك حرف الجر.
وأما حذف المؤكد وإبقاء التوكيد، فالصحيح لا يجوز.
وأما التمييز فلا يقع معرفة، ما ورد نادر أو متأول.
وأما النصب على التشبيه بالمفعول، فلا يكون في الأفعال إنما يكون في الصّفات المشبهة خاصة.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها من الآيات
لما ذكر أمر إبراهيم ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ وشرائعه التي ابتلاه الله بها، وبناء بيته، والحرص على مصالح عباده، ودعائه [بالخير لهم]، وغير ذلك عجب الناس فقال: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ }.
قال النحاس: وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب والمعنى: يزهد فيها، وينأى بنفسه عنها، أي: الملّة وهي الدين والشرع؛ إلاّ من سَفِهَ نَفْسَهُ.
قال قتادة: وكل ذلك توبيخ اليهود، والنصارى، ومشركي العرب؛ لأن اليهود إنما يفتخرون بالوَصْلَة إلى إسرائيل وقريش، فإنهم إنما نالوا كلّ خير بالبيت الذي بناه، [فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله]، وسائر العرب، [وهم العدنانيون] مرجعهم إلى إسماعيل، وهم يفتخرون على [القَحْطَانيين] بما أعطاه الله ـ تعالى ـ من النبوة، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام، ولما ثبت أنّ إبراهيم ـ عليه السلام ـ هو الذي طلب من الله ـ تعالى ـ بعثة هذا الرسول في آخر الزمان ثبت أنه هو الذي تضرع إلى الله ـ تعالى ـ في تحصيل هذا المقصود، والعجب ممن [أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام] ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومطلوبه بالتضرّع لا شك أن مما يستحق أن يتعجب منه.
[فإن قيل: لعل الرسول عليه الصلاة والسلام الذي طلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعثه غير هذا الشخص.
فالجواب أن التوراة والإنجيل شاهدة بصحة هذه الرواية، والمعتمد في إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزة على يده، وهو القرآن الكريم وإخباره عن الغيوب منسوخ، ولفظ "الملة" يتناول الفروع والأصول؛ فيكون محمداً عليه ـ الصلاة والسلام ـ.
والجواب لمّا أنه طلب من الله بعثة هذا الرسول وتأييده ونشر شريعته، عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم].
فصل
روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: إن الله ـ تعالى ـ قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيّاً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، وأَسْلم سَلَمَةُ، ومهاجر أَبَى أن يسلم، فنزلت هذه الآية الكريمة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: { إلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } خَسر نفسه.
وقال الكلبي: "ضلّ من قتل نفسه".
وقال أبو البقاء، وأبو عبيدة: "أهلك نفسه".
وقال ابن كيسان والزجاج: "جهل نفسه"؛ لأنه لم يعرف الله ـ تعالى ـ خالقها، وقد جاء "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ".
وقال ابن بحر: معناه جهل نفسه، وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعاً ليس كمثله شيء، فيعلم به توحيد الله وقدرته.
وهذا معنى قول الزجاجرحمه الله تعالى: لا يفكّر في نفسه من بيدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعينين يبصر بهما، وأذنين يسمع بهما، ولسان ينطق به، وأضراس نبتت له عند غناه عن الرضاع، وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومَعِدَة أعدّت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صَفْوه، وعروق ينفذ بها إلى الأطراف، وأمعاء يرتكز إليها نقل الغذاء، فيبرز من أسفل البدن، فيستدل بها على أن له خالقاً قادراً عليماً حكيماً وهذا معنى قوله تعالى:
{ وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } { الذاريات:21].
قوله: { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا } اخترناه من سائر الخلق في الدنيا، وإنّه في الآخرة عظيم المنزلة.
[قال الحسين بن فضيل: فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى. وقال الحسن: من الذين يستحقون الكرامة وحسن الثواب].
قوله: "فِي الآخِرَةِ" فيه خمسة أوجه:
أحدها: أنه متعلّق بالصالحين على أن الألف واللام للتعريف، وليست موصولة.
الثاني: أنه متعلّقة بمحذوف تقديره أعني في الآخرة كقولك: بعد سقياه.
الثالث: يتعلق بمحذوف أيضاً، لكن من جنس الملفوظ به أي: وإنه لصالح في الآخرة لمن الصالحين.
الرابع: أن يتعلق بقوله الصالحين، وإن كانت "أل" موصولة؛ لأنه يُغْتفر في الظروف وشبهها ما لا يغتفر في غيرها اتساعاً، ونظيره قول الشاعر: [الرجز]

794ـ رَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا تَمَعْدَدَا كَانَ جَزَائِي بِالْعَصَا أَنْ أُجْلَدَا

الخامس: أن يتعلّق بـ "اصطفيناه".
قال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير مجازه: ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة.
وهذا ينبغي ألا يجوز مثله في القرآن لنُبُوِّ السمع عنه.
والاصطفاه: الاختيار، "افتعال" من صفوة الشيء، وهي خياره، وأصله: اصتفى، وإنما قلبت تاء الافتعال "طاء" مناسبة للصاد لكونها حرف إطْبَاق، وتقدم ذلك عند قوله:
{ أَضْطَرُّهُ } [البقرة:126].
وأكد جملة الاصطفاء باللام، والثانية بـ "أن" و "اللام"؛ لأن الثانية محتاجة لمزيد تأكيد، وذلك أن كونه في الآخرة من الصالحين أمر مُغَيَّب، فاحتاج الإخبار به إلى فَضْل توكيد.
وأما اصطفاء الله فقد شاهدوه منه، ونقله جيل بعد جيل.