خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ
١٦٦
وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ
١٦٧
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

اعْلَم أنَّه لما بَيَّن حال مِنْ يَتَّخذُ مِنْ دُون الله أنْداداً بقوله: وَلَوْ يَرَى الَّذينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ على طَرِيقِ التهْدِيد زادَ في هَذَا الوَعِيد بهذه الآية الكريمة، وبَيَّنَ أنَّ الذين أفْنَوْا عُمْرهم في عِبَادَتِهِمْ، واعتقَدُوا أنَّهم سَبَبُ نجاتِهِمْ، فإنَّهم يتبَّرءُون منْهُمْ؛ ونظيره قوله تعالى: { يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } [العنكبوت: 25] وقولُهُ - عزَّ وجلَّ سبحانَهُ-: { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67] وقوله تعالى: { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [الأعراف: 38] وقول إبليس لعنه الله { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } [إبراهيم: 22].
وهل هذا التبرُّؤ يقع منهم بالقَوْل، أو بظُهُور النَّدَم على ما فرَطَ منهم من الكُفْر والإِعْرَاض؟ قوْلاَن: أظهرها الأوَّل.
واختلفوا في هؤلاء المَتْبُوعِينَ، فقال قتادَةُ، والرَّبيع وعَطَاءٌ: السَّادة والرُّؤساء مِنْ مشركي الإنس إلاَّ أنَّهم الذين يصحُّ منهم الأَمر؛ والنَّهْيُ؛ حتى يمكن أن يتبعوا
وقال السُّدِّيُّ: هُمْ شَيَاطينُ الجِنِّ.
وقيلَ: شَيَاطين الإنْسِ والجِنِّ.
وقيلَ: الأوْثَان الَّتي كانُوا يسمُّونها بالآلهة؛ ويؤيد الأوَّل قولُهُ تعالى:
{ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [الأحزاب: 67].
قولُهُ تعالى: "إِذْ تَبَرَّأَ" في "إِذْ" ثلاثةُ أوجُهٍ:
أحدُها: أنها بدل مِنْ "إِذْ يَرَوْنَ".
الثاني: أنها منصوبةٌ بقوله: "شَدِيدُ العَذَابِ".
الثالث - وهو أضْعَفُها - أنها معمولةٌ لـ"اذكُرْ" مقدَّراً، و"تَبَرَّأَ" في محلِّ خفْضٍ بإضافةِ الظَّرْف إلَيْه، والتبرُّؤ: الخُلُوص والانفصالُ، ومنه: "بَرِئْتُ مِنَ الدَّيْنِ" وتقدم تحقيقُ ذلك عند قوله:
{ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } [البقرة: 54] والجمهور على تقديم: "اتُّبِعُوا" مبنياً للمفعول على "اتَّبَعُوا" مبنياً للفاعل.
وقرأ مجاهدٌ بالعَكْس، وهما واضحتَانِ، إلاَّ أن قراءة الجُمْهُور واردةٌ في القُرْآنِ أَكْثَرَ.
قوله تعالى: "وَرَأَوا العَذَابَ" في هذه الجملة وجْهان:
أظْهَرُهما: أنَّها عطْفٌ على ما قبْلَها؛ فتكُون داخلةٌ في خَبَر الظَّرْف، تقديرُهُ: "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا"، و "إِذْ رَأَوا".
والثاني: أنَّ الواو للحالِ، والجملة بعدها حاليَّةٌ، و"قَدْ" معها مُضْمَرَةٌ، والعاملُ في هذه الحالِ، "تَبَرَّأَ" أي: "تَبَرَّءُوا" في حال رُؤْيتهم العَذَابَ.
قوله تعالى: "وتَقَطَّعَتْ" يجوزُ أنْ تكُون الواوُ للعَطْف، وأن تكون للحالِ، وإذا كانت للعطف، فهل عطفت "تَقَطَّعَتْ" على "تَبَرَّأَ" ويكون قوله: "وَرَأَوا" حالاً، وهو اختيارُ الزمخشري أو عطفت على "رَأَوْا"؟ وإذا كانت للحال، فهل هي حالٌ ثانيةٌ لـ"الَّذِينَ" أو حالٌ للضَّمير في "رَأَوا" وتكونُ حالاً متداخلةً، إذا جعْلنَا "ورَأوا" حالاً.
والباءُ في "بهم" فيها أربعةُ أوْجُه:
أحدها: أَنَّها للحالِ، أي: تقطَّعَتْ موصُولةً بهم الأسْبَاب؛ نحو: "خَرَجَ بِثِيَابِهِ".
الثَّانِي: أن تكُونَ للتعديَة، اي: قَطَّعَتْهُم الأَسْبَابُ؛ كما تقول: تَفَرَّقَتْ بهم الطُّرُقُ، أي: فَرَّقَتْهُمْ.
الثالث: أن تكون للسببيّة، أي: تقطَّعت [بسبَب كُفْرهمُ الأَسْبَابُ الَّتي كانُوا يرْجُون بها النَّجَاةَ].
الرابع: أن تكون بمعنى "عَنْ" [أي: تقطَّعت عنْهُم، كقوله
{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 59]، أي: عنهُ] وكقول علْقَمَةَ في ذلك: [الطويل]

882 - فَإِنَّ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فإِنَّنِي بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسِاءِ طَبيبُ

أي: عن النِّسَاء.
فصلٌ في المراد بـ"الأسباب"
والأَسْبَابُ: الوَصْلاَتُ التي كانت بينهم، قاله مجاهدٌ، وقتادةُ، والرَّبيعُ.
وقال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عَنْهما - وابن جُرَيْجٍ: الأَرْحَام الَّتِي يتعاطَفُونَ بها؛ كقوله تعالى:
{ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ } [المؤمنون: 101].
وقال ابنُ زَيْدٍ، والسُّدِّيُّ: الأعمالُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها.
وقال ابنُ عَبَّاسٍ: العُهُودُ والحَلِفُ الَّتي كانَتْ بَيْنَهم، يتوادُّون عَلَيْهَا.
وقال الضَّحَّاكُ، والرَّبيع بنُ أَنَسٍ: المنازلُ التي كانَتْ لهم في الدُّنيا.
وقال السُّدِّيُّ: الأعْمَالُ الَّتي كانوا يلزمونها في الدنيا؛ كقوله تبارك وتعالى:
{ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23].
وقيل: أسبابُ النجاةِ تقطَعَّت عنهم.
قال ابنُ الخَطِيبِ - رضي الله عنه - والأظْهَرُ دخولُ الكُلِّ فيه ولأن ذلك كالنَّفي، فيعمّ الكلَّ؛ فكأنَّه قال: وزالَ كلُّ سببٍ يمكنُ أن يتعلَّق به، وأنهم لا ينتفعونُ بالأَسْباب على اختلافِهَا من منزلةٍ، وسببٍ ونسَبٍ، وعَهْدٍ، وعَقْدٍ وذلك نهاية اليأس.
وهذه الأسبابُ مجازٌ فإِنَّ السَّبب في الأصْل: الحَبْل؛ قالوا: ولا يُدْعى الحَبْلُ سبباً؛ حتى يُنْزَلَ فيه ويُصْعَدَ به، ومنْه قوله تبارك وتعالى:
{ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [الحج: 15] ثم أطلق على كلِّ ما يُتَوَصَّلُ به إلى شَيْءٍ، عَيْناً كان أو معنى، وقيل للطَّريق: سَبَبٌ؛ لأنَّك بسُلُوكِهِ تَصِلُ إلى المَوْضع الذي تريدُهُ؛ قال تعالى: { فَأَتْبَعَ سَبَباً } [الكهف: 85] أي: طريقاً، وأسبابُ السَّموات: أَبوابُها؛ قال تعالى مُخْبِراً عن فِرْعُونَ:
{ لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ أَسْبَابَ ٱلسَّمَٰوَاتِ } [غافر: 36 - 37] وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ؛ قال زُهَيْرٌ: [الطويل]

883 - وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ

وقد يُطْلَق السَّبَب على العِلْمِ؛ قال سُبحَانهُ وتعالى: { مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } [الكهف: 84]، أي؛ عِلماً، وقد وجد هنا نَوعٌ منْ أنواع البَدِيع، وهو التَّرْصِيع، وهو عبارةٌ عن تسجيع الكلامِ، وهو هنا في موضعين.
أحدهما: { ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ }؛ ولذلك حذف عائد المَوْصُول الأوَّل، فلم يَقُلْ { مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم }؛ لفواتِ ذلك.
والثَّاني: { وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ }، وكقوله
{ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [البقرة: 276].
قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ }، يعني: الأَتْبَاع: { لَوْ أَنْ لنَا كَرَّةً } أي: رجعةً إلى الدُّنيا، والكرَّةُ: العودَة، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرّاً؛ قال القائل في ذلك: [الوافر]

884 - أَكُرُّ عَلَى الْكِتيبَةِ لاَ أُبَالِي أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سِوَاهَا

قوله تعالى: "فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ" منصوبٌ بعد الفاءِ بـ"أنْ" مضمرة في جواب التمنِّي الَّذي أُشْرِبَتْهُ "لَوْ" ولذلك أجيبت بجواب "لَيْتَ" الذي في قوله: { يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [النساء: 73] وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمنِّي، فهلْ هي الامتناعيَّةُ المفتقرة إلى جوابٍ، أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ.
الصحيحُ: أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديرُهُ تَبَرَّأْنَا ونحو ذلك، وأَمَّا مَنْ قال بأنَّ "لَو" الَّتي للتمنِّي لا جوابَ لها؛ فاستدَلَّ بقول الشَّاعر: [الوافر]

885 - وَلَوْ نُبِشَ المَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ فَيُخْبَرَ بالذَّنائِبِ أَيُّ زِيرِ

وهذا لا يدلُّ فإنَّ جوابها في البيتِ بعده، وهو قوله [الوافر]

886 - بِيَوْمِ الشَّعْثَمَين، لَقَرَّ عَيْناً وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ

واستدلَّ أيضاً بأنَّ "أَنْ" تُفْتَحُ بعْد "لَوْ"؛ كما تفتحُ بَعْد لَيْتَ في قوله [الرجز]

887 - يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ حَتَّى يَعُودَ الْبَحْرُ كَيَّنُونَهْ

وها هنا فائدة ينبغي أنْ يُنْتَبَهَ لها، وهيَ: أَنَّ النُّحاة قالُوا: كلُّ موضعٍ نُصِبَ فيه المضارعُ بإضمار "أنْ" بعد الفَاءِ [إذا سقَطَتِ الفاءُ، جزم إلاَّ في النَّفسِ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضاً؛ فيقال: و"إلاَّ" في جواب التَّمَنِّي بـ"لَوْ"؛ فإنَّه ينصب المضارع فيه بإضمار "أَنْ" بعد الفاء الواقعة جواباً له، ومع ذلك، لو سَقَطَتْ هذه الفاءُ] لم يُجزم.
قال أَبُو حَيَّانَ والسَّبب في ذلك: أَنَّها محمولةٌ على حَرْف التمنِّي، وهو "لَيْتَ" والجزمُ في جواب "لَيْتَ" إنما هو لتضمنها معنى الشَّرْط، أو لدلاَلَتها على كونه محذوفاً على اختلاف القولَيْن؛ فصارت "لَوْ" فَرَعَ الفَرْعِ، فضَعُفَ ذلك فيها.
وقيلَ: "لَوْ" في هذه الآية الكريمة ونظَائِرِها لِما كانَ سيقعُ لِوُقُوع غيره، وليس فيها معنى التمنِّي، والفعلُ منصوب بـ"أَنْ" مضمرَة؛ على تأويل عَطف اسْمٍ على اسمٍ، وهو "كَرَّة" والتقديرُ: "لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً، فنتبرَّأَ" فهو مِنْ باب قوله: [الوافر]

888 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ...........................

ويكون جواب "لَوْ" محذوفاً أيضاً؛ كما تقدَّم.
وقال أبو البقاءرحمه الله تعالى: "فَنَتَبَرَّأَ" منصوبٌ بإضمارِ "أَنْ"، تقديره: { لَوْ أَنَّ لَنَا أنْ نَرْجِعَ فَنَتَبَرَّأَ } فحلَّ "كرَّة" إلى قوله: "أَنْ نَرْجِعَ"؛ لأنَّه بمعناه، وهو قريبٌ، إلاَّ أنَّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدرٍ؛ ليعطفُوه على الاسم قَبْله، ويتركُون الاسم على حالِهِ؛ وذلك لأنه قد يكُون اسْماً صَرِيحاً غير مَصْدر؛ نحو "لَوْلاَ زَيْدٌ وَيَخْرُج، لأَكْرَمْتُكَ" فلا يتأتَّى تأويله بحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ.
قولُهُ تعالى: "كَمَا" الكافُ في موضعها نصبٌ: إِمَّا على كونها نعت مصدرٍ محذوف، أي: "تَبَرُّؤاً" وإِمَّا على الحال مِنْ ضمير المصدر المعرَّف المحذوف أي "نتبرّأهُ، أي: التَّبَرُّؤَ، مُشَابِهاً لِتَبَرُّئِهِمْ"؛ كما تقرَّر غير مرَّة.
وقال ابن عطيَّة: الكاف في قوله: "كَمَا" في موضع نصب على النَّعت: إمّا لِمَصدرٍ: أو لحال، تقديره: مُتَبَرِّئِينَ، كما قال أبو حَيَّان. أمَّا قوله "لِحَالٍ" تقديرُهُ: "مُتَبَرِّئِينَ كما" فغيرُ واضحٍ، لأنَّ "ما" مصدرية، فصارتِ الكافُ الداخلة عليها مِن صفات الأَفعال و"مُتَبرِّئين": من صفات الأَعْيَان، فكيف يُوصف بصفات الأَفعال.
قال: وأَيضاً لا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنَّها إذ ذاك تكون حالاً مؤكِّدة، وهي خلافُ الأَصل، وأيضاً: فالمؤكَّد ينافِيهِ الحَذفُ؛ لأنَّ التوكيد يُقَوِّيه، فالحَذْفُ يناقضه.
فصل في معنى التبرؤ
قال ابن الخطيب -رحمه الله - قولهم: { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا } ذلك تمنٍّ منهم للرجعة إلى الدُّنْيا، وإلى حال التَّكليف، ويكون الاختيارُ لهم؛ حَتَّى يتبرءوا منهم في الدُّنيا، كما تبرءوا يَوْمَ القيامة منهم ومفهوم الكلام: أَنَّهُمْ تمنَّوا لهم في الدُّنيا ما يُقَاربُ العذابَ، فيتبرّءُونَ منهم، ولا يخلصونهم، كما فعلوا بهم يومَ القيامة، وتقديرُه: فلو أنَّ لنا كَرَّةً فنتبرَّأَ منهم، وقد دَهَمَهُمْ مثلُ هذا الخَطْب، كما تبرءوا منَّا، والحالُ هذه؛ لأنَّهم إِنْ تَمَنَّوا التبرُّؤ منهم، مع سلامةٍ، فأيُّ فائدة؟.
قال القُرطبي: التبرُّؤُ: الانفصال.
قوله تعالى: { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ } في هذه "الكافِ" قولان:
أحدهما: أنَّ موضعها نصبٌ: إِمَّا نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من المَصدر المعرَّفِ، أي: يُريهمْ رؤية كذلك، أو يَحْشُرُهُمْ حَشْراً كَذَلِكَ، أوْ يَجزِيهم جَزَاءً كذلك، أو يُريهم الإراءة مشبهةً كذلك ونحو هذا.
الثاني: أن يكون في موضع رفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك، أو حَشْرُهُمْ كذلك، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيَّان: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه يقتضي زيادة الكاف، وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأَصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقديرُ: مثل إراءتهم الأهوال، يريهمُ اللَّهُ أعمالَهُمْ حسَرَاتٍ.
وقيل: الإشارةُ إلى تبرُّؤ بعضهم من بعض والتقديرُ: كَتَبَرُّؤ بعضهم من بعض، يريهمُ اللَّهُ أعمالهُم حسَراتٍ عليهم؛ وذلك لانقطاع الرَّجَاء منْ كُلِّ أحدٍ.
والرؤيةُ تحتملُ وجهَين:
أحدهما: أن تكون بَصَريَّة، فتتعدّى لاثنين بنقل الهمزة أولهُما الضميرُ، والثاني "أَعْمَالَهُمْ" و"حَسَرَاتٍ" على هذا حالٌ مِنْ "أَعْمَالَهُمْ".
والثاني: أَنْ تكونُ قلبيَّةً؛ فتتعدَّى لثلاثةٍ؛ ثالثُها "حَسَرَاتٍ" و "عَلَيْهِمْ" يجوزُ فيه وجْهَان:
أن يتعلَّق بـ"حَسَرَاتٍ"؛ لأنَّ "يحْسَرُ" يُعدَّى بـ"عَلَى" ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ. أي: على تَفْرِيطهِمْ.
والثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوف؛ لأنَّها صفةٌ لـ"حَسَرَاتٍ"، فهي في محلّ نصْبٍ؛ لكونها صفةً لمنصوبٍ.
فصل في المراد بـ"الأعمال" في الآية
اختلفوا في المراد بالأََعمالِ.
فقال السُّدِّيُّ: الطاعاتُ، لِمَ ضَيَّعُوها؟ وقال الربيعُ وابنُ زَيْدٍ، المعاصي والأَعْمَال الخبيثَةُ يتحسَّرون لِمَ عَمِلُوها؟
وقال الأَصَمُّ: ثوابُ طاعاتهم الَّتي أتَوْا بها، فأحْبَطُوها بالكُفْرِ، قال السُّدِّيُّ: تُرفع لهم الجَنَّة، فينظرُون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أطاعُوا الله، فيقال لهم: تِلْكَ مساكنُكمْ، لو أطعتُمُ الله تعالى، ثمَّ تقسَّم بين المؤمِنين، فذلك حين يتحسَّرُون.
وقيل: أعمالُهُمْ الَّتي تقرَّبوا بها إلى رؤسائهم والانقياد لأَمرهم، قال ابن كَيْسَان: إِنَّهُمْ أشركُوا بالله الأوثان، رجاءَ أن تقرِّبهم إلى الله تعالى، فلما عُذِّبوا على ما كانوا يَرْجُون ثوابه، تحسَّروا ونَدِمُوا.
قال ابن الخطيب: والظاهرُ أنَّ الأعمال الَّتي اتَّبَعُوا فيها السَّادَة، وهو كُفْرُهُم. ومعاصِيهِمْ، وإنما تكون حَسْرةً بأن رأوها في صحيفَتهِمْ، وأيقنوا بالجزاءِ عليها، وكان يمكنُهُمْ تركُها، والعدولُ إلى الطَّاعات، وفي هذا الوجه الإضافة وفي الثاني: مجازٌ بمعنى لزومِهِم، فَلَمْ يَقُومُوا بها. و"الحَسْرَة" واحدةُ الحَسَرَاتِ؛ كَتَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ، وَجَفْنَةٍ وَجَفَنَاتٍ وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ.
هذا إذا كان اسماً. [فإنْْ] نَعتَّهُ سكَّنت؛ كقوله ضَخْمَة وضَخْمَات وعَبْلَة وعَبْلاَت نقله القرطبيرحمه الله تعالى قال الزَّجَّاج: هي شِدَّة الندامة، وهو تألُّم القَلب بانحسارِهِ عمّا تؤلمه واشتقاقها إِمَّا من قولهم: بعير حَسيرٌ أي منقطعُ القوَّة والحُسُور الإِعياء، وقال تبارك وتعالى:
{ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [الأنبياء: 19] أو من الحسر وهو الكشف يقال: حسر عن ذراعيه، والحسرة: انشكافٌ عن حالة النَّدَامة؛ [والمحسرة] المنكسة؛ لأنها تكشف عن الأرض؛ والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش.
قوله تعالى: { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ }.
احتجَّ به على أن أصحاب الكبائِرِ منْ أهْل القبلة يخرجُون من النَّار، فقالوا:
لأنَّ قوله: "وَمَا هُمْ" تخصيصٌ لهم بعَدَم الخروج على سبيل الحَصر؛ فوجب أن يكُون عدَمُ الخروج مخصُوصاً بهم، وهذه الآية الكريمة تكشف عن المراد بقوله:
{ وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } [الأنفطار: 14 - 16] فبيَّن أنَّ المراد بالفُجَّار ها هنا الكفَّار؛ لدلالة هذه الآية الكريمة عليه والله أعلم.