خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٢٥١
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"الهَزْمُ": أصله الكسر، يقال "سِقَاءٌ مَتَهزِّم" إذا انشق و "قَصَبٌ مُتَهَزِّمٌ"، أي متكسِّر.
والهزمة: نقرة في الجبل، أو في الصَّخرة. قال سفيان بن عيينة في زمزم: وهي هزمة جبريل، يريد هزمها برجله فخرج الماء. ويقال: سمعت هزيمة الرعد كأنَّه صوت تشقُّقٍ. ويقال للسَّحاب هزيم؛ لأنَّه ينشق بالمطر.
قوله: "بِإِذْنِ ٱللهِ" فيه الوجهان المتقدِّمان أعني كونه حالاً، أو مفعولاً به.
فصل
أخبر تعالى أنَّ تلك الهزيمة كانت بإذن الله تعالى وإعانته وتيسيره، ثم قال: { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ }.
قال القرطبيُّ: وكان جالوت رأس العمالقة وملكهم، ظلُّه ميل ويقال: إنَّ البربر من نسله.
قال ابن عبَّاس: إنَّ داود - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان راعياً، له سبعة إخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم "إِيشَا"؛ أرسل إليهم داود ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجياد إلى البراز، وكان من قوم عاد، فقال داود لإخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا فذهب إلى ناحية أخرى من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت، وهو يحرض الناس.
فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟
فقال طالوت: أنكحه ابنتي، وأعطيه نصف ملكي، فقال داود: فأنا أخرج إليه؛ وكانت عادته أنه يقاتل الأسد والذِّيب بالمقلاع في المرعى، وكان طالوت عارفاً بجلادته، فلما همَّ داود بالخروج إلى جالوت، مرّ بثلاثة أحجار فقلن: يا داود، خذنا معك ففينا منيَّة جالوت، ثمَّ لما خرج إلى جالوت، رماه، فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه، وقتل بعده ناساً كثيرة، فهزم الله جنود جالوت، وقتل داود جالوت وهو داود بن إيشى بكسر الهمزة. وقيل داود بن زكريَّا بن مرشوى من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وكان من أهل بيت المقدس، فحسده طالوت، وأخرجه من مملكته، ولم يف له بوعده، ثم ندم على صنعه، فذهب يطلبه إلى أن قتل، وملك داود، وحصلت له النُّبوَّة، وهو المراد من قوله: { وَآتَاهُ ٱللهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ } هو العلم مع العمل والحكمة: هي وضع الأمور موضعها على الصَّواب، والصَّلاح.
قوله: { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ... }.
قال الكلبيُّ وغيره: "صنعة الدُّرُوعِ".
قال تعالى:
{ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ } [سبأ:10-11] وقيل: منطق الطَّير والنّمل، وقيل الزّبور، وعلم الدّين، وكيفية الحكم، والفصل.
قال تعالى:
{ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [الأنبياء:79].
وقيل: الألحان الطَّيِّبة. قيل كان إذا قرأ الزَّبور؛ تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وتظله الطّير مصغية له، ويركد الماء الجاري، وتسكن الرّيح.
وروى الضَّحَّاك عن ابن عباس: هو أنَّ الله تعالى أعطاه سلسلةً موصولة بالمجرّة، ورأسها عند صومعته، وقوّتها قوّة الحديد، ولونها لون النّار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر، مدسَّرة بقضبان اللُّؤلؤ الرطب، فلا يحدث في الهواء حدث إلاّ صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث، ولا يمسُّها ذو عاهة إلاَّ برأ، فكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدَّى على صاحبه، وأنكر حقه أتى إلى السِّلسلة، فمن كان صادقاً مدّ يده إلى السِّلسلة، فنالها، ومن كان كاذباً، لم ينلها، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة، فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلاً جوهرة ثمينة، فلما استردَّها أنكرها فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكَّازه، فنقرها وضمنها الجوهرة، واعتمد عليها حتى حضروا السلسلة، فقال صاحب الجوهرة: ردَّ عليَّ الوديعة. فقال له صاحبه: ما أعرف لك عندي من وديعة، فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة، فقام صاحب الجوهرة، فتناولها بيده. فقيل للمنكر قم أنت، فتناولها.
فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكَّازي هذا، فاحفظها حتى أتناول السِّلسلة، فأخذها فقال الرجل: "اللَّهم إِن كنت تَعْلم أنَّ هذه الوديعة التي يدّعيها، قد وصلت إليه فقرب مني السّلسلة، فمد يده فتناولها، فتعجب القوم، وشكُّوا فيها، فأصبحوا وقد رفع الله السِّلسلة.
قوله "مِمَّا يَشَآءُ": فاعلٌ، "يشاء" ضمير الله تعالى.
وقيل: ضمير داود، والأول أظهر.
قوله: "وَلَوْلاَ دَفْعُ"؛ قرأ نافعٌ هنا، وفي الحج: "دِفَاع"، والباقون: "دَفْع". فأمَّا "دَفْع"، فمصدر "دَفَعَ"يَدْفَعُ" ثلاثياً، وأمَّا "دِفَاع" فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مصدر "دَفَعَ" الثلاثيِّ أيضاً، نحو: كَتَب كتاباً، وأن يكون مصدر "دَافَعَ"؛ نحو: قاتل قتالاً؛ قال أبو ذؤيبٍ: [الكامل]

1170- وَلَقَدْ حَرِصْتُ بَأَنْ أُدَافِعُ عَنْهُمُ فَإِذَا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لاَ تُدْفَعُ

قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فَعَلَ وفَعِلَ، تقول: جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاءً، وقمت قياماً، وأن يكون مصدر لدفع تقول: دفعته، دفعاً، ودفاعاً نحو: قتل قتلاً وقتالاً.
و "فاعل" هنا بمعنى فَعَلَ المجرد، فتتَّحد القراءتان في المعنى ويحتمل أن يكون من المفاعلة، والمعنى أنه سبحانه إنَّما يكفّ الظَّلمة، والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه، ورسله، وأئمة دينه، وكان يقع بين أولئك المحقين، وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كقوله تعالى:
{ { يُحَارِبُونَ ٱللهَ } [المائدة:33] و { { شَآقُّواْ ٱللهَ } [الأنفال:13] ونظائره كثيرة.
ومن قرأ "دِفَاع"، وقرأ في الحجّ
{ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ } [الحج:38] أو قرأ "دَفْع"، وقرأ "يَدْفَع" ـ وهما أبو عمرو وابن كثير ـ فقد وافق أصله، فجاء بالمصدر على وفق الفعل، وأمَّا من قرأ هنا: "دَفْع"، وفي الحجّ "يُدافِع"، وهم الباقون، فقد جمع بين اللُّغتين، فاستعمل الفعل من الرُّباعي والمصدر من الثلاثي. والمصدر هنا مضافٌ لفاعله وهو الله تعالى، و "النَّاس" مفعول أول، و "بعضهم" بدلٌُ من "الناسِ" بدل بعضٍ من كلٍّ.
و "ببعضٍ" متعلِّقٌ بالمصدر، والباء للتعدية، فمجرورها المفعول الثاني في المعنى، والباء إنَّما تكون للتعدية في اللاَّزم، نحو: "ذَهَبَ بِهِ" فأمَّا المتعدِّي لواحدٍ فإنَّما يتعدَّى بالهمزة، تقول: "طَعِمَ زيدٌ اللَّحْمَ، وأَطْعَمْتُه اللَّحْم، ولا تقول: "طَعِمْته باللَّحْم"، فتعدِّيه إلى الثاني بالباء، إلاَّ فيما شذَّ قياساً، وهو "دَفَعَ"، و "صَكَّ"، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي: جعلت أحدهما يصكُّ الآخر، ولذلك قالوا: صككت الحجرين أحدهما بالآخر.
فصل في المدفوع والمدفوع به
اعلم أنَّه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع، والمدفوع به، وأمَّا المدفوع عنه، فغير مذكورٍ، وهو يحتمل وجوهاً:
الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأئمة الذين يمنعون النَّاس عن الكفر بسبب البعض بإظهار الدَّلائل.
قال تعالى:
{ { أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [إبراهيم:1].
الثاني: دفع بعض الناس عن المعاصي، والمنكرات بسبب البعض، فيكون الدافعون هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لقوله تعالى:
{ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [آل عمران:110].
الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج، والمرج، وإثارة الفتن في الدُّنيا بسبب البعض، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء ـ عليهم الصَّلاة والسَّلام ـ ثم الأئمة والملائكة والذّابّون عن شرائعهم، وذلك أنَّ الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، ما لم يخبز هذا لذاك، ويطحن ذاك لهذا، ويبني هذا لذاك، وينسج ذاك لهذا، ولا تتمّ مصلحة الإنسان.
فالظَّاهر أن مصلحته لا تتمُّ إلاّ باجتماع جمع في موضع واحد، ولهذا قيل إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع، ثم إنَّ الاجتماع سبب للمنازعة المفضية إلى المخاصمة، ثم إلى المقاتلة، فلا بدّ في الحكمة الإلهيَّة من وضع شريعةٍ بين الخلق ليقطع بها الخصومات، والمنازعات، فبعث الله الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بالشَّرائع؛ ليدفع بهم، وبشرائعهم الآفات، والفساد عن الخلق فإنَّ الخلق ما داموا متمسكين بالشَّرائع لا يقع بينهم خصامٌ ولا نزاعٌ، والملوك والأئمة متى كانوا متمسكين بالشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام:
"الإِسْلاَمُ والسُّلْطَانُ أَخَوَان" وقال أيضاً: "الإِسْلاَمُ أميرٌ، والسُّلْطَانُ حَارِسٌ، فمن لا أمير له فهو مُنْهَزِمٌ، ومن لا حَارِسَ له فَهُو ضَائِعٌ" .
وعلى هذا الوجه فيكون تفسير قوله: { لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ }، أي: لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي، وذلك يسمّى فساداً. قال تعالى: { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ } [البقرة:205] وقال: { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } [القصص:19].
الرابع: ولولا دفع الله بالمؤمنين، والأبرار عن الكفّار، والفجّار، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها. قال ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ:
"إِنَّ اللهَ لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِم الصَّالِح عَنْ مائَةِ أَهْلِ بَيٍْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ" . وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: "إِنَّ اللهَ يَدْفَعُ بمن يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي عمَّن لا يصلِّي، وبمن يزكّي عمن لا يُزكِّي، وبمن يصوم عمَّن لا يصوم وبمن يحجّ عمَّن لا يحجّ، وبمن يجاهد عمَّن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية" .
ويدلُّ على صحَّة هذا القول قوله تعالى: { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } [الكهف:82]. وقال تعالى: { { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح:25] وقال: { وَمَا كَانَ ٱللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الأنفال:33]. وعلى هذا التأويل يكون معنى قوله: "لَفَسَدَتِ الأَرْضُ"، أي: لأهلك الله أكثر أهلها الكفّار والعصاة.
قال القرطبيُّ: وقيل: هم الأبدال، وهم أربعون رجلاً، كلّما مات واحدٌ أبدل آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم اثنان وعشرون بالشَّام، وثمانية عشر بالعراق.
وروي عن علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إِنَّ الأَبْدَالَ يَكُونُونَ بالشَّام وَهُمْ أَرْبعُونَ رَجُلاً كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُم رَجُلٌ أبدل اللهُ مكانه رَجُلاً يُسْتَقَى بِهِمُ الغَيْث وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الأَعْدَاءِ وَيُصْرَفُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الأَرْضِ البَلاَء" .
ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، وخرج أيضاً عن أبي الدرداء قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد يقال لهم الأبدال، لم يفضلوا النَّاس بكثرة صوم، ولا صلاة، ولكن بحسن خلق، وصدق الورع، وحسن النِّية، وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنَّصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله، بصبر، وحلم، ولبٍّ، وتواضع في غير مذلَّةٍ فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله سبحانه لنفسه، واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صدِّيقاً ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن بهم يرفع الله المكاره، والبلايا عن النَّاس، وبهم يمطرون، ويرزقون، لا يموت الرَّجل منهم، حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه.
وقال سفيان الثَّوري: "هم الشُّهود الذين تستخرج بهم الحقوق".
الخامس: قال ابن عبَّاس ومجاهد: ولولا دفع الله بجنود المسلمين؛ لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين، وخربوا المساجد، والبلاد.
السادس: أن يحمل اللفظ على الكل؛ لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً، وهو دفع المفسدة، فإذا حملنا اللَّفظ عليه، دخلت الأقسام بأسرها فيه.
فصل في بطلان مذهب الجبر
قال القاضي: هذه الآية من أقوى الدَّلائل على بطلان الجبر؛ لأنه إذا كان الفساد من خلقه لم يكن لقوله: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ } تأثير في زوال الفساد؛ لأن على قولهم إنَّما لا يقع الفساد بسبب ألا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى النَّاس، والجواب: أنَّ الله تعالى لمّا كان عالماً بوقوع الفساد، فإذا صح مع ذلك العلم ألاَّ يقع الفساد كان المعنى أنه لا يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد، فيلزم أن يكون العبد قادراً على الجمع بين النَّفي والإثبات، وهو محال ويؤيد ذلك قوله تعالى مستدركاً { وَلَـٰكِنَّ ٱللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } بين أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم فلو كان دفع الفساد بهذا الطريق فعل العبد لكان الفضل للعبد؛ لأنه الدَّافع على قولهم، ولم يكن لله تعالى على العالمين فضل سبب ذلك الدَّفع. فإن قالوا: نحمل هذا على البيان، والإرشاد.
قلنا: كلُّ ذلك قائم في حقّ الكفَّار، والفجَّار، ولم يحصل منهم دفاع.
قوله: "وَلَـٰكِنَّ ٱللهَ" وجه الاستدراك أنه لمَّا قسَّم النَّاس إلى مدفوع ومدفوع به، وأنَّه بهذا الدَّفع امتنع فساد الأرض، فقد يهجس في نفس من غُلب عمّا يريد من الفساد أنَّ الله غير متفضِّلٍ عليه، حيث لم يبلغه مقاصده وطلبه، فاستدرك عليه [أنّه] وإن لم يبلغ مقاصده أنَّ الله متفضّلٌ عليه، ومحسن إليه؛ لأنه مندرجٌ تحت العالمين، وما من أحدٍ إلاّ ولله عليه فضلٌ، وله فضل الاختراع [والإيجاد].
و "عَلَى" يتعلَّق بـ "فَضْل"؛ لأنَّ فعله يتعدَّى بها، وربَّما حذفت مع تخفيف الفعل؛ وقد جمع [بين] الحذف والإثبات في قوله: [الوافر]

1171- وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقِيْماً كَفَضْل ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ

أمَّا إِذا ضُعِّف، فإنه لا تحذف "على" أصلاً كقوله: { { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [البقرة:253]، ويجوز أن تتعلَّق "عَلَى" بمحذوفٍ لوقوعها صفةً لفضل.