خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ
٢٠٥
ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ
٢٠٦
مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ
٢٠٧
وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ
٢٠٨
ذِكْرَىٰ وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ
٢٠٩
-الشعراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "أَفَرَأيْتَ" تقدم تحقيقه وقد تنازع "أَفَرَأَيْتَ" و "جَاءَهُمْ" في قوله: { مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } فإن أعملت الثاني وهو "جَاءَهُمْ" رفعت به "مَا كَانُوا" فاعلاً به، ومفعول "أَرَأَيْتَ" الأول ضميره، ولكنه حذف، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية في قوله: { مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ }، ولا بدَّ من رابط بين هذه الجملة وبين المفعول الأول المحذوف، وهو مقدر تقديره: أفرأيت ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم تمتُّعهم حين حلَّ، أي: الموعود به، ودلَّ على ذلك قوة الكلام.
وإن أعملت الأول نصبت به { مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } وأضمرت في "جَاءَهُمْ" ضميره فاعلاً به، والجملة الاستفهامية مفعول ثانٍ أيضاً، والعائد مقدر على ما تقرر في الوجه قبله، والشرط معترض، وجوابه محذوف، وهذا كله مفهوم مما تقدم في سورة الأنعام وإنما ذكرناه هنا لأنه تقديرٌ (عَسِرٌ يحتاج) إلى تأمل. وهذا كله إنما يتأتى على قولنا: "مَا" استفهامية، ولا يضير تفسيرهم لها بالنفي، فإن الاستفهام قد يرد بمعنى النفي. وأما إذا جعلتها نافية حرفاً، كما قاله أبو البقاء فلا يتأتي ذلك، لأنَّ مفعول "أَرَأَيْتَ" الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كما تقرر. قوله: { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } كثيرة في الدنيا، يعني كفار مكة، ولم نهلكهم { ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } يعني: العذاب { مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } في تلك السنين، أي: إنهم وإن طال تمتعهم بنعم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن طول التمتع عنهم شيئاً، ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط.
قوله: { مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ } يجوز أن تكون "مَا" استفهامية في محل نصب مفعولاً مقدماً، و "مَا كَانُوا" هو الفاعل، و "مَا" مصدرية بمعنى: أيُّ شَيْءٍ أغنى عنهم كونهم متمتعين. وأن تكون نافية، والمفعول محذوف، أي: لَمْ يُغْنِ عنهم تمتعهم شيئاً. وقرىء "يُمْتَعُونَ" بإسكان الميم وتخفيف التاء من: أمْتَعَ اللَّهُ زَيداً بكذا.
قوله: { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } يجوز أن تكون الجملة صفة لـ "قَرْيَةٍ" وأن تكون حالاً منها. وسوغ ذلك سبق النفي. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد "إلاَّ" ولم تعزل عنها في قوله:
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [الحجر: 4]؟ قلت: الأصل عزل الواو، لأنَّ الجملة صفة لـ "قَرْيَةٍ" وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف: 22]. قال أبو حيان: ولو قدرنا "لَهَا مُنْذِرُونَ" جملة لم يجز أن تجيء صفة بعد (إلاَّ)، ومذهب الجمهور أنه لا تجيء الصفة بعد "إلاَّ" معتمدة على أداة الاستثناء، نحو: مَا جَاءَنِي أحدٌ إلاَّ رَاكِبٌ، وإذا سمع مثل هذا خرّجوه على البدل، أي: إلاَّ رجل راكب، ويدل على صحة هذا المذهب أنَّ العرب تقول: ما مررت بأحدٍ إلاَّ قائماً ولا يحفظ عنهم "إِلاَّ قَائِم" يعني: بالجر، فلو كانت الجملة صفة بعد "إلاَّ" (لَسُمِعَ الجَرُّ) في هذا.
وأيضاً فلو كانت الجملة صفة للنكرة لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد "إِلاَّ". يعني نحو: مَا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ إِلاَّ العَاقِلِ.
ثم قال: فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد "إلاَّ" نحو: ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمرٍو، والتقدير: ما جاءني أحدٌ خيرٌ من عمرٍو إلاَّ زيدٌ.
وأمَّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف فغير معهود في عبارة النحويين، لو قلت: جاءني رجلٌ وعاقلٌ. لم يجز، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على بعض وتغاير مدلولها، نحو: "مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الشجاع والشاعر". وأما
{ وثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف: 22] فتقدم الكلام عليه.
قال شهاب الدين: أما كون الصفة لا تقع بعد (إلاَّ) معتمدةً فالزمخشري يختار غير هذا، فإنَّها مسألة خلافية، وأما كونه لم يقل (إلاَّ قائماً) بالنصب دون "قَائِم" بالجر فذلك على أحد الجائزين، وليس فيه دليل على المنع من قسيمه. وأما قوله: فغير معهود في كلام النحويين. فممنوع، هذا ابن جنِّي نصَّ عليه في بعض كتبه، وأما إلزامه أنها لو كانت الجملة صفة بعد (إلاَّ) للنكرة، لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد (إلاَّ) فغير لازم، لأنَّ ذلك مختص بكون الصفة جملة، وإذا كانت جملة تعذر كونها صفة للمعرفة، وإنَّما اختص ذلك بكون الصفة جملة، لأنها لتأكيد وصل الصفة والتأكيد لائق بالجمل.
وأمَّا قوله: لو قلت: جاءني رجلٌ وعاقلٌ. لم يجز، فمسلَّم، ولكن إنما امتنع ذلك في الصفة المفردة لئلا يلبس أإن الجائي اثنان: رجلٌ وآخر عاقلٌ، بخلاف كونها جملة فإنَّ اللبس منتفٍ، وقد تقدم (الكلام في)
{ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ } الكهف: 22].
قوله: "ذِكْرَى" يجوز فيها أوجه:
أحدها: أنها مفعول من أجله، وإذا كانت مفعولاً من أجله ففي العامل فيها وجهان: أحدهما: "مُنْذِرُونَ" على أنَّ المعنى: منذرون لأجل الموعظة والتذكرة.
الثاني: "أَهْلَكْنَا".
قال الزمخشري: والمعنى: وَمَا أَهْلَكْنَا من أهل قريةٍ ظالمين إلاَّ بعد ما ألزمناهم الحجَّة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون تذكرة وعبرةً لغيرهم، فلا يعصون مثل عصيانهم: ثم قال: وهذا الوجه عليه المُعَوَّل. قال أبو حيان: وهذا لا معوَّل عليه، فإنَّ مذهب الجمهور أنَّ ما قبل إلاَّ لا يعمل فيما بعدها إلاَّ أن يكون مستثنى أو مستثنى منه، أو تابعاً له غير معتمدٍ على الأداة نحو: ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمرٍو. والمفعول له ليس واحداً من هذه.
ويتخرَّج مذهبه على مذهب الكسائي والأخفش، وإن كانا لم ينصَّا على المفعول له بخصوصيته. قال شهاب الدين: والجواب ما تقدم قبل ذلك من أنه يختار مذهب الأخفش.
الثاني من الأوجه الأول: أنها في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هذه ذكرى، وتكون الجملة اعتراضية.
الثالث: أنها صفة لـ "مُنْذِرُونَ" إمَّا على المبالغة، وإمَّا على الحذف، أي: مُنْذِرُونَ ذوو ذكرى، أو على وقوع المصدر وقوع اسم الفاعل. أي: منذرون مذكِّرون. وتقدم تقريره.
الرابع: أنها ي محل نصب على الحال، اي: مذكِّرين، أو ذوي ذكرى، أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة.
الخامس: أنها منصوبة على المصدر المؤكد، وفي العامل فيها حينئذ وجهان:
أحدهما: لفظ "مُنْذِرُونَ" لأنه من معناها، فهما كـ (قَعَدْتُ جُلُوساً).
والثاني: أنه محذوف من لفظها، أي: يُذَكِّرُونَ ذكرى، وذلك المحذوف صفة لـ "مُنْذِرُونَ".
قوله: { وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } في تعذيبهم، حيث قدمنا الحجة عليهم، وأعذرنا إليه، أو: ما كنا ظالمين فنهلك قوماً غير ظالمين.