خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
١١٥
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ
١١٦
فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ
١١٧
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ
١١٨
وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ
١١٩
-طه

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ } الآية. في تعليق هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أنه تعالى لما قال
{ { كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ } [طه: 99] ثم إنه عظَّم أمر القرآن ذكر القصة إنجازاً للوعد في قوله: { كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ }.
الثاني: أنه لما قال:
{ { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [طه: 113] أردفه بقصة آدم عليه السلام كأنَّه قال: إنَّ طاعة بني آدم للشياطين، وتركهم التحفظ من الوساوِسِ أمر قديم، فإنَّا عهدنا إلى آدم من قبل، أي: من قبل هؤلاء الذين صرَّفنا لهم الوعيد، (وبالغنا في تنبيهه)، فقلنا له: { إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ }، ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد، فأمر البشر في ترك التحفظ أمر قديم.
الثالث: أنه لمَّا قال لِمُحمَّد
{ { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [طه: 114] ذكر بعده قصة آدم، فإنه عهد إليه وبالغ في تحذيره من العود، فدل ذلك على ضعف البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوفقه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان.
الرابع: أن محمداً - عليه السلام - لما قيل له:
{ { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه:114] دل على أنه كان في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب فلما وصفه بالإفراط، وصف آدم بالتفريط في ذلك، فإنه تساهَلَ ولم يتحفظ حتى نسي، فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط، ليعلمه أن البشر لا ينفك عن نوع زلة.
الخامس أن محمداً لما قيل به: "وَلاَ تَعْجَلْ" ضاق قلبه، وقال في نفسه: لولا أني أقدمت على ما لا ينبغي، وإلا لما نهيت عنه، فقيل له: يا محمد إن كنت فعلتَ ما نُهِيتَ عنه فإنما فعلته حرصاً منك على العبادة، وحفظاً لأداء الوحي وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي لتساهله، وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره. والمراد بالعهد هنا أمر الله، أي: أمرناه وأوصينا إليه أن لا يأكل من الشجرة من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد في القرآن فتركوا الإيمان.
وقال ابن عباس: من قبل أن يأكل من الشجرة عَهِدْنَا إليه أن لا يأكل منها. وقال الحسن: من قبل محمد والقرآن.
قوله: "فَنَسِيَ" قرأ اليماني بضم النون وتشديد السين بمعنى نَسَّاه الشيطان. وعلى هذه القراءة يحتمل أن يقال: أقدم على المعصية من غير تأويل، وأن يقال: أقدم عليها مع التأويل.
وعلى القراءة المشهورة يحتمل أن يكون المراد بالنسيان نقيض الذكر، وإنما عوقب على ترك التحفظ، والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان، ويحتمل أن يكون المراد بالنسيان الترك، وأنه ترك ما عهد إليه من ترك أكل ثمرتها.
قوله: { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزماً }.
يجوز أن تكون (وجد) علمية، فتتعدى لاثنين، وهما "لَهُ عَزْمًا". وأن تكون بمعنى الإصابة فتتعدى لواحد، وهو "عَزْمًا" (و "لَهُ") متعلق بالوجدان، أو بمحذوف على أنه حال من "عَزْمًا" إذ هو في الأصل صفة له قدمت عليه.
والعازم: هو المصمم، فقوله: { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } يحتمل: ولم نجد له عزماً على ترك المعصية، أو على التحفظ والاحتراز عن الغفلة، أو على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا قلنا: إنه - عليه السلام - إنما أخطأ بالاجتهاد.
وقال الحسن: ولم نجدْ له صبراً عما نُهي عنه.
وقال عطية: حفظاً لما أمر به. وقال ابن قتيبة: رأياً معزوماً.
حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له. والعزم في اللغة: هو توطين النفس على الفعل.
قال أبو أمامة الباهليّ: لو وُزِنَ حلمُ آدم بحلم جميع ولده لرجح عليه وقد قال الله تعالى { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }. فإن قيل: أتقولون إن آدم كان ناسياً لأمر الله حين أكل من الشجرة. قيل: يجوز أن يكون نَسِي أمره، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعاً عن الإنسان بل كان مؤاخذاً به، وإنما رفع عنا.
وقيل: نَسِيَ عقوبة الله، وظن أنَّه نَهي تنزيه. قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } تقدَّم الكلام على ذلك مفصَّلاً في سورة البقرة.
وقوله: "أَبَى" جملة مستأنفة، لأنها جواب سؤال مقدر، أي: ما منعه من السجود؟ فأجيب بأنه أبَى واستكبر.
ومفعول الإباء يجوز أن يكون مراداً، وقد صرَّح به في الآية الأخرى في قوله:
{ { أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } [الحجر: 31] وحسن حذفه هنا كون العامل رأس فاصلة. ويجوز أن لا يراد ألبتة، وأن المعنى: أنه من أهل الإباء والعصيان من غير نظر إلى متعلق الإباء ما هو.
قوله: { فَقُلْنَا يَا ءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ } وسبب تلك العداوة من وجوه:
الأول: أن إبليس كان حسوداً، فلمَّا رأى آثار نِعَم الله تعالى في حق آدم حسده فصار عدواً له.
الثاني: أن آدم - عليه السلام - كان شاباً عالماً لقوله تعالى
{ { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31]، وإبليس كان شيخاً جاهلاً، لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله، وذلك جهل والشيخ أبداً يكون عدواً للشَّاب العالم.
الثالث: أن إبليس مخلوق من النار وآدم من الماء والتراب، فبين أصليهما عداوة، فبقيت تلك العداوة.
فإن قيل: لم قال: { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ } مع أن المخرج لهم من الجنة هو الله تعالى؟
فالجواب لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج صح ذلك. قوله: "فَتَشْقَى" منصوب بإضمار (أنْ) في جواب النهي، والنهي في الصورة لإبليس والمراد به هما، أي لا تَتَعاطَيَا أسباب الخروج (فيحصل لكما الشقاء)، وهو الكد والتعب الدنيوي خاصة. ويجوز أن يكون مرفوعاً على الاستئناف، أي: فأنت تشقى، كذا قدره أبو حيان.
وهو بعيد أو ممتنع، إذ ليس المقصود الإخبار بأنه يشقى بل إن وقع الإخراج لهما من إبليس حصل ما ذكر. وأسند الشقاء إليه دونها، لأن الأمور معدوقة برؤوس الرجال، وحسن ذلك كونه رأس فاصلة، ولأنَّه إن أريد بالشقاء التعب في طلب القوت فذلك على الرجل دون المرأة.
قوله: { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ } خبر "إنَّ"، و "أَلاَّ تَجُوعَ" في محل نصب اسماً لها، (والتقدير: إنَّ لَكَ عدم الجوع والعُرْي) و "تَعْرَى" منصوب تقديراً نسقاً على "تَجُوع" (والعُرْيُ تجرد الجلد عن شيء يقيه، يقال منه: عَرِيَ يَعْرَى عَرْياً) قال الشاعر:

3697- فَإنْ يَعْرَيْنَ إنْ كُسِيَ الجَوَارِي فتَنْبُو العينُ عَنْ كَرَم عِجَافِ

{ وأنَّكَ لاَ تَظْمَأ } قرأ نافع وأبو بكر "وإنَّك" بكسر الهمزة. والباقون بفتحها.
فمن كسر فيجوز أن يكون ذلك استئنافاً، وأن يكون نسقاً على "إنَّ" الأولى. ومن فتح فلأنه عطف مصدراً مؤولاً على اسم "إنَّ" الأولى، والخبر "لَكَ" المتقدم. والتقدير: إنَّ لَكَ عدم الجوع، وعدم العري، وعدم الظمأ والضحى. وجاز أن يكون "أنَّ" بالفتح اسماً لـ "إنَّ" بالكسر للفصل بينهما، ولولا ذلك لم يجز. لو قلت: إنَّ أنَّ زيداً حق لم يجز، فلما فصل بينهما جاز.
وتقول: إنَّ عندِي أنَّ زيداً قائمٌ، فعندي هو الخبر على الاسم وهو أنَّ وَمَا في تأويلها لكونه ظرفاً، والآية من هذا القبيل إذ التقدير: فإن لك أنَّك لا تَظْمَأ وقال الزمخشري: فإن قلت: "إنَّ" لا تدخل على "أنَّ"، فلا يقال: إنَّ أنَّ زيداً منطلقٌ، والواو نائبة عن "إنَّ" وقائمة مقامها، فلم دخلت عليها؟ قلت: الواو لم توضع لتكون أبداً نائبة عن "إنَّ" إنما هي نائبة عن كل عامل، فلمَّا لم تكن حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة كإن لم يمتنع اجتماعهما كما اجتمع "إنَّ" و "أنَّ" وضَحِيَ يَضْحَى أي: برز للشمس، قال عمر بن أبي ربيعة:

3698- رَأَتْ رَجُلاً أمَّا إذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ فَيَضْحَى وَأَمَّا بالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ

وذكر الزمخشري هنا معنى حسَناً في كونه تعالى ذكر هذه الأشياء بلفظ النفي دون أن يذكر أضدادها بلفظ الإثبات، فيقول: إنَّ لَكَ الشبع والكسوة والري والاكتنان في الظل، فقال: وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعُرْي، والظمأ، والصّحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.