خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
٨٣
-البقرة

اللباب في علوم الكتاب

"إِذْ" معطوف على الظرف قبله، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفاً أو لا.
و "أَخَذْنَا" في محلّ خفض، أي: واذكر وَقْت أَخْذنا ميثاقهم، أو نحو ذلك.
"لا تَعْبُدُونَ" قرأ ابن كثير وغيره والكِسائي بالياء، والباقون بالتاء.
فمن قرأ بالغيبة فلأن الأسماء الظَّاهرة حكمها الغيبة، ومن قرأ بالخطاب هو الْتِفَات، وحكمته أنه أدعى لِقَبُول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه.
وجعل أبو البقاء قراءة الخِطَاب على إضمار القول.
قال: يقرأ بالتاء على تقدير: قلنا لهم: لا تعبدون إلا الله وكونه التفاتاً أحسن.
وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه:
أظهرها: أنها مفسرة لأخذ الميثاق، وذلك لأنه ـ تعالى ـ لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان في ذلك إبْهَام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجُمْلة مفسرة له، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.
الثاني: أنها في محلّ نصب على الحال من "بَنِي إِسْرَائِيْلَ" وفيها حينئذ وجهان:
أحدهما: أنها حال مقدّرة بمعنى: أخذنا ميثاقهم مقدّرين التوحيد أبداً ما عاشوا.
والثَّاني: أنَّها حال مقارنة بمعنى: أخذنا مِيْثَاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد، قاله أبو البقاء [وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرد].
وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح، خلافاً لمن أجاز مجيئها من المُضَاف إليه مطلقاً، لا يقال: المضاف إليه معمول له في المعنى لـ "ميثاق"؛ لأن ميثاقاً إما مصدر أو في حكمه، فيكون ما بعده إما فاعلاً أو مفعولاً، وهو غير جائز؛ لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل إلى حرف مصدري، وفعل هذا لا ينحل لهما، لو قدرت: وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد لم يتقدر بقول: أخذت أن يعلم زيد، ولذلك منع ابن الطَّراوة في ترجمة سيبويه: "هذا باب علم ما الكلم من العربية" أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ورده وأنكر على من أجازه.
الثالث: أن يكون جواباً لقسم محذوف دلّ عليه لفظ المِيْثَاق، أي: استحلفناهم، أو قلنا لهم: بالله لا تعبدون، ونسب هذا الوجه لسيبويه، ووافقه الكسائي والفَرّاء والمبرد.
الرابع: أن يكون على تقدير حذف حرف الجر، وحذف "أن"، والتقدير: أخذنا ميثاقهم على ألاَّ تعبدوا، فَحُذِف حرف الجر؛ لأن حذفه مطرد مع "أنَّ وأنْ" كما تقدم، ثم حذفت "أن" الناصبة، فارتفع الفعل بعدها؛ كقول طرفة: [الطويل]

613ـ أَلاَ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ، هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

وحكي عن العرب: "مُرْهُ يَحْفِرَهَا" أي: بأن يحفرها، والتقدير: عن أن يحضر، أو بأن يحفرها، وفيه نظر، فإن [إضمار] "أن" لا ينقاس، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون، وجعلوا ما سواها شاذّاً قليلاً، وهو الصحيح خلافاً للكوفيين، وإذا حذفت "أن"، فالصحيح جواز [النصب والرفع]، وروي "مُرْهُ يَحْفِرهَا" و"أحضر الوَغَى" بالوجهين، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن، حيث التزم رفعه.
وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله: "لاَ تَعْبُدُوا" على النهي، قال: إلاَّ أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى:
{ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } [البقرة:233]، قال: والذي يؤكد كونه نهياً [قوله: "وأقيموا الصلاة"] فإنه تنصره قراءة عبد الله وأُبي: "لا تعبدوا".
الخامس: أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف، وذلك القول حال تقديره: قائلين لهم: لا تعبدون إلا الله، ويكون خبراً في معنى النهي، ويؤيده قراءة أُبَي المتقدمة، ولهذا يصح عطف "قُولُوا" عليه، وبه قال الفَرّاء.
السادس: أَنَّ "أنْ" الناصبة مضمرة كما تقدم، ولكنها هي وما في حَيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من "مِيْثَاق"، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة.
السابع: أن يكون منصوباً بقول محذوف، وذلك القول ليس حالاً، بل مجرد إخبار، والتقدير: وقلنا لهم ذلك، ويكون خبراً في معنى النهي.
قال الزمخشري: كما تقول: تذهب إلى فلان تقول له: كذا تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأنه كأنه سُورعَ إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه، وتَنْصره قراءة عبد الله وأُبَيّ: "لاَ تَعْبُدُوا" ولا بد من إرادة القول بهذا.
الثامن: أن يكون التقدير: "لاَّ تَعْبُدُونَ" وهي "أن" المفسرة؛ لأن في قوله: { أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ } إيهاماً كما تقدم، وفيه معنى القول، ثم حذف "أن" المفسرة، ذكره الزَّمخشري.
وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى.
قوله: "إِلاَّ اللهَ" استثناء مفرغ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولاً.
وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، إذ لو جرى الكَلاَم على نسقه لقيل: لا تعبدون إلاَّ إيانا، لقوله: "أَخّذْنَا".
وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر، وأيضاً الأسماء الواقعة ظاهرة، فناسب أن يجاوز الظاهرُ الظاهرَ.
فصل في مدلول "الميثاق"
هذا الميثاق يدلّ على تمام ما لا بد منه في الدين، لأنه ـ تعالى ـ لما أمر بعبادته، ونهى عن عبادة غيره، وذلك مسبوق بالعِلْمِ بذاته سبحانه، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه، وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة الَّتِي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوَحْي والرسالة، فقوله: { لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللهَ } يتضمّن كلّ ما اشتمل عليه علم الكلام والفقه والأحكام.
وقال مكّي: "هذا الميثاق هو الذي أخذه عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذَّر" و "بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً" فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن تتعلق الباء بـ "إحساناً" على أنه مصدر واقع [موقع] فعل الأمر، والتقدير وأحسنوا وبالوالدين، والباء ترادف "إلى" في هذا المعنى، تقول: أحسنت به وإليه، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثَمَّ مضافٌ محذوف، وأحسنوا بر الوالدين بمعنى: أحسنوا إليهما برّهما.
قال ابن عطية: يعترض على هذا القول، أن يتقدّم على المصدر معمولُهُ، وهذا الاعتراض لا يتم على مَذْهَب الجمهور، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المَصْدر النَّائب عن فعل الأمر عليه، تقول: "ضرباً زيداً" وإن شئت: "زيداً ضرباً" وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر، أم للمصدر النائب عن فعله، فإن التقديم عندهم جائز، وإنما يمتنع تقدم معمول المَصْدر المنحل لحرف مصدري والفعل كما تقدم وإنما يتم على مذهب أبي الحسن، فإنه منع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل، ويخالف الجمهور في ذلك.
الثاني: أنها متعلّقة بمحذوف وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مُرَاعاة لقوله: "لاَ تَعْبُدُونَ" فإنه في معنى النهي كما تقدم، كأنه قال: لا تبعدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين، ويجوز أن يقدر خبراً مراعاة لِلَفْظِ "لاَ تَعْبُدُونَ" والتقدير: وتحسنون [وإن كان معناه الأمر، وبهذين] الاحتمالين قدره الزمخشري، وينتصب "إحساناً" حينئذ على المصدر المؤكّد لذلك الفعل المحذوف.
وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكّد منصوصٌ على عدم جوازه، وفيه بحث ليس هذا موضعه.
الثالث: أن يكون التقدير: واستوصوا بالوالدين، فـ "البَاء" متعلّقة [بهذا الفعل المقدر] أيضاً، وينتصب "إحساناً" حينئذ على أنه مفعول به.
الرابع: تقديره: وَوَصَّيْنَاهُمْ بالوالدين، فالباء متعلّقة بالمحذوف أيضاً، وينتصب "إحساناً" [حينئذ] على أنه مفعول لأجله، أي: لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إنّ الإحسان متسبّب عن وصيتنا بهم، أو الموصى لما يترتب الثواب منّا لهم إذا أحسنوا إليهم.
الخامس: أن تكون الباء وما عملت فيه عطفاً على قوله: "لاَ تَعْبُدُونَ" إذا قيل بأن "أن" المصدرية مقدرة فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور، والتقدير: أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي: وببرّ الوالدين، أو: بإحسان إلى الوالدين، فتتعلّق "الباء" حينئذ بـ "الميثاق" لما فيه من مَعْنَى الفعل، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه رَوَائح الأفعال، وينتصب "إحساناً" حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف، وهو "البر" لأنه بمعناه، أو الإحسان الذي قدرناه.
والظّاهر من هذه الأوجه هو الثَّاني، لعدم الإضمار اللازم في غيره، أو لأن ورود المصدر نائباً عن فعل الأمر مطّرد شائع.
وإنما تقدّم المعمول اهتماماً به وتنبيهاً على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذُكِرَ معه.
و"الَوالِدَان" الأب والأم، يقال لكل واحدٍ منهما: والد؛ قال: [الطويل]

614ـ عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أِبَوَانِ

وقيل: لا يقال في الأم: والدة بالتاء، وإنما قيل فيها وفي الأب: والدان تغليباً للذكر.
و"الإحسان": الإنعام على الغير.
وقيل: بل هو أعم من الإنعام.
وقيل: هو النَّافع لكل شيء.
فصل في وجوه ذكر البر بالوالدين مع عبادة الله
قال ابن الخَطِيْبِ: إنما أراد عبادة الله بالإحْسَان إلى الوالدين لوجوه:
أحدها: أن نعمة الله على العَبْدِ أعظم النعم، فلا بد من تقديم شكره على شُكْرِ غيره، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعظم النّعم؛ لأن الوالدين هما الأصل في وجود الولد، ومنعمان عليه بالتربية، فإنعامهما أعظم الإنْعَام بعد إنعام الله تعالى.
وثانيها: أن الله سبحانه وتعالى المؤثر في وجود الإنْسَان في الحقيقة، والوالدان مؤثران في وجوده بحسب العُرْفِ الظاهر، فلأنه المؤثر الحقيقي أردفه بذكر المؤثر بحسب العرف الظَّاهر.
وثالثها: أن الله سبحانه وتعالى لا يطلب على إنعامه على العبد عوضاً ألبتَّة، وإنعام الوالدين كذلك، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً.
ورابعها: أن الله لا يملّ من الإنعام على العبد، ولو أتى العبد بأعظم الجرائم، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه، وكذلك الوالدان لا يملاَّن الولد ولا يقطعان عنه موادتهما وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين.
وخامسها: كما أن الوالد المشفق يتصرّف في مال ولده بالاسْتِرْبَاحِ، وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان، فكذلك الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ يتصرف في طاعة العبد، فيصونها عن الضياع ويضاعفها كما قال:
{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } [البقرة:261].
فلما تشابها من هذه الحيثيات كانت نعم الوالدين قليلة بالنسبة إلى نِعَمِ الله تعالى، [بل النعم كلها من الله ـ تعالى ـ فلا] جَرَمَ ذكر الإحسان إلى الوالدين عقب ذكر عبادة الله تعالى.
فصل في وجوب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين
اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين لقوله في هذه الآية: "وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً" بغير تقييد بكونهما مؤمنين أم لا، وقد ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بغلبة الوصف فالأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما وَالدَيْن، وذلك يقتضي العموم، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى:
{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [الإسراء:23] وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما إلى أن قال: { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [الإسراء:24] فصرّح ببيان السّبب في وجوب هذا التعظيم، وكذلك قوله: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء:23] وقوله تعالى: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [لقمان:15] صريح في الدّلالة.
و "ذِي الْقُرْبى" وما بعده عطف على المجرور بالباء، وعلامة الجر فيها الياء؛ لأنها من الأسماء الستة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجر بالياء بشروط مذكورة، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها؟ عشرة مذاهب للنَّحويين فيها.
وهي من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى إلى أسماء الأجناس الظاهرة؛ ليتوصّل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس؛ نحو: "مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذِي مَالٍ" وإضافته إلى المضمر ممنوعةٌ إلا في ضرورة أو نادر كلام؛ كقوله: [الوافر]

615ـ صَبَحْنَا الْخزرَجِيَّةَ مُرْهَفَاتٍ أَبَانَ ذَوِي أَرُومَتِهَا ذَوُوهَا

وأنشد الكسائِيُّ: [الرمل]

616ـ إِنَّمَا يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ في النَّاسِ ذَوُوهُ

وعلى هذا قولهم: "اللهم صَلِّ على محمد وذويه".
وإضافته إلى العلم قليلة جدًّا، وهي على ضربين:
واجبة: وذلك إذا اقترنا وضعاً، نحو: "ذي يزن" و "ذي رعين".
وجائزة وذلك إذا لم يقترنا وضعاً، نحو: "ذي قطري" و "ذي عمرو" أي: صاحب هذا الاسم.
وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب؛ كقوله: [الطويل]

617ـ وَإِنَّا لَنَرْجُو عَاجِلاً مِنْكَ مِثْلَ مَا رَجَوْنَاهُ قِدْماً مِنْ ذَوِيكَ الأَفَاضِلِ

وتجيء "ذو" موصولة بمعنى "الَّذِي" وفروعه، والمشهورُ حينئذ بِنَاؤها وتذكيرها، ولها أحكام كثيرة.
و "القربى" مضاف إليه، وألفه للتَّأنيث، وهو مصدر كـ "الرُّجْعَى والعُقْبَى"، ويطلق على قرابة الصُّلْب والرَّحِم؛ قال طَرَفَةُ: [الطويل]

618ـ وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً عَلَى الْحُرِّ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ

وقال أيضاً: [الطويل]

619ـ وَقَرَّبْتُ بالْقُرْبَى وَجَدِّكَ إِنَّهُ مَتَى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ

والمادة تدلّ على الدّنو عند البعد.
فصل
اعلم أن حقّ ذوي القُرْبى كالتَّابع لحق الوالدين؛ لأن اتصال الأقارب بواسطة اتِّصَال الوالدين، فلذلك أَخَّر الله ـ تَعَالى ـ ذكرهم بعد ذكر الوالدين، والسبب في تأكيد رعاية هذا الحق إلى القرابة؛ لأن القرابة مظنّة الاتِّحَاد والأُلْفَة والرعاية والنصرة، فلهذا وجبت رعاية حُقُوق الأَقَارب.
فصل في أحكام تؤخذ من الآية
قال الشَّافعي رضي الله عنه: لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المَحرم، وغير المَحرَم، ولا يدخل الأب والابن؛ لأنهما لا يعرفان بالقَرابَة، ويدخل الأحفاد والأجداد.
وقيل:لا يدخل الأصول والفروع.
وقيل: يدخل الكلّ.
قال الشافعي: يرتقي إلى أقرب جدّ ينسب هو إليه ويعرف به، وإن كان كافراً.
وذكر أصحابه في مثاله: لو أنه أوصى لأقارب الشافعي، فإنا نصرفه إلى بني شَافعٍ دون بني المطّلب، وبني عبد مناف، وإن كانوا أقارب؛ لأنّ الشّافعي ينتسب في المشهور إلى بني شافع دون عبد مَنَاف.
قال الغَزَالي: وهذا في زمان الشَّافعي، أما في زماننا فلا ينصرف إلاَّ إلى أولاد الشافعي ولا يرتقي إلى بني شافع؛ لأنّه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا، أما قرابة الأم، فإنها تدخل في وصيّة العجم، ولا تدخل في وصيّة العرب الأَظْهر؛ لأنهم لا يعدون ذلك قَرَابةً أما لو قال: لأرحام فلان دخل فيه قَرَابَة الأب والأم.
قوله: "وَاليَتَامَى" وزنه "فَعَالى"، وألفه للتأنيث، وهو جمع "يتيم" كـ "نديم ونَدَامى" ولا ينقاس هذا الجمع.
وقال ابن الخطيب: جمعه "أَيْتَام ويتامى" واليُتْم: الانفراد، ومنه اليتيم؛ لانفراده عن أبويه أو أحدهما، ودرة يتيمة: إذا لم يكن لها نظير.
وقيل: اليَتَيم: الإبطاء، ومنه: صبي يتيم؛ لأنه يبطىء عنه البرّ وقيل: هو التغافل، لأن الصبيّ يتغافل عما يصلحه.
قال الأَصْمَعيّ: "اليتيم في الآدميين من فَقَدَ الآباء، وفي غيرهم من فقد الأمّهات".
وقال المَاوَرْدِي: إن اليتم أيضاً في الناس من قبل فقد الأمهات.
والأول هو المعروف عند أهل اللغة، ويسمى يتيماً إلى أن يبلغ، يقال: يَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثل: سَمِعَ يَسْمعُ سَمْعاً ويَتُمَ يَيْتُم يُتْماً مثل: عَظُمَ يَعْظُم عُظْماً، فهاتان لُغَتان مشهورتان حكاهما الفرَّاء، ويقال: أيتمه الله إيتاماً، أي: فعل به ذلك.
وعلامة الجَرّ في "القربى" و "اليَتَامى" كسرة مقدرة على الألف، وإن كانت للتأنيث؛ لأنَّ ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته "أل" انجزّ بالكسرة، وهل يسمّى حينئذ منجرّاً أو منصرفاً.
ثلاثة أقوال، يفصل في الثالث بين أن يكون أحدَ سببيه العلمية، فيسمى منصرفاً نحو: "يَعْمُرُكُمْ" أو لا يسمى منجراً نحو: "بالأحمر"، و "القربى واليتامى" من هذا الأخير.
فصل في رعاية اليتيم
[اليتيم كالتالي] لرعاية حقوق الأقارب؛ لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه، والإنسان قلّما يرغب في صُحبة مثل هذا، وإن كان هذا التكليف شاقّاً على الأنفس لا جَرَمَ كانت درجته عظيمةً في الدين.
قال عليه الصلاة والسلام:
"أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ" وأشار بالسَّبَّابة والوسطى. وقال عليه الصلاة والسلام: [ "مَا قَعَدَ يَتِيْم مع قَوْم عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيقرب قَصْعَتَهُمُ الشَّيْطَانُ" وقال عليه السلام]: "مَنْ ضَمَّ يَتِيْماً مِنْ بَيْنِ المُسْلِميْنَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يُغْنِيَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلاً لاَ يُغْفَرُ" .
قوله: "والمساكين" جمع "مسكين"، ويسمونه جمعاً لا نظير له من الآحاد، وجمعاً على صيغة منتهى الجُمُوع، وهو من العِلَلِ القائمة مقام علّتين، وسيأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى.
وتقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة.
واختلف فيه: هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالاً منه كقوله:
{ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [البلد:16] أي: لصق جلده بالتراب، وهو قول أبي حنيفة وغيره بخلاف الفقير؛ فإن له شيئاً ما.
قال: [البسيط]

620ـ أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَم يُتْرَكْ لَهُ سَبدُ

أو أكمل حالاً؛ لأن الله جعل لهم ملكاً ما، قال: { أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [الكهف:79] وهو قول الشافعي وغيره.
فصل
إنما تأخّرت درجتهم عن اليتامى؛ لأن المِسْكين قد ينتفع به في الاستخدام، فكان الميل إلى مُخَالطته أكثر من المَيْل إلى مُخَالطة اليتامى، وأيضاً المسكين يمكنه الاشتغال بتعهّد نفسه، ومصالح معيشته، واليتيم ليس كذلك، فلا جَرَمَ قدم الله ذكر اليتيم على المسكين.
قال: عليه الصَّلاة والسلام:
"السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ والمِسْكِين كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيْلِ اللهِ ـ وأحسبه قال ـ وَكَالقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صَلاَةٍ وَكَالصَّائم لاَ يُفْطِرُ" .
قال ابن المنذر: كان طاوس يرى السَّعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.
قوله: { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } هذه الجملة عَطْفٌ على قوله: "لاَ تْعُبُدُونَ" في المعنى، كأنه قال: لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بالوالدين وقولوا، أو على "أحسنوا" المقدر، كما تقدم تقريره في قوله تعالى: "وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً".
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم: قولُوا.
وقرأ حمزة والكسائي: "حَسَناً" بفتحتين، و"حُسُناً" بضمتين، و "حُسْنَى" من غير تنوين كـ "حُبْلى" و"إِحْسَاناً" من الرباعي.
فأما من قرأ: "حُسْناً" بالضم والإسكان، فيحتمل أوجهاً:
أحدها ـ وهو الظَّاهر ـ أنه مصدر وقع صفةً لمحذوف تقديره: وقولوا للناس حُسناً أي: ذا حسن.
الثاني: أن يكون وصف به مُبَالغة كأنه جعل القول نفسه حسناً.
الثالث: أنه صفة على وزن "فُعْل"، وليس أصله المصدر، بل هو كالحلو والمر، فيكون بمعنى "حَسَنٍ" بفتحتين، فيكون فيه لغتان: حُسْن وحَسَن كـ "البُخْل والبَخَل، والحُزْن والحَزَن، والعُرْب والْعَرب".
الرابع: أنه منصوب على المَصْدر من المعنى، فإن المعنى: وَلْيَحْسُنْ قَوْلُكم حُسْناً.
وأما قراءة: "حَسَناً" بفتحتين فصفة لمصدر محذوف تقديره: قولاً حسناً، كما تقدم في أحد أوجه "حُسْناً".
وأما "حُسْناً" بضمتين، فضمة السين لإتباع الحاء، فهو بمعنى "حُسْناً" بالسكون، وفيه الأوجه المتقدمة.
وأما "حُسْنَى" بغير تنوين فمصدر كـ "البُشْرَى والرُّجْعَى".
وقال النحاس في هذه القراءة: ولا يجوز هذا في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام، نحو: الكُبْرَى والفُضْلى. هذا قول سيبويه، وتابعه ابن عطية على هذا، فإنه قال: ورده سيبويه؛ لأن "أفعل" و"فعلى" لا يجيء إلا معرفة إلاَّ أن يزال عنها معنى التَّفضيل، ويبقى مصدراً كـ "العُقْبى"، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها. انتهى وناقشه أبو حيان وقال: في كلامه ارْتباك؛ لأنه قال: لأن "أفعل" و"فعلى" لا يجيء إلا معرفة، وهذا ليس بصحيح.
أما "أَفْعل" فله ثلاثة استعمالات.
أحدها: أن يكون معها "مِنْ" ظاهرة أو مقدرة، أو مضافاً إلى نكرة، ولا يتعرف في هذين بحال.
الثاني: أن تدخل عليه "أل" فيتعرف بها.
الثالث: أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح.
وأما "فُعْلى" فلها استعمالان:
أحدهما: بالألف واللام.
والثاني: الإضافة لمعرفة، وفيها الخلاف السابق.
وقوله: "إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، وتبقى مصدراً" ظاهر هذا أن "فُعْلى" أنثى "أفعل" إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدراً وليس كذلك، بل إذا زال عن "فعلى" أنثى "أفعل" معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها؛ ألا ترى إلى تأويلهم "كُبْرى" بمعنى كبيرة، "وصُغْرى"بمعنى صغيرة، وأيضاً فإن "فعلى" مصدر لا يَنْقَاسُ، إنما جاءت منها الألفاظ كـ "العُقْبَى والبُشْرَى" ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله: "عنها" عائد إلى "حسنى" لا إلى "فعلى" أنثى "أفعل"، ويكون استثناء منقطعاً كأنه قال: إلا أن يزال عن "حسنى" التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل، ويصير المعنى: إلا أن يُعْتقد أن "حسنى" مصدر لا أنثى "أفعل".
وقوله: "وهو وجه القراءة بها" أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين:
أحدهما: المصدر كـ "البُشْرى" وفيه الأوجه المتقدمة في "حسناً" مصدراً، إلا أنه يحتاج إلى إثبات "حُسْنى" مصدراً من قول العرب: حَسُن حُسْنَى، كقولهم: رَجَع رُجْعَى، إذ مجيء "فُعْلى" مصدراً لا يَنْقَاسُ.
والوجه الثاني: أن تكون صفةً لموصوف محذوف، أي: وقولوا للناس كلمةً حُسْنى، أو مقالةً حسنى، وفي الوصف بها حينئذ وجهان:
أحدهما: أن تكون للتفضيل، ويكون قد شَذَّ استعمالها غير معرفة بـ "ألْ"، ولا مضافة إلى معرفة، كما شذَّ قوله: [البسيط]

621ـ وَإِنْ دَعَوتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ يَوْماً سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا

وقوله: [الرجز]

622ـ في سَعْي دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مَدَّتِ

والوجه الثاني: أن تكون لغير التفضيل، فيكون معنى حُسْنى: حَسَنة كـ "كبرى" في معنى كبيرة، أي: وقولوا للناس مَقَالة حَسَنة، كما قال: يوسف أحسن إخوته في معنى حسن إخوته انتهى.
وبهذا يعلم فساد قول النحاس.
وأما من قرأ: "إحساناً" فهو مصدر وقع صفةً لمصدر محذوف، أي: قولاً إحساناً [وفيه تأويل مشهور]، فـ"إحساناً" مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة، أي: قولاً ذا حُسْن، كما تقول: أعشبت الأرض، أي: صارت ذا عُشْب.
فإن قيل: لم خوطبوا بـ "قُولوا" بعد الإخبار؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على طريقة الالْتِفَاتِ، كقوله تعالى:
{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس:22].
الثاني: فيه حذف، أي: قلنا لهم: قولوا.
الثالث: الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل: قلت: لا تعبدوا وقولوا.
فصل في بيان هل الكفار داخلون في المخاطبة بالحسنى
قال بعضهم: إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين، أما مع الكُفّار والفُسَّاق فلا، بدليل أنه يجب لعنهم وذمّهم ومحاربتهم، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً، وأيضاً قوله تعالى:
{ لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [النساء:148] والقائلون بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القِتَالِ.
ومنهم من قال: إنه دخله التَّخصيص.
وزعم أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر أن هذا العموم باقٍ على ظاهره، ولا حاجة إلى التخصيص، ويدلّ عليه أن موسى وهارون مع عُلوّ منصبهما أُمِرَا بالرِّفْق واللِّين مع فرعون، وكذا محمد صلى لله عليه وسلم أمر بالرفق وترك الغِلْظَة بقوله:
{ ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [النحل:125].
وقال:
{ وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام:108].
وقوله:
{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [الفرقان:72].
وقوله:
{ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } [الأعراف:199].
وأما ما تمسكوا به من أنه يجب لعنهم وذمهم.
قلنا: لا نسلّم أنه يجب لعنهم، وإن سلّمنا لكن لا نسلّم أن اللّعن ليس قَوْلاً حسناً.
بيانه: أنّ القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يستهوونه، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به، ونحن إذا لعنَّاهم وذَمَمْنَاهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك نافعاً في حقهم، فكان قولاً حسناً، كما أن تغليظ الوالد لولده في القول يكون حسناً ونافعاً من حيث يَرْتَدِعُ به عن الفعل القبيح.
سلمنا أنّ لعنهم ليس قولاً حسناً، ولكن لا نسلّم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن.
بيانه: أنه لا مُنَافَاةَ بين كون الشخص مستحقًّا للتعظيم بسبب إحسانه إلينا، ومستحقًّا للتحقير بسبب كفره، وإذا كان كذلك، فلم لا يجوز أن يقال بوجوب القول الحَسَنِ معهم، وأما تمسّكهم بقوله تعالى:
{ لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [النساء:148]
فجوابه: لِمَ يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه [وهو المراد بقوله عليه السلام
"اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس" ].
فصل في أن الإحسان كان واجباً عليهم
ظاهر الآية يدلّ على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً علهيم في دينهم، وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم؛ لأن أخذ الميثاق يدلّ على الوجوب، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب، والأمر في شرعنا أيضاً كذلك من بعض الوجوه، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه: أن الزّكاة نسخت كلّ حق، وهذا ضعيف؛ لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة، وشاهدناه بهذه الصفة، فإنه يلزمنا التصدق عليه، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزَّكَاةِ كان هذا التصدّق واجباً، ولا شك في وجوب مُكَالمة الناس بطريق لا يتضررون منه.
قال ابن عَبَّاس معنى الآية: "قولوا لهم لا إله إلا الله".
وفسّره ابن جريج: "قولوا للناس حسناً صدقاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيّروا صفته".
وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانْهوهم عن المنكر.
وقال أبو العالية: "قولوا لهم الطّيب من القول، وجاوزهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به"، وهذا كلّه حضٌّ على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لَيْناً حسناً، كما قال تعالى لموسى وهارون:
{ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [طه:44].
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة:
"لاَ تَكُوني فَحَّاشَةً فَإِنَّ الفُحْشَ لَوْ كَانَ رَجُلاً لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ" ، ويدخل في هذه الآية المؤمن والكافر.
قوله: "وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ" تقدم نظيره.
وقال ابن عطية: زكاتهم هي التي كانوا يضعونها، وتنزل النَّار على ما تقبل منه، ولم تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاتنا.
قال القرطبي: "وهذا يحتاج إلى نَقْل...".
قوله: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ }.
قال الزمخشري: "وهذا على طريقة الالتفات" وهذا الذي قاله إنما يجيء على قراءة: "لاَ يَعْبُدُونَ" بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات ألبتَّة، ويجوز أن يكون أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاء الحاضرين في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم [وقد قيل ذلك] ويؤيده قوله تعالى: { إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ }.
قيل: يعني بهم الذين أسلموا في زمانه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كعبد الله بن سَلام وأضرابه، فيكون التفاتاً على القِرَاءتين.
ثم قال ابن الخطيب: الآية تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون المُرَاد من تقدم من بني إسرائيل، لأنه ـ تعالى ـ قد سَاقَ الكلام الأول في إظهار النعم بإقامة الحجج ثم بيّن بعد أنهم تولوا إلا قليلاً، فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه، فإنّ أول الكلام في المتقدمين، فالظاهر يقتضي أن آخره فيهم، إلا بدليل يوجب الانصراف عن الظاهر.
وثانيها: أنه خطاب للحاضرين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أَسْلاَفكم؛ لأنه خطاب مشافهة، وهو بالحاضرين أليق.
وثالثها: أن يكون المراد بقوله: "ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ" من تقدم؛ لأنه ـ تعالى ـ لما بين أنه ـ تعالى ـ أنعم عليهم بتلك النّعم ثم تولّوا عنها بعد ذلك كان ذلك دالاًّ على نهاية قبح أفعالهم، ويكون قوله: وأنتم معرضون مختصًّا بمن كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أي: أنكم بمنزلة المتقدّمين الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق، فإنكم بعد اطّلاعكم على صدق دلائل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعرضتم عنه، فكنتم بهذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين [الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق بذلك الشِّرك] في ذلك التولي والله أعلم.
و "قليلاً" منصوب على الاستثناء؛ لأنه من موجب.
وقال القرطبي: المستثنى عند سيبويه منصوب؛ لأنه مشبه بالمَفْعُول.
وقال محمد بن يزيد: هو المفعول حقيقة؛ لأن معناه: استثنيت قليلاً.
وروي عن أبي عمرو وغيره: "إلاَّ قَلِيلٌ" بالرفع، وفيه ستّة أقوال:
أصحها: أن رفعه على الصفة بتأويل "إلاّ" وما بعدها بمعنى "غَيْر"، وقد عقد سيبويهرحمه الله في كتابه لذلك باباً فقال: "هذا باب ما يكون فيه "إلاَّ" وما بعدها وصفاً بمنزلة غَيْر ومثل" وذكر من أمثلة هذا الباب: "لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنَا" و
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء:22].
قال: الطويل

623ـ.................. قَلِيلٌ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلاَّ بُغَامُهَا

وسَوَّى بين هذا وبين قراءة: { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } [النساء:95] برفع "غير" وجوز في نحو: "ما قام القومُ إلا زيدٌ" بالرفع البدل والصِّفة، وخرج على ذلك قوله: [الوافر]

624ـ وَكُلّ أخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ

كأنه قيل: "وكلُّ أخٍ غيرُ الفَرْقَدَين مُفَارِقُهُ أخُوهُ"؛ كما قال الشَّمَّاخ: [الطويل]

625ـ وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ لِوَصلِ خَلِيلٍ صَارٍمٌ أَو مُعَارِزُ

وأنشد غيره: [الرمل]

626ـ لِدَمٍ ضَائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ أَقْرَبُوهُ إلاَّ الصَّبَا والجَنُوبُ

وقوله: [البسيط]

627ـ وَبِالصَّرِيمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ عَافٍ تَغَيَّرَ إلاَّ النُّؤْيُ والوَتِدُ

والفرق بين الوصف بـ "إلاَّ" والوصْفِ بغيرها أنَّ "إلاَّ" توصف بها المعارفُ والنكرات، والظاهرُ والمضمرُ.
وقال بعضهم: "لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس، فإنه في قوة النكرة".
وقال المبرِّد: "شرطه صلاحية البدلِ في موضعه".
الثاني: أنه عطف بيان، قاله ابن عصفور.
وقال: "إنما يعني النحويون بالوصف ـ "إلاَّ" عطف البيان"، [وفيه نظرٌ].
الثالث: أنه مرفوع بفعل مَحْذُوف، كأنه قال: امتنع قليل.
الرابع: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أي إلاَّ قليل منكم لم يتولّوا، كما قالوا "ما مررت بأحد إلاّ رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه".
الخامس: أنه توكيد للضمير المرفوع، ذكر هذه الأوجه أبو البقاء.
وقال: سيبويه وأصحابه يسمونه نعتاً ووصفاً يعني التوكيد، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى، ولكنها قد قيلت.
السادس: أنه بدلٌ من الضمير "تولّيتم".
قال ابن عطية: وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي؛ لأنَّ "توليتم" معناه النفي كأنه قال: لم تَفُوا بالميثاق إلا قليل، وهذا الذي ذكره مِنْ جَوَاز البدل منعه النحويون، فلا يجيزون "قام القوم إلا زيد" على البدل.
قالوا: لأن البدل يَحُلّ محلّ المبدل منه فيؤول إلى قولك: "قام إلا زيد"، وهو ممتنع.
وأما قوله: إنه في تأويل النفي، فما من موجب إلاَّ يمكن فيه ذلك، ألا ترى أن قولك: "قام القوم إلا زيد" في حكم قوله: "لم يجلسوا إلاَّ زيد"، فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده كان كذلك، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها، وإنما أجاز النحويون: "قام القوم إلا زيد" بالرفع على الصيغة كما تقدم تقديره.
و "منكم" صفة لـ "قَلِيلاً" فيه في محل نصب، أو رفع على حسب القراءتين، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاصُ لوصفه بقوله: "مِنْكُمْ".
وقال ابن عطية: "ويُحْتَمَل أن تكون القلة في الإيمان، أي: لم يبق حينَ عَصَو وكفروا آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى" انتهى.
وهذا قول بعيد جدّاً أو ممتنع.
"وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل "تَوَلَّيْتُمْ" وفيها قولان:
أحدهما: أنها حال مؤكِّدة؛ لأن التولّي والإعراض مُتَرَادفان، وقيل مبيِّنة، فإن التولي باليدين والإعراض بالقلب، قاله أبو البقاء.
وقال بعده: وقيل: "تَوَلَّيْتُمْ" يعني آباءهم، "وأنتم معرضون" يعني أنفسهم، كما قال:
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ } [البقرة:49] أي آباءهم انتهى.
وهذا يؤدّي إلى أن جملة قوله: "وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ" لا تكون حالاً؛ لأن فاعل التولّي في الحقيقة ليس هو صَاحِبَ الحال والله أعلم.
وكذلك تكون "مبيّنة" إذا اختلف متعلّق التولي والإعراض كما قال بعضهم: ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم، وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: التولّي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق، وذلك أنه إذا سلك طريقاً ورجع عَوْدَه على بَدْئه سمي ذلك تولياً، وإن سلك في عُرْض الطريق سمي إعراضاً.
وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة بـ "أنتم"؛ لأنه أكد.
وجيء بخبر المبتدأ اسماً، لأنه أولّ على الثبوت فكأنه قيل: وأنتم عادتكم التولي والإعراض عن الحق.