خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ
١٣
إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ
١٤
-طه

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: "وَأنَا اخْتَرْتُكَ" أي للرسالة والكلام.
قرأ حمزة "وَأنَّا اخْتَرْنَاكَ" بفتح الهمزة فضمير المتكلم المعظم نفسه.
وقرأ السلمي والأعمش وابن هرمز كذلك إلا أنهم كسروا الهمزة.
والباقون: "وَأنَا اخْتَرْتُكَ" بضمير المتكلم وحده. وقرىء "أَنِّي اخْتَرْتُكَ" بفتح الهمزة.
فأما قراءة حمزة فعطف على قوله { أَنِّي أَنَا رَبُّكَ } وذلك أنه يفتح الهمزة هناك ففعل ذلك لما عطف غيرها عليها. وجوز أبو البقاء أن يكون الفتح على تقدير: وَلأنّا اخْتَرْنَاكَ فَاسْتَمِعْ، فعلقه باسْتَمِعْ. والأول أولى.
ومن كسرها فلأنه يقرأ { إنِّي أَنَا رَبُّكَ } بالكسر. وقراءة أُبي كقراءة حمزة بالنسبة للعطف. ومفعول "اخْتَرْتُكَ" الثاني محذوف، أي اخترتك من قومك.
قوله: "لِمَا يُوحَى" الظاهر تعلقه بـ "اسْتَمِع" ويجوز أن تكونَ اللام مزيدة في المفعول على حد قوله تعالى "رَدِفَ لَكُمْ" وجوز الزمخشري وغيره أن تكون المسألة من باب التنازع بين "اخْتَرْتُكَ" وبين "اسْتَمِعْ" كأنه قيل: "اخْتَرْتُكَ لِمَا يُوحَى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى". قال الزمخشري: فعلق اللام باسْتَمِعْ أو باخْتَرْتُكَ وقد رد أبو حيان هذا بأن قال: ولا يجوز التعليق باخْتَرْتُكَ لأنه من باب الإعمال فكان يجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني، فكان يكون: فاسْتَمِعْ لَهُ لِمَا يُوحَى، فدل على أنه من باب إعمال الثاني.
قال شهاب الدين: والزمخشري عنى التعليق المعنوي من حيث الصلاحية وأما تقدير الصناعة فلم يَعْنِهِ.
(و "ما") يجوز أن تكون مصدرية وبمعنى الذي، أي فاسْتَمِعْ للوحي أو للذي يوحى).
فصل
هذه الآية تدل على النبوة لا تحصل بالاستحقاق، لأن قوله: "وَأَنَا اخْتَرْتُكَ" يدل على أن ذلك المنصب العالي إنما حَصَل لأنه تعالى اختاره له ابتداء لا أنه يستحقه على الله تعالى.
وقوله: { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } أي: إليك فيه نهاية الهيبة والجلالة كأنه قال: لَقَدْ جَاءَك أمْرٌ عظيمُ فتأهَّبْ له، واجعَلْ كلَّ عقلك وخاطرِك مصروفاً إليه.
ثم قال: { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي } ولا تعبد غيري، وهذا يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع: لأن التوحيد من علم الأصول والعبادة من علم الفروع.
وأيضاً فالفاء في قوله: "فَاعْبُدْنِي" تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهِيَّتِهِ.
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة من وجهين:
الأول: أنه تعالى بعد أن أمره بالتوحيد أمره بالعبادة، ولم يذكر كيفية العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكاً عن البيان.
الثاني: أنه قال: "أَقِم الصَّلاَةَ لِذِكْرِي" ولم يبين كيفية الصلاة.
قال القاضي: لا يمتنع أن موسى عليه السلام - قد عرف الصلاة إلى تعبَّدَ الله تعالى - بها شُعَيْباً - عليه السلام - وغيره من الأنبياء، فتوجه الخطاب إلى ذلك، ويحتمل أنه تعالى بيَّن له في الحال، وإن كان المنقول في القرآن لم يذكر فيه إلا هذا القول.
وأجيب عن الأول: بأنه لا يتوجه في قوله تعالى: "فَاعْبُدْنِي" وأيضاً فحَمْلُ مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم، لأن موسى - عليه السلام - ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب - عليه السلام -، فلو حملنا قوله: { وَأَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِذِكْرِيۤ } على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة، أما لو حملناه عى صلاة أخرى لحصلت فائدة زائدة. وقوله: لعلَّ اللهَ بيَّنه في ذلك الموضع، وإن لم يحكه في القرآن قلنا: لا شك أن البيان (أكثر فائدة) من المجمل، فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية.
قوله: "لِذِكْري" يجوز أن يكون المصدرُ مضافاً لفاعله، أي: لأنِّي ذكرتُها في الكتب، أو لأني أذكرك. (ويجوز أن يكون مضافاً لمفعوله، أي: لأَنْ تَذْكُرْنِي) وقيل: معناه ذكر الصَّلاة بعد نسيانها، لقوله - عليه السلام -:
"مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أوْ نَسِيَهَا فَلْيُصلِّهَا إذَا ذَكَرَها" .
قال الزمخشري: وكان حق العبارة لِذِكْرِهَا ثم قال: ومَنْ يَتمحّل له أن يقول إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله أو على حذف مضاف أي لِذِكْر صلاتي، أو لأن الذكر والنسيان من الله تعالى في الحقيقة وقرأ أبو رجاء والسلمي "لِلْذِكْرَى" بلام التعريف وألف التأنيث. وبعضهم: "لِذِكْرِي" منكَّرة وبعضهم: "لِلذِّكْرِ" بالتعريف والتذكير.
فصل
ذكرُوا في قوله تعالى: "لِذِكْرِي" وجوهاً:
أحدها: لِذِكْرِي بمعنى لِتَذْكُرَنِي، فإنَّ ذِكْرِي أنْ أُعْبَدَ ويُصَلَّى لِي.
والثاني: لتَذْكُرني منها لاشتمال الصلاة على الأذكار؛ عن مجاهد.
وثالثها: لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها.
ورابعها: لأن أَذكُرَك بالمدح والثناء.
وخامسها: لِذِكْرِي خاصة لا يشوبه ذكرُ غيري.
وسادسها: لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين، كقوله:
{ { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [النور: 37].
وسابعها: لأوقات ذِكْري، وهي مواقيت الصلاة، لقوله:
{ { إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [النساء: 103].
وثامنها: أقِم الصَّلاة حين تذكرها أي: إِنَّكَ إذَا نسيتَ صلاةً فاقْضها إذا ذكرتَها، قال عليه السلام:
"مَنْ نَسِيَ صَلاَةَ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَها لاَ كَفَّارَةَ لهَا إلاَّ ذَلِك" ثم قرأ "أقِم الصَّلاَةَ (لِذِكْرِي"). قال الخطَّابي هذا الحديث يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يكفرها غير قضائها.
والآخر: أنه لا يلزمه في نسيانها غرامة، ولا كفارة، كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر، وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئاً فدية من دم أو طعام إنما يصلّي ما ترك فقط. فإن قيل: حق العبادة أن يقول: صَلِّ الصَّلاةَ لذكرِها، كما قال عليه السلام:
"إذَا ذَكَرَها"
فالجواب: قوله: "لِذِكْرِي" معناه: للذِّكْر الحاصل بِخَلْقِي. أو بتقدير حذف مضاف أي: لذكر صلاتي.
(فصل)
لو فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء، فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي -رحمه الله -، ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة، فإن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة، ولو بدأ بصلاة الوقت جاز، وأن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فاتت صلاة الوقت فيجب البداءة بصلاة الوقت لئلا تفوت الأخرى. ولو تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمّها ثم قضى الفائتة. ويستحبّ أن يعيد صلاة الوقت بعدها، ولا يجب. وقال أبو حنيفةرحمه الله : يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم الجمعة حتى قال: ولو تذكر في خلال صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت، فيقضي الفائتة، ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيِّقاً فلا يبطل، واستدل بالآية والخبر والقياس والأثر. أما الآية فقوله تعالى: "أَقِم الصَّلاةَ لِذِكْرِي" أي لتذكرها و "اللام" بمعنى "عِنْدَ" كقوله تعالى:
{ { أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [الإسراء: 78] أي عند دلوك الشمس، فالمعنى: أَقِم الصَّلاَةَ عِنْدَ تَذَكرها، وذلك يقتضي وجوب الترتيب. وأما الخبر فقوله عليه السلام: "مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَها" والفاء للتعقيب. وروي في الصحيحين "أنَّ عُمَرَ بن الخطاب جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الخندق فجعَلَ يَسُبُّ كفارَ قريش ويقول: والله يا رسول الله ما صلَّيْتُ العصرَ حتَّى كادت الشَّمْسُ تغربَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وَأنَا والله ما صلَّيْتُهَا بعد قال: فنزل إلى بُطْحَان فَصلى العصرَ (بَعْدَ ما غَرَبَت الشمسُ) ثم صلى بعدها المغرب" . والاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أنه قال:
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وقد صلى الفوائت على الولاء فيجب علينا اتباعه.
والثاني: أن فعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة، وهذا الفعل خرج بياناً لمجمل قوله: "أَقِيمُوا الصَّلاةَ" ولهذا قالوا: إن الفوائت إذا كانت قليلة يجب مراعاة الترتيب فيها، فإذا كثرت سقط الترتيب للمشقة. وأما الأثر: فرُوِي عن ابن عمر أنه قال:
"مَنْ فاتَهُ صلاةٌ فَلَمْ يَذْكُرْها إلا في صَلاَة الإمام فليمض في صلاته، فإذَا قَضَى صلاتَه مع الإمَام يُصَلِّي ما فاته، ثم ليُعد التي صلاها مع الإمام" وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما القياس: فإنهما صلاتا فرض جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة، فأشبهتا صلاتي عرفةٍ والمزدلفة، فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما، وجب أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك. واحتج الشافعيرحمه الله بما روى أبو قتادة:
"أنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلاَةِ الفَجْرِ ثُمَّ انْتَبَهُوا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَمَرَهُمْ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يقُودُوا رَوَاحِلَهُم ثُمَّ صَلاَّهَا" . ولو كان وقت التذكير معيناً للصلاة لما جاز ذلك، فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه، لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع، وإذا ثبت هذا فنقول: إيجاب قضاء الفوائت، وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين، فوجب أن يكون المكلف مخيراً في تقديم أيهما شاء، ولأنه لو كان الترتيب واجباً في الفوائت لما سقط بالنسيان، ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيْم، ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال (والعصر بعد الزوال) فإنه يعيدهما جميعاً، ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان شرطاً فيهما، فهاهنا أيضاً لو كان الترتيب شرطاً فيهما لما كان يسقط بالنسيان.