خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ
٣٠
حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
٣١
ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ
٣٢
-الحج

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ } الآية. "ذَلِكَ" خبر مبتدأ مضمر، أي: الأمر والشأن ذلك، قال الزمخشري: كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني، فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا، وقد كان كذا. وقدره ابن عطية: فرضكم ذلك أو الواجب ذلك. وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، أي ذلك الأمر الذي ذكرته. وقيل: في محل نصب أي: امتثلوا ذلك. ونظير هذه الإشارة قول زهير بعد تقدم جمل في وصف هرم بن سنان:

3762- هذَا وَلَيْسَ كَمنْ يَعْيَا بَخُطَّتِهِ وَسْطَ النَّدِيّ إِذَا نَاطِقٌ نَطَقَا

والحرمة ما لا يحلّ هَتْكُه، وجمييع ما كلفه الله بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج.
وعن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمشعر الحرام. وقال ابن زيد: الحرمات ههنا: البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، (والإحرام).
وقال الليث: حرمات الله ما لا يحل انتهاكها.
وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه.
قوله: "فهو"هُو" ضمير المصدر المفهوم من قوله: "وَمَنْ يُعَظّم"، أي؛ فتعظيم حرمات الله خير له، كقوله تعالى:
{ { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [المائدة: 8] و"خير" هنا ظاهرها التفضيل بالتأويل المعروف ومعنى التعظيم: العلم بوجوب القيام بها وحفظها.
وقوله: "عِنْدَ رَبِّهِ" أي: عند الله في الآخرة. وقال الأصم: فهو خير له من التهاون.
قوله: { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } ووجه النظم أنه كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضاً تَحْرُم، فبيَّن تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها، ثم استثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم في سورة المائدة في قوله:
{ { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [المائدة: 1]، وقوله: { { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام: 121].
قوله: { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } يجوز أن يكون استثناء متصلاً، ويصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام لسبب عارض كالموت ونحوه. وأن يكون استثناءً منقطعاً؛ إذ ليس فيها محرم وقد تقدم تقرير هذا أول المائدة.
قوله: "مِنَ الأَوْثَانِ". في "مِنْ" ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها لبيان الجنس، وهو مشهور قول المعربين، ويقدر بقولك الرجس الذي هو الأوثان. وقد تقدم أن شرط كونها بيانية ذلك ويجيء مواضع كثيرة لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضه.
والثاني: أنها لابتداء الغاية.
قال شهاب الدين: وقد خلط أبو البقاء القولين فجعلهما قولاً واحداً. فقال: و"مِنْ" لبيان الجنس، أي: اجتنبوا الرجس من هذا القبيل وهو معنى ابتداء الغاية ههنا يعني أنه في المعنى يؤول إلى ذلك ولا يؤول إليه البتة.
الثالث: أنها للتبعيض. وقد غلّط ابن عطية القائل بكونها للتبعيض فقال: ومن قال إن "من" للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده. وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس عبادة الأوثان، وبه قال ابن عباس وابن جريج فكأنه قال: فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغيره مما لم يحرم الشرع استعماله، فللوثن جهات منها عبادتها وهي بعض جهاتها. قاله أبو حيان. والأوثان جمع وثن، والوثن يطلق على ما صُوِّر من نحاس وحديد وخشب ويطلق أيضاً على الصليب،
"قال عليه السلام لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً: أَلْقِ هذَا الوَثَنَ عَنْكَ" . وقال الأعشى:

3763- يَطُوفُ العُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ كَطَوْفِ النَّصَارَى ببَيْتِ الوَثَنْ

واشتقاقه من وَثن الشيء، أي أقام بمكانه وثبت فهو واثن، وأنشد لرؤبة:

3764- عَلَى أَخِلاَّءِ الصَّفَاءِ الوُثَّنِ

أي: المقيمين على العهد، وقد تقدم الفرق بين الوثن والصَّنم.
فصل
قال المفسرون: { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } أي؛ عبادتها، أي كونوا على جانب منها فإنها رجس، أي سبب رجس وهو العذاب، والرجس بمعنى الرجز.
وقال الزجاج: "مِن" ههنا للتجنيس، أي اجتنبوا الأوثان التي هي الرجس { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ }. واعلم أنه تعالى لما حَثّ على تعظيم حرماته أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور، لأن توحيد الله وصدق القول أعظم الحرمات، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد، لأن الشرك من باب الزور، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا شيئاً منه، وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان. وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس، ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. قال الأصَمّ: إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في القربان أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها. وهذا بعيد، وإنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً.
والزور من الازورار وهو الانحراف كما أن الإفك (من أَفِكه إذا صرفه) وذكر المفسرون في قول الزور وجوهاً:
الأول: قولهم: هذا حلال وهذا حرام، وما أشبه ذلك.
والثاني: شهادة الزور؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح فلما سلم قام قائماً، واستقبل الناس بوجهه، وقال:
"عدلت شهادة الزور الإشراك بالله" وتلا هذه الآية.
الثالث: الكذب والبهتان.
الرابع: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
قوله: "حُنَفَاءَ لِلَّهِ" حال من فاعل "اجْتَنِبوا"، وكذلك "غَيْرَ مُشْرِكِين" وهي حال مؤكدة إذ يلزم من كونهم "حنفاء" عدم الإشراك أي مخلصين له، أي تمسكوا بالأوامر والنواهي على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به، فلذلك قال { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ }. ثم قال: { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: سقط من السماء إلى الأرض.
قوله: "فَتَخْطَفُهُ". قرأ نافع بفتح الخاء والطاء مشددة، وأصلها تختطفه فأدغم. وباقي السبعة "فتَخْطَفُه" بسكون الخاء وتخفيف الطاء. وقرأ الحسن والأعمش وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد. وروي عن الحسن أيضاً بفتح الطاء مشددة مع كسر التاء والخاء. وروي عن الأعمش كقراءة العامة إلا أنه بغير فاء "تخطفه" وتوجيه هذه القراءات قد تقدم في أوائل البقرة عند قوله:
{ { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ } [البقرة: 20]. وقرأ أبو جعفر "الرياح" جمعاً.
وقوله: "خَرّ" في معنى (تخر)، ولذلك عطف عليه المستقبل وهو "فتَخْطَفُه".
ويجوز أن يكون على بابه ولا يكون "فَتَخْطَفُهُ" عطفاً عليه بل هو خبر مبتدأ مضمر أي: فهو تخطفه. قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيهاً مركباً، فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال مَنْ خَرّ من السماء فاختطفته الطير فتفرق مُزَعاً في حواصلها، أو عصفت به الرياح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة.
وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. والسحيق البعيد، ومنه: سَحَقَهُ الله، أي: أبعده، ومنه قول عليه السلام:
"سُحْقاً سُحْقاً" أي بُعْداً بُعْداً. والنخلة السحوق الممتدة في السماء من ذلك.
قوله تعالى: { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ } الآية. إعراب "ذَلِك" كإعراب "ذَلِكَ" المتقدم وتقدم تفسير الشعيرة واشتقاقها في المائدة. والمعنى: ذلك الذي ذكرت من اجتناب الرجس، وقول الزور، وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب.
قال ابن عباس: شعائر الله البُدْن والهدايا. وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هَدْي، وتعظيمها استحسانها واستسمانها. وقيل: شعائر الله أعلام دينه.
وقيل: مناسك الحج.
قوله: { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ }. أي: فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى (من) ليرتبط به، وإنما ذكرت القلوب، لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه وقلبه خال عنها، فلهذا لا يكون مجدّاً في الطاعات، وأما المخلص الذي تمكنت التقوى من قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص.
واعلم أن الضمير في قوله: { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه ضمير الشعائر على حذف مضافه، أي: فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
والثاني: أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل قبله، أي: فإن التعظيم من تقوى القلوب والعائد على اسم الشرط من هذه الجملة الجزائية مقدر تقديره: فإنها من تقوى القلوب منهم. ومن جوَّز إقامة (أل) مقام الضمير - وهم الكوفيون -، أجاز ذلك هنا، والتقدير: من تقوى قلوبهم كقوله:
{ { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 41]. والعامة على خفض "القلوب"، وقرئ برفعها، فاعلة للمصدر قبلها وهو "تقوى".