خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٤٤
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

الهمزة في "أتأمرون" للإنكار والتَّوبيخ، أو للتعجُّب من حالهم.
و "أمر" يتعدى لاثنين: أحدهما بنفسه، والآخر بحرف الجر، وقد يحذف، وقد جمع الشاعرُ بين الأمرين في قوله: [البسيط]

449ـ أَمْرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ

و "الناس" مفعول أول، و "بالبر" مفعول ثانٍ، و "البر" سَعَةُ الخير من الصّلة والطاعة، ومنه: "البرّ" و "البَرِيّة" لسعتهما، والفعل منه: "بَرَّ ـ يَبَرُّ"، على وزن "فَعِلَ ـ يَفْعَلَ" كـ "عَلِمَ ـ يَعْلَمُ"؛ قال: [الرجز]

450ـ لاهُمَّ رَبِّ إنَّ بَكْراً دُونَكَا يَبَرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا

أي: يطيعونك.
و "البِرّ" أيضاً: ولد الثَّعْلب، وسوق الغَنَم، ومنه قولهم: "لا يعرفُ الهِرَّ مِنَ البِرِّ"، أي لا يعرف دُعَاءها من سوقها.
و "البِرّ" أيضاً: الفؤادُ، قال: [الطويل]

451ـ أَكُونُ مَكَانَ البِرِّ مِنْهُ ودُونَهُ وَأَجْعَلُ مَا لِي دُونَهُ وأُوَامِرُهْ

و "البَرّ" ـ بالفتح ـ الإجْلاَل والتعظيم، ومنه: ولد بَرّ بوالديه، أي يعظمهما، والله تعالى بَرّ لِسَعَةِ خيره على خَلْقِهِ، وقد يكون بمعنى الصدقِ كما يقال: بَرّ في يمينه أي: صدق ولم يَحْنَثْ ويقال: صَدَقْتُ وَبَرَرْتُ.
قوله: { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } داخل في حَيّز الإنكار، وأصل "تنسون": تَنْسَيُون" فأُعلّ بحذف الياء بعد سكونها، وقد تقدّم في
{ ٱشْتَرُواْ } [البقرة:16] فوزنه "تَفْعُون" والنسيان: ضد الذِّكْر، وهو السَّهو الحاصل بعد حصول العلم، وقد يطلق على التَّرك، ومنه: { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة:67]، وقد يدخله التعليق حملاً على نقيضه، قال: [الطويل]

452ـ وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أنْتُمُ وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ

ويقال: رجل "نَسْيَان" ـ [بفتح النون ـ كثير النِّسْيَان ـ ونسيت الشيء نِسْيَاناً، ولا يقال: "نَسَيَاناً"] ـ بالتحريك - لأن النَّسَيَان تثنية نَسَا العِرْق.
و "الأَنْفُس": جمع نَفْس.
فإن قيل: النّسيان عبارة عن السّهو الحادث بعد حصول العلم، والنَّاسي غير مكلّف ومن لا يكون مكلفاً لا يجوز أن يذمّه الله ـ تعالى ـ على ما صدر منه، فالمراد بقوله: { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أنكم تغفلون عن حق أنفسكم، وتعدلون عما لها فيه من النَّفْعِ.
قوله: { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } مبتدأ وخبر في محلّ نصب على حال، العامل فها "تنسون".
و "التِّلاوة": التتابع، ومنه تلاوة القرآن؛ لأن القارىء يتبع كلماته بَعْضَها ببعض، ومنه:
{ وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [الشمس:2] وأصل "تتلون": " تتلوون" بواوين فاستثقلت الضمة على الواو الأولى فحذفت، فالتقى ساكنان، فحذفت الأولى فوزنه "تفعون".
ويقال: تلوته إذا تبعته تلواً، وتلوت القرآن تِلاَوَةَ. وتلوت الرجل تلواً إذا خذلته. والتَّلِيَّة والتُّلاوة: البقية، يقال: تليت لي من حقّي تلاوةً وتليةً أي بقيت.
وأتليت: أبقيت.
وتتليت حقّي إذا تتبعته حتى تستوفيه.
قال "أبو زيد": "تلي الرجل إذا كان بآخر رمق".
قوله: { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزة للإنكار أيضاً، وهي في نية التأخير عن الفاء؛ لأنها حرف عطف، وكذا تتقدّم أيضاً على "الواو" و"ثم" نحو:
{ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ } [البقرة:77] { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [يونس:51] والنِّيّة بها التأخير، ما عدا ذلك من حروف العطف فلا تتقدّم عليه، تقول: "ما قام زيد بل أقعد؟" هذا مذهب الجُمْهور.
وزعم "الزَّمخشري" أن الهمزة في موضعها غير مَنْوِيّ بها التأخير، ويقدر قبل "الفاء" و "الواو" و "ثم" فعلاً محذوفاً، فاعطف عليه ما بعده فيقدر هنا: أتغفلون فلا تعقلون، وكذا
{ أَفَلَمْ يَرَوْاْ } [سبأ:9] أي: أعموا فَلَم يروا؟
وقد خالف هذا الأصل ووافق الجمهور في مواضع يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى.
ومفعول "تعقلون" غير مراد؛ لأن المعنى: أفلا يكون منكم عَقْل، وقيل تقديره: أفلا تعقلون قُبْحَ ما ارتكبتم من ذلك.
والعَقْل: الإدراك المانع من الخطأ، وأصله المَنْع، منه العِقَال، لأنه يمنع البعير عن الحَرَكَةِ، وَعَقْل الدِّيَةِ، لأنه يمنع من قَتْلِ الجَانِي، والعَقْل ـ أيضاً ـ ثُوْب موشًّى؛ قال علقمة: [البسيط]

453ـ عَقْلاً وَرَقْماً يَظَلُّ الطَّيْرُ يَتْبَعُهُ كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الأَجْوافِ مَدْمُومُ

قال ابن فارس: "والعَقْل من شِيَاتِ الثياب ما كان نقشه طولاً، ما كان نقشه مستديراً فهو الرَّقم". ولا محلّ لهذه الجملة لاستئنافها.
فصل في المراد بالبرّ في الآية
اختلفوا في المراد بالبرّ في هذا الموضع على وجوه:
أحدها: قال "السُّدّي" إنهم كانوا يأمرون النَّاس بطاعة الله، وينهونهم عن معصية الله، وهم يتركون الطّاعة، ويقدمون على المعصية.
وثانيها: قال "ابن جُرَيْجٍ": إنهم كانوا يأمرون النَّاس بالصَّلاة والزكاة، وهم يتركونهما.
وثالثها: كان إذا جاءهم أحد في الخُفْية لاستعلام أمر محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: هو صادق فيما يقول، أمره حقّ فاتبعوه، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهَدَايا والصّلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم.
ورابعها: أن جماعة من اليهود كانو قبل مَبْعَثِ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام يخبرون مشركي العرب أن رسولاً سيظهر فيكم، ويدعو إلى الحَقّ وكانوا يرغبونهم في اتباعه، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حَسَدُوهُ وكفروا به، فبكّتهم الله ـ تعالى ـ بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره، فلما ظهر تركوه، وأعرضوا عن دينه، وهذا اختيار "أبي مُسْلِم".
وخامسها: قال "الزَّجَّاج": "إنهم كانوا يأمرون الناس ببَذْلِ الصدقة، وكانوا يشحُّون بها، لأن الله ـ تعالى ـ وصفهم بقَسَاوَةِ القلوب، وأكل الربا والسُّحت".
فصل في سبب هذا التعجب
سبب هذا التعجُّب وجوه:
الأوّل: أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغَيْر إلى تحصيل المصلحة، وتحذيره عما يوقعه في المَفْسَدَةِ، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير.
الثاني: أنّ من وعظ النَّاس، وأظهر علمه للخلق، ثم لم يَتَّعظ صار ذلك الوَعْظُ سبباً لرغبة الناس في المعصية؛ لأن الناس يقولون: إنه مع هذا العلم لولا أنه مُطّلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات، وإلاّ لما أقدم على المَعْصية، وإذا كان الوَاعِظ زاجراً عن المعصية، ويأتي بفعل يوجب الجَرَاءة على المعصية، فكأنه جمع بين المُتَناقضين، وذلك لا يليق بالعاقل.
والثالث: أنّ من وعظ، فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذاً في القلوب، والإقدام على المعصية مما يُنَفّر القلوب عن القبول.
فصل في دفع شبه المبتدعة في اشتراطهم العدالة في الأمر بالمعروف
قال: "القُرْطبي": "احتجّت المبتدعة بقوله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ }، وقوله تعالى:
{ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف:3] على أنه يشترط فيمن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر أن يكون عدلاً.
قال: وهذا استدلال سَاقِطٌ؛ لأن الذم ـ هاهنا ـ إنما وقع على ارتكاب ما نهى عنه لا عن نهيه عن المنكر، ولا شك أن النهي عن المنكر ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، وأيضاً فإن العَدَالَة محصورة في القليل من الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس.
وذكر عن "ابن عبد البر" أنه قال: أجمع المسلمون على أنه لا يَجِبُ على كلّ من قدر على إزالة المنكر أن يغيره إذا لم يحصل له بتغييره إلا اللَّوم الذي لا يصل إلى الأذى.
فصل في ماهية العقل
قال بعض الفلاسفة: العَقْلُ جَوْهَرٌ لطيف في البَدَنِ ينبثّ شعاعه منه بمنزلة السِّرَاج في البيت، يفصل بين حَقَائق المعلومات.
ومنهم من قال: إنه جَوْهَرٌ بسيط، ثم اختلفوا في محلّه.
فقالت طائفة منهم: محلّه الدِّماغ؛ لأن الدماغ محل الحسّ.
ومنهم من قال: محله القلب؛ لأن القلب معدن الحَيَاة، ومادّة الحواس.
وقالت طائفة: محله القلب وله أشعة إلى الدماغ.
وقال "أبو الحسن الأشعري وأبو إسحاق الإسفراييني" وغيرهما: العقل هو العِلْم.
وقال "القاضي أبو بكر": العَقْلُ علوم ضرورية بوجوب الواجبات، وجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات.
واختار "أبو المَعَالي" في "البُرْهان" أنه صفة يتأتى بها دَرْكُ العُلُوم.
وقال "الشافعي": العَقْلُ غريزةٌ.
وقال "أبو العَبَّاس القلانسي": العقل قوة التَّمييز.
وحكي عن "المحاسبي" أنه قال: العَقْل أنوار وبصائر.
فصل في خلق أفعال العباد
احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ فعل العبد غير مخلوق لله ـ تعالى ـ فقالوا قوله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } إنما يصحّ، ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم، فأما إذا كان مخلوقاً فيهم على سبيل الاضطرار، فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود: لم لا تبيض؟
والجواب: أنّ قدرته لما صلحت للضدين بأن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك مَحْض الاتفاق، والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه، وإن حصل المرجح فإن كان ذلك المرجح منه عاد البَحْث فيه، وإن حصل من الله ـ تعالى ـ فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحاً، والآخر مرجوحاً، والمرجوح ممتنع الوقوع؛ لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع، فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع، وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر، فيعود عليهم ما أوردوه، ثم الجواب الحَقِيقي عن الكل:
{ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [الأنبياء:23].