قوله: "وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ" نسق على "كَذَلِكَ نَقُصُّ" قال الزمخشري: ومثل ذلك الإنزال وكما أَنْزَلْنَا عليك هؤلاء الآيات أنزلنا القرآن كلَّه على هذه الوتيرة.
وقال غيره: والمَعْنَى كما قدَّرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذَّرْنَا هؤلاء أمرها، و { أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } لتفهمه العرب فيقفوا على إعجازه ونظمه، وخروفه عن الكلام البشري.
{ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ } أي: كرَّرنَاهُ وفصَّلنَاهُ.
قوله: "مِنَ الوَعِيدِ" صفة لمَفْعُولٍ محذوف، أي: صرَّفنا في القرآن وعيداً من الوعيد، والمراد به الجنس.
ويجوز أن تكون "مِنَ" مزيدة على رأي الأخفش في المفعول به، والتقدير: وصرَّفنا فيه الوعيد "لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون" أي يجتنبون الشرك. { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي: يجدد لهم القرآن عبرة وعظة.
وقرأ الحسن: "أَوْ يُحْدِثْ" كالجماعة إلا أنه سكَّن لام الفعل وعبد الله والحسن أيضاً في رواية ومجاهد وأبو حيوة "نْحْدِثْ" بالنون، وتسكين اللام أيضاً.
(وخُرِّجَ علَى) إجراء الوصل مجرى الوقف، أو على تسكين الفعل استثقالاً للحركة، كقول امرىء القيس:
3695- فَاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ
وقول جرير:
3696- أَوْ نَهْرُ تِيرَى فَلاَ تَعْرِفْكُمُ العَربُ
وقد فعله كما تقدم أبو عمر في الراء خاصة نحو "يَنْصُرْكُم".
وقرىء: "تُحْدث" بتاء (الخطاب) أي: تُحدث أنتَ.
(قوله: "أَوْ يُحْدِثُ") فيه سؤالات:
الأول: كيف يكون محدثاً للذكر؟ والجواب: لمّا حصل الذكر عند قراءته أضيفَ إليه.
الثاني: لِمَ أضيفَ الذكر إلى القرآن، وما أضيفت التقوى إليه؟
والجواب: أنَّ التقوى عبارة عن أن لا يفعل القبيح، وذلك استمرار على العدم الأصلي، فلم يجز إسناده إلى القرآن، وأمَّا حدوث الذكر فأمر حدث بعد أن لم يكن، فجازت إضافته إلى القرآن.
الثالث: كلمة "أو" للمنافاة بين التقوى وحدوث الذكر، ولا يصح الاتقاء إلا مع الذكر، فما معناه؟
والجواب: هذا كقول: جَالِس الحسن أو ابنَ سِيرين، أي: (لا تكن خالياً منهما)، فكذا ههنا.
وقيل: معنى الكلام أنا أنزلنا القرآن ليتَّقوا، فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث القرآن لهم ذكراً وشرفاً وصيتاً حسناً، وعلى التقديرين يكون إنزاله تقوى.
قوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } لما عظم أمر القرآن أردفه بأن عظم نفسه، وذلك تنبيه على أنَّه يجب على خلقه تعظيمه، وإنما وصف مُلكَه بالحَقِّ، لأن ملكه لا يزول ولا يتغير، وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره أولى به، ولهذا وصف بذلك. و "تَعَالَى" تفاعل من العُلُوّ، وقد ثبت أن علوه وعظمته لا تكيّفه الأوهام ولا تقدره العقول.
ثم قال: { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ }.
قال أبو مسلم: إن من قوله: { { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ } [طه: 105] إلى هنا يتم الكلام وينقطع، ثم قوله: { وَلاَ تَعْجَلْ بِالقُرْءَانِ } (خطاب مستأنف كأنه قال: { وَيَسْأَلُونَكَ…وَلاَ تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ }).
وقال غيره: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أنزل عليه جبريل - عليه السلام - بالقرآن يبادر فيقرأ معه قبل أن يفرغ جبريل من التلاوة مخافة الانفلات والنسيان فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يسكت حال قراءة المَلَك، يقرأ بعد فراغه من (القراءة). فكأنه تعالى لما شرح نفع القرآن للمكلفين، وتبين أنه سبحانه متعال عن كل ما لا ينبغي، ومن كان كذلك يجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان (في أمر الوحي، فإذا حصل الأمان عن السهو والنسيان) فلا تعجل بالقرآن فقوله: { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرءَانِ } يحتمل أن يكون المراد لا تعجل بقراءته في نفسك. لما روى عطاء عن ابن عباس: أن يكون أخذُك القرآن على تثبيت وسكون. ويحتمل لا تعجل في تأديته إلى غيرك، قال مجاهد وقتادة: لا تقرأ به أصحابك ولا تُمْله عليهم حتى يتبين لك معانيه. ويحتمل في اعتقاد ظاهره، ويحتمل في تعريفه الغير ما يقتضيه ظاهره، أي: حتى يتبين لك بالوحي تمامه أبو بيانه أو هما جميعاً، لأنه يجب التوقف في معنى الكلام إلى أن يفرغ لجواز أن يحصل عقيبه استثناء أو شرط، أو غيرهما من المخصصات.
فإن قيل: الاستعجال الذي نُهِي عنه إن كان فعلُه بوحي فكيف نهي عنه؟
فالجواب لعله فعل باجتهاد، وكان الأولى تركه فلهذا نُهِي عنه.
قوله: { قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } العامة على بناء "يُقْضَى" للمفعول ورفع "وَحْيُه" لقيامه مقام الفاعل.
والجحدري وأبو حيوة والحسن، وهي قراءة عبد الله "تَقْضِي" بنون العظمة مبنيًّا للفاعل، "وَحْيَه" مفعول به.
وقرأ الأعمش كذلك إلاَّ أنَّه سكن (لام الفعل)، استثقل الحركة وإن كانت خفيفة على حرف العلة، وقد تقدم شواهد عند قراءة { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُم }.
قوله: { وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } أي: بالقرآن ومعانيه، وقيل: "عِلماً" أي ما علمت. وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه قال: اللهم زدْنِي إيماناً ويقيناً.