خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
١٦٨
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
١٦٩
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

لَمَا بيَّن التوحيد ودلائلهُ وما للموحِّدين مِنَ الثواب وأتبعه بذكر الشِّرك، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وأنَّ معصية مَنْ عَصَاه، وكُفْر من كَفَر به، لم تُؤَثِّر في قطع نعمه وإحسَانه إِلَيهمْ.
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: هذه الآية نزلت في قومٍ من ثقيف، وبني عامر بن صَعْصعَة، وخُزَاعة، وبني مُدْلجٍ، حَرَّموا على أنفسُهم مِنَ الحَرثِ، والبحائِرِ، والسَّوائِب، والوَصَائِلَ والحَامِ.
قوله تعالى" { مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } حَلالاً فيه خَمْسَة أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون مفعولاً بـ"كُلُوا" و "مِنْ" على هذا فيها وجهان:
أحدهما: أنْ تتعلَّق بـ"كُلُوا" ويكون معناها ابتداء الغاية.
الثاني: أنْ تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من "حلالاً" [وكانت في الأصلِ صفةً له، فَلَمَّا قُدَّمَتْ عليه، انتصَبَتْ حالاً] ويكون معنى "مِن" التَّبْعِيضَ.
الثاني: أنْ يكون انتصابُ "حَلاَلاً" على أنَّه نعتٌ لمفعولٍ محذوف، تقديرُهُ: شيئاً أو رِزْقاً حَلاَلاً، ذكَرَه مَكِّيٌّ واستعبده ابن عطيَّة ولم يبيِّن وجه بُعْده، والذي يظهرُ في بُعْده أَنَّ "حَلاَلاً" ليس صفةً خاصَّة بالمأْكُول بل يُوصَف به المأكُول وغيره وإذا لم تكُن الصفة خاصَّة، لا يجوز حذف الموصول.
الثالث: أن ينتصب "حلالاً" على أنَّه حالٌ من "مَا" بمعنى: "الَّذي"، أي: كُلُوا من الَّذي في الأرض حال كونه حلالاً.
الرابع: أن ينتصب على أنه نعت لمصدر محذوف، [أي: أكلاً حلالاً، ويكون مفعول "كُلُوا" محذوفاً، و"ما في الأرض" صفةً لذلك المفعول المحذوف]، ذكره أبو البقاء وفيه من الرَّدِّ ما تقدِّم على مَكِّيٍّ، ويجوز على هذا الوجه الرابع ألا يكون المفعول محذوفاً، بل تكون "مِنْ" مزيدةً على مذهب الأخفش، تقديره، "كُلُوا مَا في الأَرْضِ أكْلاً حَلاَلاً".
الخامس: أن يكون حالاً من الضَّمير العائد على "ما" قاله ابن عطيَّة، يعني بـ"الضَّمير" الضَّمير المستكنَّ في الجارِّ والمجرور، الواقع صلة.
و"طَيِّباً" فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون صفة لـ"حَلاَلا" أمَّا على القول بأنَّ "مِنْ" للابتداء، متعلِّقةٌ بـ"كُلُوا" فهو واضحٌ؛ وأمَّا على القول بأن "مِمَّا في الأَرْضِ" حال من "حَلاَلاً"، فقال أبُو البَقَاءِ -رحمه الله تعالى-: ولكن موضعها بعد الجارِّ والمجرور، لئلاَّ يفصل الصِّفة بين الحال وذي الحال. وهذا القول ضعيفٌ، فإنَّ الفصل بالصفة بين الحال وصاحبها ليس بممنوعٍ؛ تقول "جَاءَنِي زَيْدٌ الطَّويلُ [راكِباً"، بل لو قدَّمت الحال على الصِّفة، فقلت: "جاءَنِي زَيْدٌ راكباً الطَّوِيلُ"] - كان في جوازه نظر.
الثاني: أن يكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من المصدر المعرفة المحذوف: أي أكلاً طَيِّباً.
الثالث: أن يكون حالاً من الضَّمير في "كُلُوا" تقديره: مستطيبين - قال ابن عطيَّة.
قال أبُو حَيَّان: وهذا فاسدٌ في اللَّفظ أمَّا اللَّفظ؛ فلأنَّ "الطَّيِّبَ" اسم فاعل فكان ينبغي أن تُجمع؛ لتطابق صاحبها؛ فيقال: طيِّبين، وليس "طَيِّب" مصدراً؛ فيقال: إنَّما لم يجمع لذلك، وأمَّا المعنى؛ فلأنَّ "طَيِّباً" مغايرٌ لمعنى مستطيبين، لأنَّ "الطَّيِّب" من صفات المأكول، و"المستطيب" من صفات الآكلين، تقول: "طَابَ لِزَيْدٍ الطَّعَامُ" ولا تقول: "طَابَ زَيْدٌ الطَّعَامَ" بمعنى استطابه.
و"الحَلاَلُ": المأذون فيه ضدُّ الحرام الممنوع منه، حلَّ يحلُّ، بكسر العين في المضارع، وهو القياس، لأنه مضاعفٌ غير متعدٍّ، يقال: حَلاَلٌ، وحِلٌّ؛ كَحَرَامٍ وحِرْمٍ وهو في الأصل مصدرٌ، ويقال: "حِلٌّ بِلٌّ" على سبيل الإتباع؛ كـ"حَسَنٌ بَسَنٌ"، وحَلٌ بمكان كذا يَحُلُّ - بضم العين وكسرها - وقُرئ:
{ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } [طه: 81] بالوجهين، وأصله من "الحَلِّ" الذي هو: نقيض العقد، ومنه: حلَّ بالمكان، اذا نزل به؛ لأنَّه حلَّ شدَّ الرحال للنُّزول، وحَلَّ الدَّين إذا نزل به، لانحلال العقدة بانقضاء المُدَّة، وحَلَّ من إحرامه، لأنه حَلَّ عقد الإحرام، وحلَّت عليه العقوبة، أي: وجبت لانحلال العقدة [المانعة من العذاب] ومن هذا: "تَحِلَّةُ اليمين": لأن عقدة اليمين تنحلُّ به.
والطَّيِّبُ [في اللغة: يكون بمعنى الطَّاهر، والحلال يوصف بأنَّه طيِّبٌ؛ قال تعالى:
{ قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ } [المائدة: 100] والطَّيِّب في] الأصل: هو ما يستلذُّ به ويستطاب، ووصف به الطَّاهر، والحلال؛ على جهة التشبيه؛ لأنَّ النَّجس تكرهه النَّفس؛ فلا تستلذُّه، والحرام غير مستلذٍّ، لأنَّ الشرع يزجر عنه.
وفي المراد بالطَّيِّب في الآية وجهان:
الأول: أنه المستلذُّ؛ لأنا لو حملناه على الحلال، لزم التكرار؛ فعلى هذا يكون إنما يكون طيِّباً، إذا كان من جنس ما يشتهى؛ لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه، عاد حراماً، وإن كان يبعد وقوع ذلك من العاقل إلاّ عند شبهة.
والثاني: أن يكون المراد ما يكون جنسه حلالاً، وقوله: "طَيِّباً" المراد منه: ألاَّ يكون متعلِّقاً به حقُّ الغير؛ فإنَّ أكل الحرام، وإن استطابه الآكل، فمن حيث يؤدِّي إلى العقاب: يصير مضرَّةً، ولا يكون مستطاباً؛ كما قال تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10].
قوله: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ }: قرأ ابنُ عامِرٍ، والكسَائيُّ، وقُنْبُلٌ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، ويَعْقُوبُ: "خُطُوَاتِ" بضم الخاء، والطاء، وباقي السَّبْعة بسكون الطاء.
أمّا من ضمَّ العين؛ فلأنَّ الواحدة "خُطْوَة" فإذا جمعت، حرِّكت العين؛ للجمع، كما فعلت في الأسماء التي على هذا الوزن؛ نحو: غُرْفَةٍ وغُرُفاتٍ، وتحريك العين على هذا الجمع؛ للفصل بين الاسم والصِّفة؛ لأن كلَّ ما كان اسماً، جمعته بتحريك العين؛ نحو: "تَمْرَة وتَمَرَات، وغَرْفَةٍ وغَرَفَاتٍ، وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ" وما كان نعتاً، جمع بسكون العين؛ نحو: "ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ، وعَبْلَةٍ وعَبْلاَتٍ"، والخُطْوَة: من الأسماء، لا من الصفات، فتجمع بتحريك العين.
وقرأ أبو السَّمَّال "خُطَوَات" بفتحها، ونقل ابن عطيَّة، وغيره عنه: أنه قرأ: "خَطَوَات"، بفتح الخاء، والطاء، وقرأ عليٌّ وقتادة، والأعمش بضمِّها، والهمز
فأما قراءة الجمهور، والاولى من قراءتي أبي السَّمَّال، فلأن "فُعْلَة" الساكنة العين، السَّالِمَتَهَا، إذا كان اسماً، جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة أوجهٍ، وهي لغاتٌ مسموعةً عن العرب: السُّكون، وهو الأصل، والإتباع، والفتح في العين، تخفيفاً.
وأما قراءة أبي السَّمَّال التي نقلها ابنُ عطيَّة، فهي جمع "خَطْوَة" بفتح الخاء، والفرق بين الخطوة بالضَّمَّ، والفتح: أنَّ المفتوح: مصدر دالًّ على المرَّة، من: خَطَا يَخْطُوا، إذا مشى، والمضموم: اسمٌ لما بين القدمين؛ كأنَّه اسم للمسافة؛ كالغرفة اسم للشيء المغترف.
وقيل: إنَّهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكره أبُو البَقَاءِ.
وأمَّا قراءةُ عليٍّ، ففيها تأويلان:
أحدهما - وبه قال الأَخْفَشُ -: أنَّ الهمزة أصلٌ، وأنَّه من "الخَطَأ"، و"خُطُؤَات" جمع "خِطْأَة" إن سمع، وإلاَّ فتقديراً، وتفسير مجاهد إياه بـ"الخَطَايَا" يؤيِّد هذا، ولكن يحتملُ أن يكون مجاهد فسَّره بالمرادف.
والثاني: أنه قلب الهمزة عن الواو؛ لأنَّها جاورت الضمّة قبلها؛ فكأنها عليها؛ لأنَّ حركة الحرف بين يديه على الصَّحيح، لا عليه.
فصل
قال ابن السَّكِّيتِ - فيما رواه عن اللِّحْيَانِيِّ - الخَطْوَة والخُطْوَة بمعنى واحدٍ، وحكى عن الفرَّاء الخُطْوَة ما بين القدمين؛ كما يقال: حَثَوْتُ حُثْوَةً، والحُثْوَة: اسمٌ لما تَحَثَّيْتَ، وكذلك غَرَفْتُ غُرْفَةً، والغُرْفَة: هو الشيء المُغْتَرَفُ بالكَفِّ، فيكون المعنى: لا تتَّبعوا سبيله، ولا تسلكوا طريقه؛ لأنَّ الخُطْوَة اسم مكان.
قال الزَّجَّاج وابن قُتَيْبَة: خُطُوَاتُ الشَّيْطان طُرُقُهُ، وإن جعلت الخطوة مصدراً، فالتقدير: لا تَأَتَمُّوا به، ولا تَتَّبِعُوا أَثَرَهُ، والمعنى: أن الله تعالى، زجر المكلَّف عن تخطِّي الحلال إلى الشُّبه؛ كما زجره عن تخطِّيه إلى الحرام، وبيَّن العلَّة في هذا التحذير، وهو كونه عدوّاً مبيناً، أي: متظاهراً بالعداوة؛ وذلك لأنَّ الشيطان التزم أموراً سبعةً في العداوة:
أربعة منها في قوله تعالى:
{ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ } [النساء: 119].
وثلاثة منها في قوله:
{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [الأعراف: 16 - 17] فلمَّا التزم هذه الأمور، كان عدواً متظاهراً بالعداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السُّجود لآدم، وغروره إيّاه؛ حتَّى أخرجه من الجنَّة.
قوله: "إِنَّهُ لَكُمْ" قال أبُو البَقَاءِ: إنَّما كسر الهمزة؛ لأنَّه أراد الإعلام بحاله، وهو أبلغ من الفتح؛ لأنه إذا فتح الهمزة، صار التقدير: لا تتَّبعوه؛ لأنَّه عدوٌّ لكم، واتباعه ممنوعٌ، وإن لم يكن عدوّاً لنا، مثله: [منهوك الرجز]

889أ - لَبَّيكَ، إنَّ الحَمْدَ لَكْ

كسر الهمزة أجود؛ لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كلِّ حال، وكذلك التلبية. انتهى
يعني أن الكسر استئنافٌ محض فهو إخبار بذلك، وهذا الذي قاله في وجه الكسر لا يتعيَّن؛ لأنَّه يجوز أن يراد التعليل مع كسرة الهمزة؛ فإنَّهم نصُّوا على أنَّ "إنَّ" المكسورة تفيد العلَّة أيضاً، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها؛ كما تقدم آنفاً، فينبغي أن يقال: قراءة الكسر أولى؛ لأنَّها محتملة للإخبار المحض بحاله، وللعلِّيَّة؛ وممَّا يدلُّ على أنَّ المكسورة تفيد العلِّيَّة قوله - عليه السلام - في الرَّوثة
"إنَّها رجسٌ" وقوله في الهرَّة:
"إنَّها لَيْسَتْ بِنَجِسٍ؛ إنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ"
وقوله: "لاَ تُنْكَحُ المَرأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا؛ إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذلك، قَطَّعْتُمْ أرْحَامَكُمْ"
وأما المفتوحة: فهي نصٌّ في العلِّيَّة، لأنَّ الكلام على تقدير لام العلَّة.
قوله: { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فهذه كالتَّفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثةٍ:
أولها: السُّوء، وهو: متناول جميع المعاصي، سواءٌ كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح، أو من أفعال القلوب.
وسُمِّي السُّوء سوءاً؛ لأنَّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه، وهو مصدر: "سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءاً ومَسَاءَةً" إذا أحزنه، و"سُؤْتُهُ، فَسِيءَ" إذا أحزنته، فحزن؛ قال تعالى:
{ سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الملك: 27]؛ قال الشَّاعر: [السريع]

889ب - وإنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي فَطَالَمَا قَدْ سَرِّنِي الدَّهْرُ
أَلأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَا صَبْرُ

وثانيها: الفحشاء: وهو مصدر من الفحش؛ كالبأساء من البأس، والفحش: قبح المنظر.
قال امْرُؤ القَيْسِ: [الطويل]

890 - وَجِيدٍ كَجِيدٍ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ

وتوسِّع فيه، حتَّى صار يعبر به عن كلِّ مستقبحٍ معنى كان أو عيناً.
والفَحْشَاءُ: نوعٌ من السُّوء، كأنَّها أقبح أنواعه، وهي: ما يستعظم، ويستفحش من المعاصي.
وثالثها:{ أَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فكأنَّه أقبح الأشياء؛ لأنَّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ }.
فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الشيطان يدعو إلى الصَّغائر والكبائر، والكفر، والجهل بالله.
وروي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: "الفَحْشَاءُ" من المعاصي: ما فيه حَدٌّ، والسُّوء من الذُّنوب ما لا حَدَّ فيه.
وقال السُّدِّيُّ: هي الزِّنا.
وقيل: هي البخل، { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من تحريم الحرث والأنعام.
وقال مُقَاتِلٌ: كلُّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء، فإنَّه الزِّنا، إلاَّ قوله:
{ ٱلشَّيْطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ } [البقرة: 268] فإنه منع الزكاة.
وقوله: "وَأَنْ تَقُولُوا" عطفٌ على قوله: "بالسُّوء"، تقديره: "وبِأَنْ تَقُولُوا" فيحتمل موضعها الجرَّ والنصب؛ بحسب قول الخليل، وسيبويه.
قال الطَّبَرِيُّ: يريد ما حرَّموا من البحيرة والسَّائبة ونحوهما، مما جعلوه شرعاً.
فصل في بيان أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح.
دلَّت الآية على أنَّ الشطان لا يأمر إلا بالقبائح؛ لأنَّ الله تعالى ذكره بكلمة "إنَّمَا" وهي للحصر.
وقد قال بعضهم: إن الشيطان قد يدعو إلى الخير؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشَّرِّ؛ وذلك على أنواع: إمَّا أن يجرَّه من الأفضل إلى الفاضل، ليتمكَّن من أن يجره من الفاضل الشَّرِّ، وإمَّا أن يجرَّه من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الأشقِّ؛ ليصير ازدياد المشقَّة سبباً لحصول النُّفرة عن الطَّاعات بالكلِّيَّة.
وتناولت الآية الكريمة جميع المذاهب الفاسدة، بل تناولت مقلِّد الحقِّ؛ لأنَّه قال مالا يعلمه؛ فصار مستحقّاً للذَّمِّ؛ لاندراجه تحت هذا الذَّمِّ.
وتمسَّك بهذه الآية نُفَاةُ القياس، [وجوابهم: أنه متى قامت الدَّلالة على أنَّ العمل بالقياس واجبٌ، كان العمل بالقياس] قولاً على الله بما يعلم لا بما لا يعلم.