خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً
٥٩
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً
٦٠
-الفرقان

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } الآية. لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور منها: أنه حي لا يموت، وأنه عالم بجميع المعلومات بقوله { { وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 58] ومنها أنه قادر على كل الممكنات، وهو قوله: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وهذا متصل بقوله: { { ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [الفرقان: 58] لأنه سبحانه لما كان خالقاً للسموات والأرض ولكل ما بينهما ثبت أنه القادر على جميع المنافع ودفع المضار، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه. و"الَّذِي خَلَقَ" يجوز أن يكون مبتدأ، و"الرَّحْمَنُ" خبره، وأن يكون خبر مبتدأ مقدر، أي: هو الذي خلق، وأن يكون منصوباً بفعل مضمر، وأن يكون صفة للحي الذي لا يموت، أو بدلاً، أو بياناً هذا على قراءة "الرَّحْمَنُ" بالرفع ومن قرأه بالجر فيتعين أن يكون "الَّذِي خَلَقَ" صفة للحي فقط.
قوله: { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } فيه سؤال، وهو أن الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات فقيل السموات لا أيام، فكيف قال: خلقها في ستة أيام؟
والجواب: في مدة مقدارها (هذه المدة)، لا يقال: الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدماً محضاً بل لا بد وأن يكون موجوداً فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان، لأنا نقول: هذا معارض بنفس الزمان، لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل بخمسة أيام والمدة المتوهمة المحتملة لخمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى، فلما لم يلزم من هذا قدم الزمان لم يلزم ما قلتموه، وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولاً ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام. وقيل: في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة. وهو بعيد، لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول. فإن قيل: لم قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار؟
فالجواب على قول أهل السنة المشيئة والقدرة كافية للتخصيص، وقالت المعتزلة: لا بد وأن يكون من حكمة وهو أن التخصيص بهذا المقدار أصلح، وهذا بعيد لوجهين:
الأول: أن حصول تلك الحكمة إما أن يكون واجباً لذاته أو جائزاً، فإن كان واجباً وجب أن لا يتغير فيكون حاصلاً في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سبباً لزمان معين، وإن كان جائزاً افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر، ولزم التسلسل.
والثاني: أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعوراً به كيف يقدح في حصول المصالح.
واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة، فإنه بحر لا ساحل له، كتقدير ملائكة النار بتسعة عشر، وحملة العرش بثمانية، والسموات بالسبع، وعدد الصلوات، ومقادير النصب في الزكوات، وكذا في الحدود، والكفارات، فالإقرار بكل ما قال الله حق هو الدين، والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء، وقد نص الله على ذلك في قوله تعالى:
{ { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } [المدثر: 31] ثم قال: { { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [المدثر: 31]، وهو الجواب أيضاً في أنه لِمَ لَمْ يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك. وعن سعيد بن جبير: إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت. وقيل: ثم خلقها في يوم الجمعة فجعله الله عيداً للمسلمين.
قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } لا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة؛ لأن أوصاف الله لم تزل، فلا يصح دخول "ثُمَّ" فيه. ولا على الاستقرار، لأنه يقتضي التغيير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب، وكل ذلك على الله محال، بل المراد أنه خلق العرش ورفعه.
فإن قيل: يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى:
{ { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } [هود: 7].
فالجواب: كلمة "ثُمَّ" ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات.
قوله: "الرَّحْمَنُ" قرأ العامة بالرفع، وفيه أوجه:
أحدها: أنه خبر "الَّذِي"، أو خبر مبتدأ مضمر، أي: الرحمن، ولهذا أجاز الزجاج وغيره الوقف على العرش ثم يبدأ الرحمن، أي: هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له، أو يكون بدلاً من الضمير في "استوى" أو يكون مبتدأ وخبره الجملة من قوله "فَاسْأَلْ" على رأي الأخفش كقوله:

3879- وَقَائِلَةٍ خُوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ

أو يكون صفة الذي خلق، إذا قلنا: إنه مرفوع.
وقرأ زيد بن علي "الرَّحْمَنِ" بالجر فيتعين أن يكون نعتاً للذي خلق و"الَّذِي خَلَقَ" صفة للحي فقط، لئلا يفصل بين النعت ومنعوته بأجنبي.
قوله: "فَاسْأَلْ بِهِ" في الباء قولان: أحدهما: هي على بابها، وهي متعلقة بالسؤال، والمراد بـ "الخَبِير" الله تعالى، ويكون من التجريد، كقولك: لقيت به أسداً والمعنى فاسأل الله الخبير بالأشياء.
قال الزمخشري: أو فاسأل بسؤاله خبيراً كقولك: رأيت به أسداً، أي برؤيته انتهى. قال الكلبي: فاسأل خبيراً به، فقوله: "به" يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والاستواء على العرش، والباء من صلة الخبير، وذلك الخبير هو الله تعالى؛ لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق السموات والأرض، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى، فـ "خَبِيراً" مفعول "اسْأَل" على هذا، أو منصوب على الحال المؤكدة، واستضعفه أبو البقاء. قال: ويضعف أن يكون "خَبِيراً" حالاً من فاعل "اسْأَلْ"؛ لأن "الخبير" لا يسأل إلا على جهة التوكيد كقوله:
{ { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً } [البقرة: 91]. ثم قال: ويجوز أن يكون حالاً من "الرَّحْمَنُ" إذا رفعته بـ "اسْتَوَى". والثاني: أن تكون الباء بمعنى "عن" إما مطلقاً وإما مع السؤال خاصة كهذه الآية الكريمة، وكقول علقمة بن عبدة:

3880- فإنْ تَسَْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإنَّنِي خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ

والضمير في "بِهِ" لله تعالى، و"خَبِيراً" من صفات الملك وهو جبريل قال ابن عباس: إن ذلك الخبير هو جبريل - عليه السلام - وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم وهو قول الزجاج والأخفش. ويجوز على هذا أي: كون "خَبِيراً" من صفات جبريل، أن تكون الباء على بابها، وهي متعلقة بـ "خبير" كما تقدم، أي: فاسأل الخبراء به.
وقال ابن جرير: الباء في "بِهِ" صلة، والمعنى: فاسأله خبيراً و"خَبِيراً" نصب على الحال. وقيل: قوله: "بِهِ" يجري مجرى القسم كقوله:
{ { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ } [النساء: 1].
قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ } الآية. قال أكثر المفسرين: الرحمن اسم من أسماء الله مكتوب في الكتب المتقدمة والعرب ما عرفوه.
قال مقاتل:
"إن أبا جهل قال: إن الذي يقول محمد شعر، فقال عليه السلام: الشعر غير هذا إن هذا إلا كلام الرحمن، فقال أبو جهل: بخ بخ لعمري والله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة هو يعلمك، فقال عليه السلام: الرحمن الذي في السماء ومن عنده يأتيني الوحي، فقال: يا أبا غالب من يعذرني من محمد يزعم أن الله واحد وهو يقول: الله يعلمني والرحمن، ألستم تعلمون أنهما إلهان" . قال القاضي: والأقرب أن مرادهم إنكار الله لا الاسم، لأن هذه اللفظة عربية وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام، ثم إن قلنا: إنهم كانوا منكرين (لله كان قولهم): "وَمَا الرَّحْمَن" سؤال عن الحقيقة كقول فرعون: { { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 23]، وإن قلنا: إنهم كانوا مقرين بالله لكنهم جهلوا كونه تعالى مسمى بهذا الاسم كان قولهم "وَمَا الرَّحْمَن" سؤال عن هذا الاسم.
قوله: { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } قرأ الأخوان بياء الغيبة، يعنون محمداً كأن بعضهم قال لبعض: أنسجد لما يأمرنا محمدٌ أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو. والباقون بالخطاب، يعني لما تأمرنا أنت يا محمد.
و"ما" يجوز أن يكون بمعنى (الذي)، والعائد محذوف لأنه متصل؛ لأن (أمر) يتعدى إلى الثاني بإسقاط الحرف، ولا حاجة إلى التدرج الذي ذكره أبو البقاء وهو أن الأصل: لما تأمرنا بالسجود له، ثم بسجوده، ثم تأمرناه، ثم تأمرنا، كذا قدره، ثم قال: هذا على مذهب أبي الحسن وأما على مذهب سيبويه فحذف ذلك من غير تدريج. قال شهاب الدين: وهذا ليس مذهب سيبويه. ويجوز أن تكون موصوفة، الكلام في عائدها موصوفة كهي موصولة ويجوز أن تكون مصدرية، وتكون اللام للعلة، أي: أنسجد من أجل أمرك وعلى هذا يكون المسجود له محذوفاً، أي: أنسجد للرحمن لما تأمرنا، وعلى هذا لا تكون "ما" واقعة على العالم، وفي الوجهين الأوليين يحتمل ذلك وهو المتبادر للفهم.
قوله: "وَزَادَهُمْ نُفُوراً" قول القائل لهم اسجدوا للرحمن. نفوراً عن الدين والإيمان. ومن حقه أن يكون باعثاً على الفعل والقبول، قال الضحاك: سجد الرسول وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعثمان بن مظعون وعمرو بن عنبسة، ولما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين من هذا، وهو المراد من قوله "وَزَادَهُمْ نُفُوراً" أي: فزادهم سجودهم نفوراً.