خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٧٥
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

قال القرطبي: هذا استفهام فيه معنى الإنكار، كأنه أَيْأَسَهُمْ من إيمان هذه الفرقة من اليهود.
ويقال: طَمِع فيه طَمَعاً وطَماعيةً ـ مخفف ـ فهو طَمِعٌ على وزن "فَعِل" وأطمعه فيه غيره.
ويقال في التعجب: طَمُعَ الرُّجل ـ بضم الميم ـ أي: صار كثير الطّمع.
والطمع: رزق الجُنْد، يقال: أمر لهم الأمير بأَطْمَاعهم، أي: بأرزاقهم.
وامرأة مِطْمَاع: تُطْمِعُ وَلاَ تُمَكِّن.
فصل في قبائح اليهود
لما ذكر قَبَائح أفعال أَسْلاف اليهود شرع في قَبَائح أفعال اليَهُود الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.
قال القَفّالرحمه الله : إن فيما ذكره الله ـ تعالى ـ في [سورة البقرة] من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقاصد.
أحدها: الدلالة بها على صحّة نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه أخبر عنها من غير تعلّم، وذلك لا يكون إلا بالوَحْي، ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب.
أما أهل الكتاب فكانوا يعلمونها، فلما سمعوها من محمد ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ من غير تفاوت، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوَحْي.
وأما العرب فلما [شاهدوا] من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار، فلم يكونوا يسمعون هذه الأخبار إلاّ من علماء أهل الكتاب، فيكون ميلهم إلى الطّاعة أقرب.
وثانيها: تعديد النِّعَم على بني إسرائيل، وما مَنَّ الله به على أَسْلاَفهم من أنواع النعم، كالإنْجَاءِ من آل فرعون بعد اسْتِبْعَادهم، وتَصْيِيْرِ أبنائهم أنبياء وملوكاً، وتمكينهم في الأرض، وفَرْق البحر لهم، وإهلاك عَدُوّهم، وإنزال التوراة والصَّفْح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العَجْل، ونَقْض المَوَاثيق، ومسألة النَّظَر إلى الله جَهَرةً، ثم ما أخرجه لهم في التِّيْهِ من الماء من الحَجَر، وإنزال المَنّ والسَّلْوَى وتَظْلِيل الغَمَام من حَرّ الشمس، فذكّرهم بهذه النعم كلها.
وثالثها: إخبار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقديم كُفْرهم وخلافهم، وتعنّتهم على الأنبياء، وعِنَادهم، وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم، وذلك لأنهم بعد مُشَاهدتهم الآيات الباهرة عَبَدوا العِجْل بعد مفارقة موسى بمدّة يسيرة، ولما أمروا بدخول الباب سُجّداً وأن يقولوا حطّة، ووعدهم أن يغفر لهم خَطَاياهم، ويزيد في ثواب محسنهم، فبدلوا القول وفَسَقوا، وسألوا الفُومَ البَصَلَ بَدَلَ المَنّ والسَّلوى، وامتنعوا من قَبُول التوراة بعد إيمانهم بموسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ وأخذ منهم المَوَاثيق أن يؤمنوا به حين رفع فوقهم الجَبَل، ثم استحلّوا الصيد في السّبت واعتدوا، ثم أمروا بذبح البقرة، فشافهوا موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقولهم: "أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً".
ثم لما شاهدوا إحْيَاء الموتى ازدادوا قَسْوى، فكأن الله ـ تعالى ـ يقول: إذا كانت هذه أفعالهم مع نبيهم الذي أعزّهم الله به، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عليه الصلاة والسلام، فَلْيَهُنْ عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم، وإعراضهم عن الحق.
ورابعها: تحذير أَهْل الكِتَاب الموجودين في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة.
وخامسها: الاحتجاج على من أنكر الإعادة من مشركي العرب مع إقراره بالابتداء كما في قوله:
{ كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة:73].
فصل في تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم
اعلم أن المراد تسلية رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما يظهر من أَهْل الكتاب في زمانه من قلّة القبول فقال: { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ }.
قال الحسن: هو خطاب مع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمؤمنين.
قال القاضي: وهذا الأليق بالظاهر، وإن كان الأصل في الدّعاء، فقد كان من الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان، ويظهر لهم الدلائل. قال ابن عَبَّاس: إنه خطاب مع النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاصّة؛ لأنه هو الدّاعي، وهو المقصود بالاستجابة. واللفظة وإن كانت للعموم لكن حملناها على هذا الخصوص لهذه [القرينة].
روي أنه حين دخل "المدينة"، ودعا اليهود إلى كتاب الله، وكذبوه، فأنزل الله ـ تعالى ـ وسبب هذه الاستعباد ما ذكرناه أي: أتطمعون أن يؤمنوا مع أنهم ما آمنوا بموسى ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ الذي كان هو السبب في خَلاَصهم من الذّل، وفضلهم على الكل بظهور المُعْجزات المتوالية على يَدِهِ، مع ظهور أنواع العذاب على المتمردين، فأي استبعاد في عدم إيمان هؤلاء.
فصل في إعراب الآية
قوله: { أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } ناصب ومنصوب، وعلامة النصب حذف النون والأصل في "أن" وموضعها نصب أو جر على ما عرف، وعدي "يؤمنوا" باللاّم لتضمّنه معنى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم قاله الزمخشري.
فإن قيل: ما معنى الإضافة في قوله: "يُؤْمنُوا لَكُمْ" والإيمان إنما هو لله؟
فالجواب: أن الإيمان ـ وإن كان الله ـ فهم الدّاعون إليه كما قال تعالى:
{ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [العنكبوت:26] لما آمن بنبوّته وتصديقه، ويجوز أن يراد أن يؤمنوا لأجلكم، ولأجل تشدّدكم في دعائهم. قوله: { وَقَدْ كَانَ فِرِيقٌ منْهُمْ } "الواو": للحال.
قال بعضهم: وعلامتها أن يصلح موضها "إذ"، والتقدير: أفتطمعون في إيمانهم، والحال أنهم كاذبون محرفون لكلام الله تعالى.
و "قد" مقربة للماضي من الحال سوّغت وقوعه حالاً.
و "يَسْمَعُون" خبر "كان".
و "منهم" في محلّ رفع صفة لـ "فريق"، أي: فريق كائن منهم.
قال سيبويه: واعلم أن ناساً من ربيعة يقولون: "مِنْهِم" بكسر الهاء إتباعاً لكسرة الميم. لم يكن المسكن حاجزاً حصيناً عندهم.
و "الفريق" اسم جمع لا واحد له من لفظه كـ "رَهْط وَقَوْم"، وجمعه في أدنى العدد "أَفْرقة"، وفي الكثير "أَفْرِقَاء".
و "يَسْمَعُون" نعت لـ "فريق"، وفيه بعد، و "كان" وما في حَيّزها في محلّ نصب على ما تقدم.
وقرىء: "كَلِمَ اللَّهِ" وهو اسم جنس واحدة كلمة، وفرّق النحاة بين الكلام والكلم، بأن الكلام شرطه الإفادة، والكلم شرطه التركيب من ثلاث فصاعداً؛ لأنه جمع في المعنى، وأقلّ الجمع ثلاثة، فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه، وهل "الكلام" مصدر أو اسم مصدر؟ خلاف.
والمادة تدل على التأثير، ومنه الكَلْم وهو الجُرْح، والكَلاَم يؤثر في المخاطب.
قال الشاعر: [المتقارب]

598ـ................ وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ

ويطلق الكلام لغة على الخَطِّ والإشارةِ؛ كقوله: [الطويل]

599ـ إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالعُيُونِ الفَوَاتِرِ رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوادِرِ

وعلى النفساني؛ قال الأخطل: [الكامل]

600ـ إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنِّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاً

وقيل: لم يوجد هذا البيت في ديون الأخطل.
وأما عند النحويين [فيطلق] على اللّفظ المركب المفيد بالوضع.
و "ثم" للتراخي إما في الزمان أو الرتبة.
و "التحريف": الإمالة والتحويل، وأصله من الانحراف عن الشيء، ويقال: قلم محرّف إذا كان مائلاً.
قوله: { مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } متعلق بـ "يحرفونه"، و "ما" يجوز أن تكون موصولة اسمية، أي: ثم يحرفون الكلام من بعد المعنى الذي فهموه وعرفوه، ويجوز أن تكون مصدرية.
والضمير في "عقلوه" يعود حينئذ على الكلام أي: من بعد تعقلهم إياه.
قوله: "وَهُمْ يَعْلَمُونَ" جملة حالية، وفي العامل قولان:
أحدهما: "عقلوه"، ولكن يلزم منه أن تكون حالاً مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من قوله: "عقلوه".
والثاني وهو الظاهر: أنه "يحرفونه"، أي: يحرفونه حال علمهم بذلك.
فصل في تعيين الفريق
قال بعضهم: الفريق مَنْ كان في زمن موسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنه وصفهم بأنهم سمعوا كلام الله، والذين سمعوا كلام الله هم أهل المِيْقَاتِ.
قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السَبعين المختارين الذين ذهبوا مع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى المِيْقَات، سمعوا كلام الله، وأمره ونهيه، فلما رجعوا إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم، وأما الصادقون منهم فأدّوا كما سمعوا.
قالت طائفة منهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم ألاَّ تفعلوا فلا بأس.
قال القرطبي: ومن قال: إنّ السبعين سمعوا كما سمع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى، واختصاصه بالتكليم.
وقال السُّدِّي وغيره: لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلمَّا فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان موسى عليه الصلاة والسَّلام، كما قال تعالى:
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [التوبة:6].
ومنهم من قال: المراد بالفريق مَنْ كان في زمن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما غيّروا آية الرجم، وصفة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم يعلمون أنهم كاذبون، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسدي وهذا أقرب؛ لأن الضمير في قوله: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } راجع إلى ما تقدم من قوله: { أَفتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ } والذي تعلّق الطبع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.
وقولهم: الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا المِيْقَات ممنوع؛ لأن من سمع التوراة والقرآن يجوز أن يقال: إنه سمع كلام الله.
فإن قيل: كيف يلزم من إقدام البعض على التَّحْريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟
أجاب القَفَّال فقال: يحتمل أن يكون المعنى يؤمن هؤلاء، وهم إنما يأخذون دينهم، ويتعلمونه من علمائهم وهم قوم يتعمدون التحريف عناداً، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وعرفوه.
فصل في كلام القدرية والجبرية
قوله:{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } استفهام على سبيل الإنكار، فكان ذلك جَزْماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة، وإيمانُ من أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم بأنه لا يؤمن ممتنع، فحينئذ تعود الوجوه المذكورة للقدرية والجبرية.
قال القاضي: قوله: { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } يدل على أن إيمانهم من قلبهم؛ لأنه لو كان بخلق الله ـ تعالى ـ فيهم لكان لا يتغيّر حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدّم ذكرهم، ولما صحّ كون ذلك تسليةً للرسول وللمؤمنين؛ لأن الإيمان موقوف على خلقه ـ تعالى ـ ذلك، وزواله موقف على ألا يخلقه فيهم.
وأيضاً إعظامه ـ تعالى ـ لكذبهم في التحريف من حيث فعلوه، وهم يعلمون صحته.
وإضافته ـ تعالى ـ التحريف إليهم على وجه الذم يدلّ على ذلك، واعلم أن الكلام عليه قد تقدم جوابه مراراً.
فصل في ذم العالم المعاند
قال أبو بكر الرازي: الآية تدلّ على أن العالم المعاند أبعد من الرّشد، وأقرب إلى اليأس من الجاهل؛ لأن تعمّده التحريف مع العلم بما فيه من العذاب يكون أشد قسوة، وأعظم جناية.
فصل في بيان أنهم إنما فعلوا ذلك لأغراض
فإن قيل: إنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض كما قال تعالى:
{ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [آل عمران:187] وقال: { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ } [البقرة:146].
قال ابن الخطيب: ويجب أن يكونوا قليلين؛ لأن الجَمْع العظيم لا يجوز عليهم كِتْمَان ما يعتقدون؛ لأنا إنْ جوزنا ذلك لم نعلم المحق من المبطل، إن كثر العدد.
فإن قيل: قوله: { عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } تكْرار.
أجاب القَفّال ـ رضي الله عنه ـ بوجهين:
أحدهما: "مَنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوا مراد الله ـ تعالى ـ منه"، فأوّلوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى.
والثاني: أنهم عقلوا مراد الله تَعَالى، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم العذاب والعقوبة من الله تعالى.
واعلم أن المقصود من ذلك تسلية الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى.