خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ
٨٣
قَالَ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ
٨٤
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ
٨٥
-طه

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "وَمَا أَعْجَلَكَ" مبتدأ وخبر. و "مَا" استفهامية عن سبب التقدم على قومه.
قال الزمخشري: فإن قلتَ: "مَا أَعْجَلَكَ" سؤال عن سبب العجلة، فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلبُ زيادة رضَاكَ، أو الشوق إلى كلامك وتنجز موعدك. وقوله: { هُمْ أُوْلاَءِ عَلَىٰ أَثَرِي } كَمَا تَرَى غير منطبق عليه.
قلت: قد تضمَّن ما واجهه به رب العزة شيئين:
أحدهما: إنكار العجلة في نفسها.
والثاني: السؤال عن سبب التقدم والحامل عليه، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر، وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه فاعتلَّ بأنَّه لم يوجد منِّي إلا تقدمٌ يسير مثله لا يعتد به في العادة، ولا يحتفل به، وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمتهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ }.
وأجاب غيره عن هذا السؤال بأنه - عليه السلام - ورد عليه من هيبة عتاب الله ما أذهله عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام.
فصل
في الآية سؤالات:
الأول: قوله: "وَمَا أَعْجَلَكَ" استفهام، وهو على الله تعالى محال.
والجواب: أنه إنكار في صيغة الاستفهام ولا امتناع فيه.
الثاني: أنَّ موسى - عليه السلام - إما أن يقال: إنَّه كان ممنوعاً عن ذلك التقدم، أو لم يكن ممنوعاً عنه، فإن كان ممنوعاً كان ذلك التقدم معصية فيلزم وقوع المعصية من الأنبياء، وإن لم يَكُنْ ممنوعاً كان ذلك الإنكار غير جائز.
والجواب: لعله - عليه السلام - ما وجد نصًّا في ذلك إلا أنَّه باجتهاده تقدم فأخطأ في ذلك الاجتهاد فاستوجب العتاب.
الثالث: قوله: "وَعَجِلْتُ" والعجلة مذمومة.
والجواب: أنها ممدوحة في الدين قال الله تعالى:
{ { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [آل عمران: 133].
الرابع: قوله: "لِتَرْضَى" يدل على أنَّه - عليه السلام - إنَّما فعل ذلك ليحصل الرِّضا لله تعالى، وذلك باطل من وجهين:
أحدهما: يلزم تجدد صفة الله.
والآخر: أنه - تعالى - قبل حصول ذلك الرضا يجب أن يقال: (إنَّه ما) كان راضياً عن موسى، لأنَّ تحصيل الحاصل محال، ولما لَمْ يكن راضياً عنه وجب أن يكون ساخطاً عليه، وذلك لا يليق بحال الأنبياء.
والجواب المراد تحصيل دوام الرضا كقوله: "ثُمَّ اهْتَدَى" المراد دوام الاهتداء.
الخامس: قوله { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } يدل على أنه ذهب إلى الميعاد قبل الوقت الذي عيَّنه الله له وإلا لم يكن تعجيلاً، ثم ظن أنَّ مخالفة أمر الله سبب لتحصيل رضاه، وذلك لا يليق بأجهل الناس فضلاً عن كليم الله.
والجواب: أن ذلك كان باجتهادٍ وأخطأ فيه.
السادس: قوله: "إلَيْكَ" يقتضي كون الله في الجهة، لأن "إلى" لانتهاء الغاية.
والجواب: اتفقنا على أنَّ الله - تعالى - لم يكن في الجبل، فالمراد إلى مكان وعدك.
فصل
دلت الآية على أنَّه تعالى أمره بحضور الميقات مع قوم مخصوصين فقال المفسرون: هم السَّبعُون الذين اختارهم الله من جملة بني إسرائيل، يذهبون معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فسار بهم موسى، ثم عجَّل موسى من بينهم شوقاً إلى ربه، وخلف السبعين وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال الله له: { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَا مُوسَىٰ } قال مجيباً لربه { هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي } أي: بالقرب منِّي يأتون من بعدي { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } لتزداد رِضًى.
قوله: { هُمْ أُوْلاَءِ عَلَى أَثَرِي } كقوله:
{ { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة: 85] و { عَلَى أَثَرِي } يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً وقرأ الجمهور: "أولاَءِ" بهمزة مكسورة.
والحسن وابنُ معاذ بياء مكسورة، وإبدال الهمزة ياءً (تخفيفاً).
وابن وثاب "أُولى" بالقصر دون همزة.
وقرأت طائفة "أُولاَيَ" بياء مفتوحة، وهي قريبة من الغلط والجمهور "عَلَى أَثَرِي" بفتح الهمزة والثاء.
وأبو عمرو في رواية عبد الوارث، وزيد بن علي "إثْرِي" بكسر الهمزة وسكون الثاء وعيسى بضمها وسكون الثاء، وحكاها الكسائي (لغة).
قوله: { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } أي: ابتلينا الذين خَلَّفتَهُم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف، فَأُفْتِنُوا بالعجل غير اثني عشر ألفاً من بعدك انطلاقك إلى الجبل.
فصل
قالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون المرادُ أنَّ الله - تعالى - خلقَ فيهم الكفر لوجهين:
الأول: الدلائل العقلية (الدالة على) أنه لا يجوز من الله - تعالى - أن يفعل ذلك.
والثاني: أنَّه قال: "وَأَضَلَّهُمُ السَّامِريّ".
وأيضاً: فلأن موسى لمَّا طالبَهُم بذكر سبب الفتنة، فقال:
{ { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [طه: 86] فلو حصل ذلك بخلق الله لكان لهم أن يقولوا السبب فيه أن الله خلقه فِينَا لا ما ذكرت، فكان يبطل كلام موسى - عليه السلام -. وأيضاً فقوله: { { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [طه: 86] ولو كان ذلك بخلقه لاستحال أن يغضبَ عليهم فيما هو الخالق له، ولما بطل ذلك وجب أن يكون لقوله: "فَتَنَّا" معنًى آخر، وذلك لأن الفتنة قد تكون بمعنى الامتحان، يقال: فَتَنْتُ الذَّهَبَ بالنار إذا امتحنته بالنار فتميز الجيد من الرديء، فهاهنا شدَّد الله التكليف عليهم، لأن السَّامِرِيَّ، لما أخرج لهم العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة العالم والأجسام على أنَّ له إلهاً بجسم وحينئذ يعرفون أن العجل لا يصلح للإلهية فكان هذا التعبد تشديداً في التكليف، (والتشديد في التكليف) موجود.
قال تعالى:
{ { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 2].
والجواب: ليس في ظهور صوت من عجلٍ متخذٍ من الذهب شبهة أعظم مما في الشمس والقمر، والدليل الذي ينفي كون الشمس والقمر إلهاً أولى بأن ينفي كون العجل إلهاً، فحينئذ لا يكون حدوث العجل تشديداً في التكليف ولا يصح حمل الآية عليه، فوجب حمله على خلق الضلال فيهم.
وقوله: أضاف الإضلال إلى السَّامري. قلنا: أليس أن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسباب من الظاهر وإن كان الموجد هو الله - تعالى - فكذا هاهنا. وأيضاً قرىء "وَأَضَلُّهُم السَّامِرِيّ" أي: وأشد ضلاّلهم السامري، وعلى هذا لا يبقى للمعتزلة استدلال، ثم الذي يحسم مادة الشغب مسألة الداعي. قوله: "وَأَضَلَّهُم السَّامِرِي" العامة على أنه فعلٌ ماض مسند إلى السامري.
وقرأ أبو معاذ "وَأَضَلُّهُم" مرفوعاً بالابتداء، وهو أفعل تفضيل، و "السَّامِرِيُّ" خبره.
ومعنى "أَضَلَّهُمْ" أي: دَعَاهم وصَرفَهُم إلى عبادة العِجْل، وأضاف الإضلال إلى السَّامِرِيّ، لأنهم ضلوا بسببه. قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: كان السامري عِلْجاً من أهل كِرْمان وقع إلى مصر، وكان من قوم يعبدون البقر، والأكثرون على أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها: السَّامرة. قاله الزجاج.
وقال عطاء عن ابن عباس كان الرجلُ من القبطِ جاراً لموسى وقد آمن رُوِيَ أنهم أقاموا بعد مفارقة موسى عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيَّامِها، وقالوا قد أكملنا العدة، ثم كان أمر العجل بعد ذلك.
فإن قيل: كيف التوفيق بين هذا وبين قوله لموسى عند مقدمه { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ }.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه تعالى أخبر عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته كقوله:
{ { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [القمر: 1] { { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [الأعراف: 44] إلى غير ذلك.
الثاني: أنَّ السامري شرع في تدبير الأمر لما غاب موسى - عليه السلام - ثم رجع موسى إلى قومه بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة.