خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٣٣
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ
٣٤
ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلَٰوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ
٣٥
-الحج

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي: في الشعائر بمعنى الشرائع، أي: لكم في التمسك بها. وقيل: في بهيمة الأنعام، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك. ورواه مقسمٌ عن ابن عباس. وعلى هذا فالمنافع درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهرها إلى أجل مسمى، وهو أن يسميها ويوجبها هدياً؛ فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها.
وروي عن ابن عباس أن في البدن منافع مع تسميتها هدياً بأن تركبوها إن احتجتم إليها، وتشربوا لبنها إن احتجتم إليه، إلى أجل مسمّى إلى أن تنحروها. وهذا اختيار الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وهو أَوْلى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
"مَرَّ برجلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً وهو في جهد، فقال عليه السلام: ارْكَبْهَا. فقال يا رسول الله إنها هدي. فقال: ارْكَبْهَا ويلك. قال عليه السلام: اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهراً" . واحتج أبو حنيفة على أنه لا يملك من منافعها بأنه لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكاً لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات. وأجيب بأن هذا قياس في معارضة النص فلا عبرة به، وأيضاً فإن أم الولد لا يملك بيعها ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا. ومن حمل المنافع على سائر الواجبات يقول: "لَكُمْ فِيهَا" أي: في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده.
والأول قول جمهور المفسرين لقوله: { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } أي: لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافعِ محلها إلى البيت العتيق، أي: وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله
{ { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [المائدة: 95].
وقوله: "مَحِلُّهَا" يعني حيث يحل نحرها، وأما "البيت العتيق" فالمراد به الحرم كله لقوله:
{ { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [التوبة: 28] أي: الحرم كله، فالمنحر على هذا القول مكة، ولكنها نزهت عن الدماء إلى منى، ومنى من مكة قال عليه السلام: "كل فجاج مكة منحر، (وكل فجاج منى منحر)" . قال القفال: هذا إنما يختص بالهدايا التي تبلغ منى، فأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محلها موضعه.
ومن قال: الشعائر المناسك فإن معنى قوله: { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } أي: محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة (يوم النحر).
قوله تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } الآية. قرأ الأخوان هذا وما بعده "منسِكاً" بالكسر. والباقون بالفتح.
فقيل: هما بمعنى واحد، والمراد بالمنسك مكان النسك أو المصدر. وقيل: المكسور مكان، والمفتوح مصدر.
قال ابن عطية: والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب. قال شهاب الدين: وهذا الكلام منه غير مرضي، كيف يقول: ويشبه أن يكون الكسائي سمعه. والكسائي يقول: قرأت به. فكيف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى السماعات، وهو روايته لذلك قرأنا متواتراً. وقوله: من الشاذ: يعني قياساً لا استعمالاً فإنه فصيح في الاستعمال، وذلك أن فعل يفعُل بضم العين في المضارع قياس الفعل منه أن يفتح عينه مطلقاً، أي: سواء أريد به الزمان أم المكان أم المصدر، وقد شذت ألفاظ ضبطها النحاة في كتبهم مذكورة في هذا الكتاب.
فصل
"وَلِكُلِّ أُمَّةٍ" (أي: جماعة مؤمنة سلفت قبلكم من عهد إبراهيم عليه السلام "جَعَلْنَا مَنْسَكاً") أي ضرباً من القربان، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه عند ذبحها ونحرها فقال: { لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } أي: عند الذبح والنحر لأنها لا تتكلم. وقال: "بَهِيمة الأَنْعَام" قيد بالنعم، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير لا يجوز ذبحها في القرابين، وكانت العرب تسمي ما تذبحه للصَّنَم العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة.
قوله: { فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } في كيفية النظم وجهان:
الأول: أن الإله واحد، وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح.
والثاني: { فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } لا تذكروا على ذبائحكم غير اسمه. "فَلَهُ أَسْلِمُوا" انقادوا وأطيعوا، فمن انقاد لله كان مخبتاً فلذلك قال بعده "وَبَشِّر المُخْبِتِينَ".
قال ابن عباس وقتادة: المخبت المتواضع الخاشع وقال مُجاهد: المطمئن إلى الله. والخبت المكان المطمئن من الأرض. قال أبو مسلم: حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض تقول: أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال: أنجد وأَتْهَمَ وأشَأم.
وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم. وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون وإذا ظُلِموا لم ينتصروا.
قوله: { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }. يجوز أن يكون هذا الموصول في موضع جر أو نصب أو رفع، فالجر من ثلاثة أوجه: النعت للمخبتين، أو البدل منهم، أو البيان لهم. والنصب على المدح. والرفع على إضمارهم وهو مدح أيضاً، ويسميه النحويون قطعاً.
والمعنى: إذا ذكر الله ظهر عليهم الخوف من عقاب الله والخشوع والتواضع لله، والصابرين على ما أصابهم من البلايا والمصائب من قبل الله، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن، فأما ما يصيبهم من قبل الظَّلَمة فالصبر عليه غير واجب بل لو أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة.
قوله: "والمُقِيْمي الصَّلاَةِ" في أوقاتها. والعامة على خفض "الصَّلاَة" بإضافة المقيمين إليها.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية بنصبها على حذف النون تخفيفاً كما تحذف النون لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن مسعود والأعمش بهذا الأصل "والمُقِيْمِينَ الصَّلاة" بإثبات النون ونصب الصلاة. وقرأ الضحاك: "والمُقِيْم الصَّلاَة" بميم ليس بعدها شيء. وهذه لا تخالف قراءة العامة لفظاً وإنما يظهر مخالفتها لها وقفاً وخطاً. ثم قال: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي: يتصدقون فهم خائفون خاشعون متواضعون لله مشتغلون بخدمة ربهم بالبدن والنفس والمال.