خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
٢٧٦
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يَمْحَقُ ٱللهُ ٱلْرِّبَٰوا وَيُرْبِي }: الجمهور على التخفيف في الفعلين من: مَحَقَ، وأربى. وقرأ ابن الزبير: ورويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يُمَحِّقُ، ويُرَبِّي" بالتشديد فيهما.
والمحق: النقص، يقال: محقته فانمحق، وامتحق؛ ومنه المحاق في القمر؛ قال: [البسيط]

1261- يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصاً ثُمَّ يَنْمَحِقُ

وأنشد ابن السِّكِّيتِ: [الطويل]

1262- وَأَمْصَلْتُ مَالِي كُلَّهُ بِحَيَاتِهِ وَمَا سُسْتَ مِنْ شَيْءٍ فَرَبُّكَ مَاحِقُهْ

ويقال: هجيرٌ ماحقٌ: إذا نقص كلُّ شيءٍ بحرِّه.
وقد اشتملت هذه الآية على نوعين من البديع:
أحدهما: الطِّباق في قوله: "يَمْحَقُ، ويُرْبِي" فإنهما ضدَّان، نحو:
{ { أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } [النجم:43].
والثاني: تجنيس التغاير في قوله: "الرِّبا، ويُرْبي" إذ أحدهما اسم والآخر فعل.
فصل في بيان وجه النَّظم
لما كان الداعي إلى فعل الرِّبا، تحصيل الزيادة، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقص الخيرات - بيَّن تعالى - هاهنا - أنَّ الربا وإن كان زيادةً، فهو نقصانٌ في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصاً في الصورة، فهي زيادةٌ في المعنى، فلا يليق بالعاقل أن يلتفت إلى ما يقضي به الطبع، والحسُّ من الدواعي والصَّوارف؛ بل يعوِّل على ما ندبه الشرع إليه؛ فهذا وجه النظم.
فصل
اعلم أن محق الربا، وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.
أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه:
أحدها: أنَّ الغالب في المربي - وإن كثر ماله - أن تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله؛ قال - صلى الله عليه وسلم -:
"الرِّبا وَإِنْ كَثُرَ فإنَّ عَاقِبتَهُ تَصِيرُ إِلى قلٍّ" .
وثانيها: أنه وإن لم ينتقص ماله، فإن عاقبته الذَّمُّ والنقص، وسقوط العدالة، وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق، والقسوة، والغلظة.
ثالثها: أنَّ الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا، يلعنونه، ويبغضونه، ويدعون عليه؛ وذلك يكون سبباً لزوال الخير، والبركة عنه في نفسه وماله.
الرابع: أنه متى اشتهر بين الناس بأنه إنما جمع ماله من الرِّبا، توجهت إليه الأطماع، وقصده كلُّ ظالمٍ، ومارقٍ وطمَّاعٍ، ويقولون: إنَّ ذلك المال ليس له في الحقيقة، فلا يترك في يده.
وأمَّا أن الربا سبب للمحق في الآخرة فمن وجوهٍ:
أحدها: قال ابن عباس: معنى هذا المحق: أن الله تعالى لا يقبل منه صدقةً، ولا جهاداً ولا حجّاً، ولا صلة رحم.
ثانيها: أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت، ويبقى عليه التبعة، والعقوبة، وذلك هو الخسار الأكبر.
وثالثها: ثبت في الحديث: أنَّ الأغنياء يدخلون الجنَّة بعد الفقراء بخمسمائة عامٍ، فإذا كان الغِنَى من الحلال كذلك، فما ظنُّك بالغنى من الحرام المقطوع به فذلك هو المحق والنقصان!
وأمَّا "إِرْبَاءُ الصدقاتِ" فيحتمل - أيضاً - أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.
أما في الدنيا: فمن وجوهٍ:
أحدها: أن من كان لله كان الله له، فإذا كان الإنسان يحسن إلى عبيد الله، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً، ولا جائعاً في الدنيا، وقد ورد في الحديث أنَّ ملكاً ينادي كلَّ يومٍ:
"اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِكُلِّ مُنْفِقٍ خَلَفاً، ولكل مُمْسِكٍ تَلَفاً" .
وثانيها: أنه يزداد كلَّ يومٍ في جاهه، وذكره الجميل، وميل القلوب إليه.
وثالثها: أن الفقراء يعينونه بالدعاء الخالص من قلوبهم.
ورابعها: أنَّ الأطماع تنقطع عنه، فإنه متى اشتهر بإصلاح مهمَّات الفقراء، والضعفاء؛ فكلُّ أحدٍ يحترز عن منازعته، وكلُّ ظالم، وطمَّاع يتخوف من التعرض إليه، اللهم إلاَّ نادراً، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا.
وأما إرباؤها في الآخرة، فروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقبلُ الصَّدَقَاتِ وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاَّ الطَّيِّبَ ويَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُربِّيها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مَهرَهُ أَوْ فَلُوَّهُ حتى إنَّ اللقمةَ تَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ" وتصديق ذلك بيِّنٌ في كتاب الله تعالى { { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ } [التوبة:104].
وقال ابن الخطيب: ونظير قوله: { يَمْحَقُ ٱللهُ ٱلْرِّبَٰوا } المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً ونظير قوله: { وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَاتِ } المثل الذي ضربه الله بحبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلةٍ مائة حبَّةٍ.
قوله: { وَٱللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } اعلم أن الكفَّار فعَّالٌ من الكفر، ومعناه: أن ذلك عادته، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول: فلان فعَّالٌ للخير أمَّارٌ به و "الأَثِيم" فعيل بمعنى فاعلٍ، وهو الآثم، وهو - أيضاً - مبالغةٌ في الاستمرار على اكتساب الإثم والتمادي فيه، وذلك لا يليق إلاَّ بمن ينكر تحريم الربا، فيكون جاحداً.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون "الكَفَّارُ" راجعاً إلى المستحلّ "والأَثيم" يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم؛ فتكون الآية الكريمة جامعةً للفريقين.