خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ
٤٠
-طه

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "إذ تَمْشِي" (في عامل هذا الظرف أوجه:
أحدها: أنَّ العامل فيه "أَلْقَيْتُ"، أي: ألقيتُ عليكَ محبَّةً منِّي وقت مشي أختِك.
الثاني: أنه منصوب بقوله: "وَلِتُصْنَعَ"، أي: لتربَّى ويُحْسنَ إليك في هذا الوقت: قال الزمخشري: والعامل في "إذ تَمْشِي"أَلْقَيْتُ" أو "لِتُصْنَع" وقال أبو البقاء: "إذْ تَمْشِي" يجوز أن يتعلق بأحد الفعلين. يعني بالفعلين ما تقدم من "أَلْقَيْتُ" أو "لِتُصْنَعَ"). وعلى هذا فيجوز أن تكون المسألة من باب التنازع لأن كلاًّ من هذين العاملين يطلب هذا الظرف من حيث المعنى، ويكون من إعمال الثاني للحذف من الأول، وهذا إنما يتجه كل الاتجاه إذا جعلت "وَلِتُصْنَعَ" معطوفاً على علة محذوفة متعلقة بـ "أَلْقَيْتُ".
أما إذا جعلته متعلقاً بفعلٍ مضمرٍ بعده فيبعد ذلك، أو يمتنع لكون الثاني صار من جملة أخرى.
الثالث: أن يكون "إذْ تَمْشِي" بدلاً من "إذْ أَوْحَيْنَا".
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل: لَقيتُ فَلاَناً سَنَةَ كذا، فتقول: وَأَنَا لَقيتهُ إذْ ذاكَ، وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها. قال أبو حيان: وليس كما ذكره، لأن السنة تقبل الاتساع، فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين، فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصيصهما بما أضيفا إليه، فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقع مشي الأخت، فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة.
قال شهاب الدين: وهذا تحامل منه عليه، فإن زمن اللقاء أيضاً ضيق لا يسع فعليهما، وإنما ذلك مبني على التساهل، إذ المراد أن الزمان مشتملٌ على فعليهما.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون بدلاً من (إذ) الأولى: لأنَّ مشيْ أختِه كان مِنَّةً عليه.
يعني أن قوله: "إذْ أَوْحَيْنَا" منصوب بقوله: ("مَنَنَّا") فإذا جُعِل "إذْ تَمْشِي" بدلاً منه كان أيضاً ممتناً به عليه.
الرابع: أن يكون العامل فيه مضمراً تقديره: اذكر إذ تَمْشِي، وهو على هذا مفعول به (لفساد المعنى على الظرفية).
قوله: { إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكََ } (اسمها مريم).
يروى أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً في النيل، وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها، لأن الله - تعالى - حرَّم عليه المراضع غير أمه واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته متعرفة خبره، فجاءت إليهم متنكرة فقالت: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ } أي على امرأة ترضعه؟ قالوا نعم: فجاءت الأم، فَقَِبِلَ ثديهَا، فذلك قوله: { فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } بلقائك. قوله: { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا }. قرأ العامة "تَقَرَّ" بفتح التاء والقاف وقرأت فرقة: "تَقِرَّ" بكسر القاف، وقد تقدم في سورة مريم أنهما لغتان.
وقرأ جناح بن حبيش "تُقَرَّ" بضم التاء وفتح القاف على البناء للمفعول "عَيْنُها" رفعاً لما لم يسم فاعله.
فإن قيل: (لو قال): كي لا تحزن وتقرَّ عينُها كان الكلام مفيداً لأنه لا يلزم من عدم حصول الحزن حصول السرور لها، فلما قال أولاً { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } كان قوله "وَلاَ تَحزَن" فضلاً، لأنه متى حصل السرور وجب زوالُ الغمِّ لا محالة.
فالجواب: المراد تقرَّ عينُها بسبب وصولك إليها، ويزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك. قوله: { وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ }، وهذه المنّة الخامسة. قال ابن عباس: هو الرجل القبطي الذي قتله خطأ بأن (وكزه) حيث استغاثه الإسرائيلي إليه، فحصل له الغم من وجهين:
الأول: من عقاب الدنيا، وهو اقتصاص فرعون منه على ما حكى الله تعالى عنه
{ { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [القصص: 18].
والثاني: من عقاب الله حيث قتله لا بأمر الله. فنجاه الله - تعالى - من الغمين، أما من فرعون فوفق له المهاجرة إلى مدين، وأما من عقاب الآخرة (فلأن الله تعالى غفر له ذلك). (قال كعب الأحبار: كان عمره إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة).
قوله: "فُتُوناً" فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر على فُعُول كالقُعُود والجُلُوس، إلا أنَّ فُعُولاً قليل في المتعدي ومنه الشُّكُور والكُفُور والثُّبُور واللُّزُوم قال تعالى:
{ { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان: 62] وهذا على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر، كقوله تعالى: { { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [النساء: 164].
والثاني: أنه جمع فِتْن أو فِتْنَة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحُجُوزٍ وبُدُورٍ في حُجْرَةٍ وبَدْرَة، أي: فَتناكَ ضروباً من الفتن. عن ابن عباس أنه ولُِد في عام يُقْتَل فيه الولدان، وألقته أمه في البحر، وقَتَل القبطيَّ، وأجَّرَ نفسه عشر سنين، وضلَّ عن الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة. ولما سأل سعيد بن جبير عن ذلك أجاب بما تقدم، وصار يقول عند كل واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير، قال معناه الزمخشري.
وقال غيره: بفُتُونٍ من الفِتَن أي المِحَن مختبر بها.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الفتون وقوعه في محنة خلصه الله منها، أولها أنَّ أمه حملت في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت، ثم مَنْعُه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أَخَذُه بلحيةِ فرعونَ حتى همَّ بقتلِه، ثم تناوله الجمرة بدل الجوهرة ثم قَتْلُه القبطيَّ، وخروجُه إلى مدين خائفاً. فعلى هذا معنى: فتناك أخلصناك من تلك المِحَن كما يُفْتَن الذهب بالنار فيتخلص من كل خبث فيه.
فإن قيل: إنه تعالى عدَّد أنواع مِنَنِهِ على موسى في هذا المقام، فكيف يليق بهذا قوله: "وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً"؟
فالجواب من وجهين:
الأول: ما تقدم من أنَّ "فَتَنَّاكَ" بمعنى خلصناك تخليصاً.
والثاني: أن الفتنة تشديد المحنة يقال: فُتِن فلانٌ عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه. قال تعالى:
{ { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ } [العنكبوت: 10]، وقال: { { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 2] وقال: { { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 3]، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب عدَّه الله من جملة النِّعَم.
فإن قيل: هل يصح إطلاق الفَتَّان عليه سبحانه اشتقاقاً من قوله: "وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً"؟
فالجواب: لا لأنه صفة ذمٍّ في العرب، وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي.
قوله: { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْين } والتقدير: "وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً" فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم وهي إمَّا عشراً وَثَمان لقوله تعالى:
{ { عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } [القصص: 27] وقال وهب: لَبِثَ مُوسَى عند شعيب عليهما السلام ثمانياً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته.
ويرده قوله تعالى:
{ { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ (وَسَارَ بِأَهْلِهِ } [القصص: 29] أي) الأجل المشروط عليه في تزويجه.
ومَدْيَن: بَلْدَةُ شُعَيْبٍ على ثَمَان مراحل من مصر.
قوله: { ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يا مُوسَىٰ } هذا الجار متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل "جِئْتَ" أي جئت موافقاً لما قُدِّر لك، كذا قدره أبو البقاء، وهو تفسير معنى، والتفسير الصناعي: ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين، كقول الآخر:

3656- نَالَ الخِلاَفَةَ أَوْ جَاءَتْ عَلَى قَدَرٍ كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ

ولا بد من حذف في الكلام، أي: على قدر أمر من الأمور.
وقال محمد بن كعب: جئتَ على القدر الذي قدرت أنك تجيء فيه وقال مقاتل: كان موعداً (في تقدير الله.
وقال عبد الرحمن بن كيسان: كان على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي) يوحي فيه إلى الأنبياء. وهذا قول أكثر المفسرين، أي على الوعد الذي وعده الله وقدَّر أنه يوحي إليه بالرسالة، وهو أربعون سنة.