خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ
٤٢
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
٤٣
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
٤٤
-المؤمنون

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ } أي: أقواماً آخرين. قيل: المراد قصة لُوط، وشعيب، وأيوب، ويوسف - صلوات الله عليهم أجمعين -، والمعنى: أنه ما أخلى الديار من المكلفين. { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } (مِنْ) صلة كأيّ: ما تَسْبِقُ أمة أجلها وقت هلاكها. وقيل: آجال حياتها وتكليفها. قال أهل السنة: هذه الآية تدل على أن المقتول ميّت بأجله، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدّم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص.
قوله: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } في "تَتْرَى" وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب على الحال من "رُسُلنَا"، يعني: متواترين أي: واحداً بعد واحد، أو متتابعين على حسب الخلاف في معناه. وحقيقته: أنه مصدر واقع موقع الحال.
والثاني: أنه نعت مصدر محذوف، تقديره: إرسالاً تَتْرَى، أي: متتابعاً أو إرسالاً إثر إرسال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر، وهي قراءة الشافعي "تَتْرًى" بالتنوين، ويقفون بالألف، وباقي السبعة "تَتْرَى" بألف صريحة دون تنوين، والوقف عندهم يكون بالياء، ويميله حمزة والكسائي، وهو مثل غَضْبَى وسَكْرَى، ولا يميله أبو عمرو في الوقف، وهذه هي اللغة المشهورة. فمن نَوّن فله وجهان:
أحدهما: أنَّ وزن الكلمة فَعْلٌ كفَلْس فقوله: "تَتْرًى" كقولك: نصرته نَصْراً؛ ووزنه في قراءتهم "فَعْلاً". وقد رُدَّ هذا الوجه، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب على رائه، فيقال: هذا تَتْرٌ، ورأيتُ تَتْراً، ومررت بتترٍ، نحو: هذا نصرٌ، ورأيت نصراً، ومررت بنصرٍ، فلمّا لم يحفظ ذلك بَطَلَ أن يكون وزنه (فَعْلاً).
الثاني: أنّ ألفه للإلحاق بِجَعْفَر، كهي في أَرْطَى وَعَلْقَى، فلما نُوّن ذهبت لالتقاء الساكنين وهذا أقرب مما قبله، ولكنه يلزم منه وجود ألف الإلحاق في المصادر، وهو نادر (ومن لم يُنوّن، فله فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الألف بدل من التنوين في حالة الوقف.
والثاني: أنها للإلحاق كأَرْطَى وعَلْقَى).
الثالث: أنها للتأنيث كدَعْوَى، وهي واضحة.
فتحصّل في ألفه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من التنوين في الوقف.
الثاني: أنها للإلحاق.
الثالث: أنها للتأنيث.
واختلفوا فيها هل هي مصدر كَدَعْوَى و"ذِكْرَى"، أو اسم جمع كـ "أَسْرَى" و"شَتَّى"؟ كذا قاله أبو حيان. وفيه نظر: إذ المشهور أن "أَسْرَى" و"شَتَّى" جمعا تكسير لا اسما جمع. وتاؤها في الأصل واو لأنها من المواترة، والوتر، فقلبت تاء كما قلبت تاء في "تَوْرِيَة"، وتَوْلَج، وتَيْقُور، وتخمة وتراث، وتجاه فإنه من الوَرْي والولُوج، والوَقَار، والوَخَامَة، والورَاثة، والوَجه. واختلفوا في مدلولها، فعن الأصمعي: واحداً بعد واحد وبينهما هُنَيْهَة وقال غيره: هو من المُوَاتَرَة، وهي التتابع بغير مُهْلَة. وقال الراغب: والتوَاتُر تَتَابُع الشيء وِتْراً وفُرَادَى، قال تعالى: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى }. والوَتِيرة: السَّجية والطريقة، يقال: هم على وَتِيرةٍ واحدةٍ. والتِّرَةُ: الذَّحْلَ والوَتِيرة: الحاجز بن المنخرين.
قوله: { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } أي: أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدّم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة، ولذلك قال: { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } بالإهلاك.
قوله: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } قيل: هو جمع حديث، ولكنه شاذ. والمعنى: سَمَراً وقصصاً يحدث من بعدهم بأمرهم، ولم يبق منهم عين ولا أثر إلا الحديث الذي يعتبر به.
وقيل: بل هو جمع أُحْدُوثة، كأُضْحُوكة وأُعْجُوبَة، وهو ما يتحدث به الناس تَلهياً وتَعَجُّباً.
وقال الأخفش: لا يقال ذلك إلا في الشر ولا يقال في الخير وقد شذت العرب في ألفاظ، فجمعوها على صيغة (أفَاعيل) كأباطيل وأقاطيع. وقال الزمخشري: الأحاديث يكون اسم جمع للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حيان: و (أفاعيل) ليس من أبنية اسم الجمع، فإنما ذكره النحاة فيما شذ من الجموع كقَطِيع وأقَاطِيع، وإذا كان عَبَادِيد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد، فأحرى أحاديث وقد لفظ له بواحد وهو حديث فاتضح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرنا. ثم قال تعالى: { فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } وهذا دعاء، وذم، وتوبيخ، وذلك وعيد شديد.