خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ
٩٧
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ
٩٨
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ
٩٩
لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٠٠
-المؤمنون

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } الآية لما أدَّب رسوله بقوله: { { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [المؤمنون: 96] أتبعه بما يقوي على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين:
أحدهما: من همزات الشياطين. والهَمَزَاتُ جمع همزَة، وهي النخسة والدفع بيدٍ وغيرها، وهي كالهزِّ والأزّ، ومنه مِهْمَازُ الرائض، والمِهْمَاز مفْعَالٌ من ذلك كالمِحْرَاث من الحَرْث والهَمَّازُ الذي يصيب الناس، كأنه يدفع بلسانه وينخس به.
فصل
معنى "أعُوذُ بِكَ" أمتنع وأعتصم بك { مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } نزعاتهم وقال الحسن: وساوسهم. وقال مجاهد: نفخهم ونفثهم. وقال أهل المعاني: دفعهم بالإغواء إلى المعاصي. قال الحسن: كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة:
"لا إله إلاّ الله ثلاثاً، الله أكبر ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من هَمَزَاتِ الشياطين هَمْزِهِ ونَفْثِه ونَفْخِه.
فقيل: يا رسول الله ما همزه؟ قال: الموتة التي تأخذ ابن آدم أي: الجنون. قيل: فَمَا نَفْثه؟ قال: الشعْر قيل: فما نفخُه؟ قيل: الكِبْر"
.
والثاني: قوله: { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } أي: في شيء من أموري، وإنما ذكر الحضور، لأن الشيطان إذا حَضَر وسوس.
قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } الآية في (حَتَّى) هذه أوجه:
أحدها: أنها غاية لقوله: "بِمَا يَصِفُونَ".
والثاني: أنها غاية "لِكَاذِبُونَ".
ويبين هذين الوجهين قول الزمخشري: "حَتَّى" يتعلق بـ "يَصِفُونَ" أي: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد. ثم قال: أو على قوله: "وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ". قال شهاب الدين: قوله: (أو على قوله كذا) كلام محمول على المعنى، إذ التقدير: "حَتَّى" معلقة على "يَصِفُونَ" أو على قوله: "لَكَاذِبُونَ" وفي الجملة فعبارته مشكلة.
الثالث: قال ابن عطية: "حَتَّى" في هذا الموضع حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف، والأوَّل أبْيَن، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود (ذكره).
قال أبو حيان: فتوهم ابن عطية أن "حَتَّى" إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية، وهي وإن كانت حرف ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر.
وقال أبو البقاء: (حَتَّى) غاية في معنى العطف. قال أبو حيّان: والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون "حَتَّى" غاية لها يدل عليها ما قبلها، التقدير: فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جَاءَ، ونظير حذفها قول الشاعر:

3806- فَيَا عَجَباً حَتَّى كُليْبٌ تسُبُّني

أي: يسبني الناس كُلهم حتى كليب إلاَّ أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة.
قوله: { رَبِّ ٱرْجِعُونِ }. في قوله: "ارْجِعُونِ" بخطاب الجمع ثلاثة أوجه:
أجودها: أنه على سبيل التعظيم كقوله:

3807- فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا

وقال الآخر:

3808- أَلاَ فَارْحَمُونِي يَا إلهَ مُحَمَّدٍ

وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال: إنه لم نعلم أحداً أجاز للداعي أن يقول: يَا رَحْيَمُون قال: لئّلا يُوهم خلاف التوحيد، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله: { { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
الثاني: أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله: "ارْجِعُونِ". ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف، أي: ملائكة ربي، فحذف المضاف ثم التفت إليه في عود الضمير كقوله:
{ { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [الأعراف: 4]. ثم قال: { { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [الأعراف: 4] التفاتاً لـ "أهل" المحذوف.
الثالث: أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال: ارْجعنِي ارجعنِي نقله أبو البقاء وهو يشبه ما قالوه في قوله:
{ { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ق: 24] أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثنّى الفعل للدلالة على ذلك، وأنشدوا:

3809- قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِل

أي: قف قف.
فصل
اعلم أنّه تعالى أخبر أنَّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ (قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ) } ولم يقل: ارجعني، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب. وقال الضحّاك: كنت جالساً عند ابن عباس فقال: مَنْ لَمْ يُزَكِّ ولم يَحُج سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل: إنما يسأل ذلك الكفار. فقال ابن عباس: أنا أقرأ عليك به قرآناً
{ { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } [المنافقون: 10].
وقال عليه السلام:
"إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول: { رَبِّ ٱرْجِعُونِ لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ }" .
واختلفوا في وقت مسألة الرجعة، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل: بل عند معاينة النار في الآخرة، وهذا القائل إنَّما ترك ظاهر هذه الآية لمَّا أخبر الله - تعالى - عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة.
قوله: { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } أي: ضيّعتُ. أي: أقول لا إله إلاَّ الله.
وقيل: أعمل بطاعة الله تعالى. وقيل: أعمل صالحاً فيما قصّرتُ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية، وهذا أقرب، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه. فإن قيل: قوله تعالى: { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً } كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك.
فالجواب: ليس المراد بـ "لَعَّلَ" الشك فإِنَّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما سأل، فهو مِثْل من قَصّر في حق نفسه، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير، فيقول: مكنُونِي من التدارك لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك.
ويحتمل أيضاً أنَّ الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردُوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى:
{ { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [الأنعام: 28].
قوله: "كَلاَّ" كلمة ردع وزجر أي: لا ترجع. معناه المنع طلبوا، كما يقال لطالب الأمر المُسْتبعد: هَيْهَات. ويحتمل أن يكون ذلك إخباراً بأنهم يقولون ذلك، وأنّ هذا الخبر حق، فكأنّه تعالى قال: حقاً إنّها كلمة هو قائلها. والأول أقرب.
قوله: "إِنَّهَا كَلِمةٌ" من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد" يعني قوله:

3810- أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِل

وقد تقدم طرف من هذا في آل عمران. و"هُوَ قَائِلُهَا" صفة لـ "كَلِمَة".
والمراد بالكلمة: سؤاله الرجعة: كلمة هو قائلها ولا ينالها، وقيل: معناه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه.
قوله: "وَمِنْ وَرَائِهِمْ" أي: أمامهم وبين أيديهم. "بَرْزَخٌ" البرزخ: الحاجز بين المسافتين وقيل: الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر، وهو بمعنى الأَوّل.
وقال الراغب: أصلة برْزَه بالهاء فعُرّب، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.
قال مجاهد: حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. (وقال قتادة: بقيّة الدنيا).
قال الضحاك: البرزخ ما بين الموت إلى البعث. وقيل: القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون.