خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ
١٥
فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ
١٦
-طه

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا }.
(لمَّا خاطب موسى عليه السلام بقوله: { فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِذِكْرِيۤ } أتبعَه بقوله: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا })، وما أليق هذا بتأويل من تأوّل قوله: "لِذِكْرِي" أي لأذكرك بالإثابة والكرامة فقال عقيب ذلك { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ } لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة، ثم قال: "أَكَادُ أُخْفِيهَا". العامة على ضم الهمزة من "أُخْفِيهَا".
وفيها تأويلات:
أحدها: أن الهمزة في "أُخْفِيهَا" للسلب والإزالة، أي: أزيل خفاءها نحو: أَعْجَمْتُ الكتابَ أي: أزلت عجمتَه، وأشكيتُه أي أزلت شكواه، ثم في ذلك معينان:
أحدهما: أن الخفاءَ بمعنى (الستر)، ومتى أزال سترها فقد أظهرها، والمعنى: أنها لتحقّق وقوعها وقربها أكاد أظهرها لولا ما تقتضيه الحكمة من التأخير.
والثاني: أن الخفاءَ هو الظهور كما سيأتي، والمعنى: أزيل ظهورها، وإذا أزال ظهورها فقد استترت، والمعنى: أن لشدّة إبهامها أكادُ أخفيهَا فلا أظهرها ألبتة وإن كان لا بد من إظهارها، ولذلك يوجد في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ: "أَكَادُ أُخْفِيهَا من نفسي فكيف أظهركم عليها" وهو على عادة العرب في المبالغة في الإخفاء، قال الشاعر:

3644- أَيَّامَ تَصْحَبُنِي هِنْدٌ وَأُخْبِرُهَا مَا كِدْتُ أَكْتُمُه عَنِّي مِنَ الخَبَرِ

وكيف يتصوّر كتمانه من نفسه؟ قال القاضي: هذا بعيد، لأن الإخفاء إنما يصح ممن يصح له الإظهار، وذلك مستحيل عليه تعالى، لأن كلَّ معلومٍ معلومٌ له، فالإظهار والإسرار فيه مستحيل. ويمكن أن يُجاب بأن ذلك واقع على التقدير، بمعنى لو صح مني إخفاؤه عن نفس لأخفيته عني، والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه يمتنع أن يذكر على هذا التقدير، مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه.
والتأويل الثاني: أن (كَادَ) زائدة قاله ابن جبير، وأنشد غيره شاهداً عليه قول زيد الخيل:

3645- سَرِيعٌ إلَى الهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلاَحَهُ فَمَا إِنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ

وقول الآخر:

3646- وَأَنْ لا أَلُومُ النَّفْسَ مِمَّا أَصَابَنِي وَأَنْ لاَ أَكَادُ بالَّذِي نِلْتُ أنْجَحُ

ولا حجة في شيء منه.
والتأويل الثالث: أنَّ الكيدَ ورد بمعنى الإرادة، قاله الأخفش وجماعة، وهو قول أبي مسلم، فهو كقوله: (
{ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } [يوسف:76]ومن أمثالهم المتداولة: لا أفْعَلُ ذَلِكَ وَلا أَكَادُ.
أي: لا أُريد أَنْ أفعله، وهذا) لا ينفع فيما قصدوه.
التأويل الرابع: أنَّ خبرها محذوف، تقديره: أكادُ آتِي بها لقُرْبِها، وأنشدوا قول ضابىء البرجمي:

3647- هَمسْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي تَرَكْتُ عَلى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلاَئِلُهْ

أي: وكدت أفعل. فالوقف على "أَكَادُ" والابتداء بـ "أُخْفِيهَا"، واستحسنه أبو جعفر.
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً: فقال: إنَّ (كادَ) نفيه إثبات وإثباته نفي، قال تعالى:
{ { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [البقرة:71]، أي: ففعلوا ذلك، فقوله: "أكَادُ أُخْفِيهَا" يقتضي أنه ما أخفاها.
وذلك باطل لوجهين:
أحدهما: لقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان: 34]
الثاني: إنَّ قوله: { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار. ثم أجاب بوجوه: الأول: أنَّ "كَادَ" موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات، فقوله: "أَكَادُ أُخْفِيهَا" معناه: قرب الأمر فيه من الإخفاء. وأَمَّا أنَّه هل حصل ذلك الإخفاء أو ما حصل فهو غير مستفاد من اللفظ بل بقرينة قوله: { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار.
الثاني: أنَّ "كَادَ" من الله: وجب، فمعنى قوله: أَكَادُ أُخْفِيَها أي: أنا أُخْفِيها عن الخلق، كقوله:
{ { عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً } [الإسراء: 51] أي هو قريبٌ قاله الحسن. وذكر باقي التأويلات المتقدمة.
وقرأ أبُو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد: "أَخْفِيهَا" بفتح الهمزة والمعنى: أظهرها بالتأويل المتقدم، يقال: خَفَيْتُ الشيء: أظهرتُه وأخفيتُه سترتُه هذا هو المشهور وقد نقل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنى. وحكى عن أبي عبيد أَنَّ أخْفَى من الأضداد يكون بمعنى أَظْهَر وبمعنى سَتَر. وعلى هذا تتحد (القراءتان). ومن مجيء خَفَيْتُ بمعنى أظهرت قول امرىء القيس:

3648- خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّما خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عِشِيٍّ مُجَلِّبِ

(وقول الآخر:

3649- فَإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لاَ نُخْفِهِ وَإنْ تُوقِدُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ)

قال الزجاج: وهذه القراءة أبْيَنُ، لأن معناها: أكادُ أَظْهِرُها (فيفيد أنه قد أخفاها). والحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت: أنَّ الله تعالى وعد قبلها التوبة عند قربهما، فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى وقت قرب ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية، فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل معصية وهو لا يجوز. قوله: "لِتُجْزَى" هذه لام كي، وليست بمعنى القسم أي: لِتُجْزَيَّن كما نقله أبو البقاء عن بعضهم، وتتعلق هذه اللامِ بأُخْفِيها. وجعلها بعضهم متعلقة بـ (ءَاتِيَةٌ)، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت أن "أكَادُ أُخْفِيِهَا" معترضة بين المتعلق والمتعلق به، أما إذا جعلتها صفة (ءَاتِيَةٌ) فلا يتم على مذهب البصريين، لأن اسم الفاعل متى وصف لم يعمل فإن عمل ثم وصف جاز.
وقال أبو البقاء: وقيل: بـ (ءَاتِيَةٌ)، ولذلك وقف بعضهم على ذلك وقفة يسيرة إيذاناً بانفصالها عن (أخفيها).
قوله: "بِمَا تَسْعَى" متعلق بـ "لِتُجْزَى". و "مَا" يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة اسمية، ولا بد من مضاف، أي: لِتُجْزَى بعقاب سعيها، أو: بعقاب ما سعته.
فصل
لمَّا حكم بمجيء الساعة ذكرَ الدليلَ عليه، وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي، وهو المعنيُّ بقوله:
{ { أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص: 28].
واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل، لأن (الباءَ) للإلصاق، فقوله: "بِمَا تَسْعَى" يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي واحتجوا بها أيضاً على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد، ولو كان الفعل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي أَلبتة".
قوله: { فَلاَ يَصُدَّنَكَ عَنْهَا مَن لاَ يُؤْمِنُ بِهَا } من لا يؤمن هو المنهي صورة، والمراد غيره، فهو من باب: لا أَرَينَّك هَهُنا. وقيل: إن صدَّ الكافرين عن التصديق بها سبب للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب. والضميران في "عَنْهَا" و "بِهَا" للسَّاعة قاله ابن عباس: وذلك لأنه يجب عود الضمير إلى أقرب مذكور وهو هنا الساعة. وقيل: للصلاة.
وقال أبو مسلم: الضمير في (عَنْهَا) للصَّلاة، وفي (بِهَا) للسَّاعة، قال: وهذا جائز في اللغة، فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه.
وأجيب بأنَّ هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة (ههنا).
قوله: "فَتَرْدَى" يجوز فيه أن ينتصب في جواب النهي بإضمار (أَنْ) وأن يرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره: فَأَنْتَ تَرْدَى.
وقرأ يحيى: "تِرْدَى" بكسر التاء، وقد تقدم أنها لغة والرَّدَى الهلاك يقال: رَدِيَ يَرْدَى رَدًى، قال دُرَيْد (بن الصمة):

3650- تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِسَاً فَقُلْتُ أَعَبْدَ اللهِ ذلِكُمُ الرَّدِي

فصل
الخطابُ في قوله: "فَلاَ يَصُدَّنَّكَ" يحتمل أن يكون مع موسى، وأن يكون مع محمد - عليهما السلام -. والأقرب أنه مع موسى - عليه السلام -، لأنَّ جميع الكلام خطاب له. وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج: إنَّه ليس بمراد وإنما أريد به غيره، وذلك لأنه ظن أن النبيَّ - عليه السلام - لما لم يجز عليه مع النُّبَوَّة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطَباً بذلك، وليس الأمر كما ظن، لأنه إذا كانَ مكلَّفاً بأنْ لا يقبلَ الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به، (ويكون المراد) هو وغيره. ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله: { فَلاَ يَصُدنَّكَ عَنْهَا } النهي عن الميل إليهم ومقاربتهم.
فصل
المقصودُ نَهْيُ موسى - عليه السلام - عن التكذيب بالبعث، ولكن الظاهر اللفظ يقتضي نهيَ منْ لم يؤمن عن صدِّ موسَى - عليه السلام - وفيه وجهان:
أحدهما: أن صدَّ الكافر عن التصديق بها سببٌ للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب. (ذلك أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرَّجُل في الدِّين، فذكر المسبب ليدل حمله على السبب) كقولهم: لاَ أَريَنَّكَ هَهُنا. المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته فهكذا ههنا، كأنه قيل: لا تكن رخواً بل كن في الدين شديداً.
فصل
دلَّت الآية على وجوب تعلم علم الأصول، لأن قوله: "فَلاَ يَصُدّنَّكَ" يرجع معناه إلى صلابته في الدين، وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه عن المحق، فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل، وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل يكون هو متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانِه.
(فصل)
قوله: "فَلاَ يَصُدنَّكَ" يدل على أن العبادَ هُمُ الذين يصدون، ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصَّادُّ دونهم، فدل ذلك على بطلان القول بالجبر. وأجيب بالمعارضة بمسألة العلم (والداعي). ثم قال تعالى: "واتَّبَعَ هَوَاهُ" والمعنى أن منكر البعث إنَّما أنكره اتباعاً للهوى لا للدليل، وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، لأن المقلّد متبعٌ للهوى (لا للحجة) ثم قال: "فَتَرْدَى" أي: فتهلك.