خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٨٣
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ
٨٤
-الأنبياء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } الآية.
قوله: "وَأَيُّوبَ" كقوله: "وَنُوحاً" [الأنبياء:76]وما بعده. وقرأ العامة "أَنِّي" بالفتح لتسلط النداء عليها بإضمار حرف الجر بأني. وعيسى بن عمر بالكسر فمذهب البصريين إضمار القول أي: نادى فقال: إني ومذهب الكوفيين أجرى النداء مجرى القول. والضُّرّ بالضم المرض في البدن وبالفتح الضرر في كل شيء فهو أعم من الأول.
فصل
قال وهب بن منبه: كان أيوب - عليه السلام - رجلاً من الروم، وهو أيوب بن أنوص بن زارح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران، وكان الله قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا، وكانت له البَثَنِيَّة من أرض الشام كلها سهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمر والبساتين ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدة والكثرة والأهل والولد من الرجال والنساء، وكان رحيماً بالمساكين يكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل. وكان معه ثلاثة نفر قد ءَامنوا به، وعرفوا فضله؛ قال: كان أحدهم من أهل اليمن يقال له: اليقن، ورجلان من أهل بلدة يقال لأحدهما: يلدد، والآخر ضافر، وكانوا كهؤلاء.
وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع الله عيسى، فحجب من أربع، فما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - حجب من الثلاث الباقية، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه فأدركه البغي والحسد، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه، فقال: إلهي نظرت في عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج من طاعتك. فقال الله - تعالى -: انطلق فقد سلطتك على ماله فانقض عدو إبليس حتى وقع إلى الأرض، ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين، وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب؟ فقال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار فأحرق كل شيء، فقال له إبليس: فأت الإبل ورعاتها فذهب فأتى الإبل حين وضعت رؤوسها وانبثت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصاراً من نار لا يدنو منه أحد إلا احترق، فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها. ثم جاء إبليس في زي بعض الرعاة إلى أيوب، فوجده قائماً يصلي، فقال: يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري فقال أيوب: الحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها، وقديماً وطّنْتُ نفسي ومالي على الفناء، فبقي الناس مبهوتين متعجبين، فمن قائل يقول: ما كان أيوب يعبد شيئاً، وما كان إلا في غرور. ومنهم مَنْ يقول: لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليه. ومنهم مَنْ يقول: هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه، ويفجع به صديقه فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أحشر إلى الله، ولو علم الله فيك خيراً أيها العبد لنقل روحك مع تلك الأرواح، وصرت شهيداً ولكنه علم منك شراً فأخرك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً، فقال لهم: ماذا عندكم من القوة، فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه. فقال له إبليس: فأت الغنم ورعاتها، فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاتها، ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي، فقال له مثل القول الأول، فرد عليه أيوب الرد الأول. فرجع إبليس صاغراً إلى أصحابه، فقال لهم: ما عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب؟ فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً أقلع كل شيء أتيت عليه.
فقال: اذهب إلى الحرث والفدادين، فأتاهم، فأهلكهم. ثم أتى إبليس متمثلاً إلى أيوب، فقال مثل قوله: فرد عليه أيوب الرد الأول. وكلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه ورضي عنه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال. فلما رأى إبليس صبره على ذلك وقف الموقف الذي كان يقفه عند الله. فقال: إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده، فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها المعصية التي لا تقوم لها قلوب الرجال؟ قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ولده. فأتى أولاد أيوب في قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتى قلب القصر عليهم. ثم جاء أيوب متمثلاً بالمعلم الذي يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه والرأس يسيل دمه ودماغه، فقال: لو رأيت بنيك حتى رَقَّ ايوب - عليه السلام - وبكى وقبض قبضة من التراب ووضعها على رأسه، وقال: ليت أمي لم تلدني، فاغتنم إبليس ذلك وصعد سريعاً، ووقف موقفه. ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فسبقت توبته إلى الله - تعالى - وهو أعلم. فوقف إبليس ذليلاً فقال: يا إلهي إنما هوّن على أيوب المال والولد لعلمه أنه يرى أنك متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده؟ فقال الله - عزَّ وجلَّ - انطلق فقد سلطتك على جسده، وليس لك على قلبه وعقله ولسانه سلطان، وكان الله - عزَّ وجلَّ - أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين، وذكرى للعابدين، وكل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر، ورجاء للثواب. فانْقَضّ عدو الله سريعاً، فوجد أيوب ساجداً، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه، فنفخ في منخره نفخة اشتعل فيها جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكّة لا يملكها، فكان يحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن، فأخرجوه أهل القرية وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشاً، ورفضه الناس كلهم إلا امرأته رحمة بن افرايم بن يوسف، فكانت تصلح أموره ويختلف إليه مما يصلحه. ثم إنَّ وَهْباً طول الحكاية إلى أن قال: إنَّ أيوب - عليه السلام - أقبل على الله - تعالى - متضرعاً إليه فقال: رب لأي شيء خلقتني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك عني ألم أكن للغريب داراً، وللمسكين قراراً، ولليتيم ولياً، وللمرأة قيماً، إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فَالمَنُّ لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء غرضاً، وللفتنة نصباً، وسلطت عليّ ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله، إلهي تقطعت أصابعي، وتساقطت لهواتي، وتناثر شعري، وذهب المال فصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها علي، ويعيرني بفقري وهلاك أولادي. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري -رحمه الله -: وفي جملة هذا الكلام ليتك إذا كرهتني لم تخلقني، ثم قال: ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنم إبليس بأن يحمله على الشكوى، وأن يخرجه عن حلية الصابرين، والله لم يخبر عنه إلا قوله { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وقال:
{ { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 44]. واختلف العلماء في السبب الذي قاله لأجله { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } "فروى ابن شهاب عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أيوب - عليه السلام - بقي في البلاء ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلاَّ رجلين كانا يغدوان ويروحان، فقال أحدهما للآخر ذات يوم: والله إن أيوب أذنب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين. فقال صاحبه: وما ذاك. فقال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله، ولم يكشف ما به. فلما راحا إلى أيوب لم يصبر حتى ذكر ذلك له. فقال أيوب: ما أدري ما يقولان غير أن الله - تعالى - يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق. وروي أنّ الرجلين لما دخلا عليه قالا: لو كان لأيوب عند الله منزلةً ما بلغ في هذه الحالة. فما شق على أيوب شيء مما بلي به أشد مما سمع منهما، وقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعاناً وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق. ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصي وأنا أعلم مكان عار فصدقني، فصدق. وهما يسمعان، ثم خرَّ أيوب ساجداً، ثم قال: اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي قال: فكشف الله ما به" .
وروى الحسن قال: مكث أيوب بعد ما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهراً، ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته رحمة، صبرت معه، وكانت تأتيه بطعام. وتحمد الله مع أيوب والصبر على ما ابتلاه، فصرخ إبليس صرخة جزعاً من أيوب، فاجتمع جنوده من أقطار الأرض، وقالوا له: ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فلم أدع له مالاً ولا ولداً، ولم يزدد بذلك إلا صبراً وحمداً، ثم سلطت على جسده فتركته ملقى في كناسة ما يقربه إلا امرأته، وهو مع ذلك لا يفتر عن الذكر والحمد، فاستغثت بكم لتعينوني، فأشيروا علي. قالوا: أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: فشأنك من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها، لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم. فانطلق حتى أتى امرأته، فتمثل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ فقالت: هو ذَا يَحُكُّ قُرُوحَهُ وتتردد الدواب في جسده. فلما سمعها طمع أن يكون ذلك جزعاً فوسوس إليها وذكرها ما كان لها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه.
قال الحسن: فصرخت، فلما صرخت علم أنها قد جزعت، فأتاها بسخلة فقال: ليذبح هذا أيوب لغير الله فيبرأ، قال: فجاءت تصرخ إلى أيوب تقول: حتى متى يعذبك ربك، ألا يرحمك، أين المال، أين الولد، أين الماشية، أين الصديق، أين الحسن، أين جسمك الذي قد بلي وصار مثل الرماد وتردد فيك الدواب، اذبح هذه السخلة واسترح؟ قال أيوب - عليه السلام -: أتاك عدو الله ونفخ فيك فأجبتيه، أما تذكرين ما كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانا ذلك؟ قالت: الله. قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذ كم ابتلانا بهذا البلاء؟ قالت سبع سنين قال: ما أنصفت ربك ألاَّ صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة، لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله، وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به، فطردها، فذهبت، فلما نظر أيوب في شأنه، وليس عنده طعام، ولا شراب، ولا صديق، وقد ذهبت امرأته، خَرَّ ساجداً، وقال: { رَبِّ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } فقال: ارفع رأسك فقد استجبت لك
{ { ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ } [ص: 42] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت، ثم ضرب برجله مرة أخرى، فنبعت عين أخرى، فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلاَّ خرج، وقام صحيحاً، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ما كان، ثم كسي حلة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والمال إلا وقد ضاعفه الله، حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب، فجعل يضمه بيده، فأوحى الله إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى، ولكن من يشبع من نعمك، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعاً وتأكله السباع، لأرجعن إليه فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة، ولا تلك الحال، وإذا الأمور قد تغيرت، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه، وتسأل عنه، فأرسل إليها أيوب، ودعاها، فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت، وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة. قال لها أيوب: ما كان منك، فبكت، وقالت: بعلي، قال أتعرفينه إذا رأيتيه، قالت: وهل يخفى علي فتبسم وقال: أنا هو. فعرفته بضحكه فاعتنقته، ثم قال: إنك أمرتيني أن أذبح لإبليس سخلة، وإني أطعت الله، وعصيت إبليس، ودعوت الله، فرد عليَّ ما ترين.
وروى الضحاك ومقاتل: أنّ أيوب بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات. وقال وهب: بقي في البلاء ثلاث سنين، فلما غلب أيوب - عليه السلام - إبليس ذهب إبليس - لعنه الله - إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والحسن والجمال، وعلى مركب ليس من مراكب الناس، فقال لها: أنت صاحبة أيوب، قالت: نعم. قال: فهل تعرفيني؟ قالت: لا. قال: فأنا إله الأرض، صنعت بأيوب ما صنعت، وذلك لأنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي. قال وهب: وسمعت أنه قال: لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله لعوفي مما في البلاء، وفي رواية أخرى قال لها: لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة لرجعت المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها. فقال لها أيوب - عليه السلام - أتاك عدو الله ليفتنك، ثم أقسم إن عافاه الله ليضربنها مائة سوط. فقال عند ذلك: "مَسَّنِيَ الضُّرُّ" يعني من طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي له، ودعائه إيَّاها وإيَّايَ إلى الكفر.
وفي رواية قال وهب: كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتأتيه بقوته، فلما طال عليه البلاء، وسئمها الناس، فلم يستعملوها، فالتسمت ذات يوم شيئاً من الطعام، فلم تجد شيئاً، فجزت قرنها من رأسها فباعته برغيف، فأتته، فقال لها: أين قرنك؟ فأخبرته بذلك. فحينئذ قال: "مَسَّنِيَ الضُّرُّ". وفي رواية قال إسماعيل السّدّيّ: لم يقل أيوب "مَسَّنِيَ الضُّرُّ" إلا لأشياء ثلاثة:
أحدها: قول الرجل له: لو كان عملك خالصاً لما أصابك ما أصابك.
والثاني: كانت لامرأته ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداهن فقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزاً ولحماً، وجاءت إلى أيوب، فقال: من أين هذا؟ قالت: كُلْ فإنَّهُ حلال. فلما كان من الغد لم تجد شيئاً فباعت الثانية، وكذلك فعلت في اليوم الثالث، وقالت: كُلْ فإنَّه حلال، فقال لا آكل ما لم تخبريني، فأخبرته، فبلغ ذلك من أيوب ما الله أعلم به. وقيل: إنما باعت، لأن إبليس تمثل لقومه في صورة بشر، وقال: لئن تركتم أيوب في قريتكم فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فأخرجوه إلى باب البلد، ثم قال لهم: إنَّ امرأته تدخل في بيوتكم وتعمل وتمس زوجها، فأقول: إنَّه يتعدى إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها.
والثالث: حين قالت له امرأته ما قالت. وفي رواية: قيل: سقطت دودة من فخذه فردها إلى موضعها، وقال: قد جعلني الله طعمة لك، فعضته عضة شديدة. فقال: "مَسَّنِيَ الضُّرُّ". وأوحى الله إليه: لولا أني جعلت تحت كل شعرة صبراً لما صبرت.
فصل
طعنت المعتزلة في هذه القصة من وجوه:
الأول: قال الجبائي: ذهب بعض الجهال إلى أن ما كان به من المرض كان فعلاً للشيطان سلطه عليه لقوله تعالى عنه
{ { مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَٰنُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ص: 41]. وهذا جهل أما أولاً: فإنه لو قدر على إحداث الأمراض والأسقام وضدها من العافية لتهيأ له فعل الأجسام، ومن هذا حاله يكون إلهاً. وأما ثانياً: فلأن الله تعالى أخبر عنه وعن جنوده بأن قال: { { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي } [إبراهيم: 22] فالواجب تصديق خبر الله - تعالى - دون الرجوع إلى وهب بن منبه. وهذا اعتراض ضعيف، لأن المذكور في الحكاية أنَّ الشيطان نفخ في منخره فوقعت الحكة فيه. فلم قلتم: إنَّ القادر على النفخة التي تولد منها هذه الحكة لا بدَّ وأن يكون قادراً على خلق الأجسام، وهذا إلا محض التحكم. وأما التمسك بالنصّ فضعيف، لأنه إنَّما يقدم على هذا الفعل مع علمه أنه لو أقدم عليه لما منعه الله تعالى. وهذه الحالة لم تحصل إلا في حق أيوب - عليه السلام - من أنه استأذن الله فأذن له، وإن كان كذلك لم يكن بين ذلك النص وبين هذه الحكاية مناقضة.
وثانيها: قالوا: ما روي أنه - عليه السلام - لم يسأل إلا عند أمور مخصوصة. فبعيد، لأنّ الثابت في العقل أنه يحسن من المرء أن يسأل ذلك ربه ويفزع إليه كما يحسن منه المداواة، وإذا جاز أن يسأل ربه عند الغم بما يراه من أهله جاز أيضاً أن يسأل ربه من قبل نفسه. فإن قيل: أفلا يجوزون أنه تعالى تعبده بأن لا يسأل الكشف إلا في آخر أمره. قلنا: يجوز ذلك بأن يعلمه أن إنزال ذلك بعد مدة مخصوصة من مصالحه ومصالح غيره لا محالة، فعلم عليه السلام أنه لا وجه للمسألة في هذا الأمر الخاص، فإذا قرب الوقت جاز أن يسأل ذلك من حيث يجوز أن يدوم ويجوز أن ينقطع.
وثالثها: قالوا: انتهاء ذلك المرض إلى حد التنفير غير جائز على الأنبياء.
فصل
اعلم أنه - عليه السلام - ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب. فإن قيل: أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابراً.
فالجواب: قال سفيان بن عيينة: ولو شكى إلى الله فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله إذ ليس من شرطه استحلاء البلاء، ألم تسمع قول يعقوب:
{ { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ } [يوسف: 86].
قوله: { وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } وذلك أنَّ كلَّ من يرحم غيره فإمَّا أن يرحمه طلباً للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو للرقة الجنسية في الطبع، فيكون مطلوب ذلك الراحم حظ نفسه، وأما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير طلب زيادة أو نقصان من الثناء، ومن صفات الكمال فهو أرحم الراحمين. وأيضاً فكل من رحم غيره فإنما ذلك بمعونة رحمة الله، لأن من أعطى غيره طعاماً أو ثوباً أو دفع عنه بلاء فلولا الله - سبحانه - خلق المطعوم والملبوس والأدوية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء ولولا فضل الله لما حصل النفع النفع بذلك، فإذن رحمة العباد مسبوقة برحمة الله، وملحوقة برحمته، فما بين الطرفين كالقطرة في البحر، فوجب أن يكون أرحم الراحمين. وأيضاً فلولا أن الله - تعالى - خلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور تلك الرحمة عنه، فكان الراحم في الحقيقة هو الحق سبحانه لأنه هو الذي أنشأ تلك الداعية فكان تعالى أرحم الراحمين. فإن قيل: كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام، وسلط البعض على البعض بالإيذاء، وكان قادراً على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وايذائه؟
فالجواب: أن كونه - سبحانه - ضاراً لا ينافي كونه راحماً بل هو الضار النافع فإضراره ليس لدفع مشقة، ونفعه لي لجلب منفعة، بل لا يسأل عما يفعل.
قوله: "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ" يدل على أنه دَعَا ربَّه لكن هذا الدعاء يجوز أن يكون وقع منه على سبيل التعريض، كما يقال: إن رأيت لو أردت أو أجبت فافعل كذا، ويجوز أن يكون على سبيل التصريح لإزالة ما به من ضر. وبيّن تعالى أنه آتاه أهله، ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد وغيرهما قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والحسن والكلبي وكعب: إن الله تعالى أحيا له أهله، يعني أولاده بأعيانهم، وأعطاه مثلهم معهم وهو ظاهر القرآن.
قال الحسن: آتاه الله المثل من نسل ماله الذي رده إليه وأهله، ويدل عليه ما روى الضحاك عن ابن عباس: أن الله رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكراً. قال وهب: كان له سبع بنات وثلاثة بنين.
وقال ابن يسار: كان له سبعة بنين وسبع بنات. وروي عن أنس يرفعه: أنه كان له أندران أندر للقمح وأنذر للشعير، فبعث الله سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض.
"وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَاناً خَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فجعل أيّوب يَحْثى في ثوبه، فناداه ربُّه: يا أيوب ألم أكن أَغْنَيْتُكَ عَمَّا ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى عن بركتك" وروى الليث قال: أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال: قيل لأيوب إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا، فقال: يكونون لي في الآخرة وأوتي مثلهم في الدنيا فعلى هذا يكون معنى الآية "وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ" في الآخرة "وَمثلَهُمْ مَعَهُمْ" في الدنيا. وأراد بالأهل الأولاد. فأما الذين أهلكوا فإنَّهم لم يردوا عليه في الدنيا.
قوله: "رَحْمَةً" فيها وجهان:
أظهرهما: أنها مفعول من أجله.
والثاني: أنها مصدر لفعل مقدر، أي: رحمناه رحمةً.
و "مِنْ عِنْدِنَا" صِفَة لـ "رَحْمَةً".
قوله: "وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ" أي: فعل به تلك الرحمة، وهي النعمة لكي يتفكروا فيه بالذكر، ويتعظون فيعتبرون. وخص العابدين، لأنهم المنتفعون بذلك.