خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ
٢٠
لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٢١
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
٢٢
إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
٢٣
وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ
٢٤
أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
٢٥
-النمل

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ } الآية "تَفَقَّدَ الطَّيْرَ": طلبها وبحث عنها، والتفقد طلب ما فقد، والمعنى طلب ما فقد من الطير، واختلفوا فيما تفقده من أجله، فقيل: لأنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها، وقيل: لأن هندسة الماء كانت لديه، وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة وكان يعرف قربه وبعده في عمق الأرض. قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق: يا وصاف، انظر ما يقول: إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ، حتى يقع في عنقه، فقال له ابن عباس: ويحك إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر، وهذا القول فيه نظر، لأن الجن أعرف بالأرض من الهدهد، فإنهم سكانها، وقيل: لأنه كان يظله من الشمس.
قوله: { مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ }، هذا استفهام توقيف ولا حاجة إلى ادعاء القلب وأن الأصل: ما للهدهد لا أراه؟ إذ المعنى قوي دونه، والهدهد معروف، وتصغيره على هديهد، وهو القياس، وزعم بعض النحويين أنه تقلب ياء تصغيره ألفاً، فيقال: هداهد، وأنشد:

3945 - كَهُدَاهِــدٍ كَسَــرَ الرُّمَــاةُ جَنَاحَــهُ يَدْعُــوا بِقَارِعَــةِ الطَّرِيــقِ هَدِيــلاً

كما قالوا: دُوَابَّة وشُوَابَّة، في: دُوَيْبَة وشُوَيْبَة، ورده بعضهم بأن الهداهد الحمام الكثير ترجيع الصوت. تزعم العرب أن جارحاً في زمن الطوفان اختطف فرخ حمامة تسمى الهديل، قالوا: فكل حمامة تبكي فإنما تبكي على الهديل.
قوله: "أم كان"، هذه "أم" المنقطعة، وتقدم الكلام فيها، وقال ابن عطية: قوله { مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ } مقصد الكلام: الهدهد غاب، ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله "مَا لِيَ" ناب مناب الألف التي تحتاجها "أم"، قال أبو حيان: فظاهر كلامه أن "أم" متصلة، وأن الاستفهام الذي في قوله: "ما لي" ناب مناب ألف الاستفهام، فمعناه: أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل، ولم أشعر بغيبته؟.
قال شهاب الدين: ولا يظن بأبي محمد ذلك، فإنه لا يجهل أن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام أو التسوية لا مطلق الاستفهام.
قوله: "عذاباً"، أي تعذيباً، فهو اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد كـ
{ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17]، وقد كتبوا: "أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ" بزيادة ألف بين لام ألف والذال، ولا يجوز أن تُقْرَأ بها، وهذا كما تقدم أنهم كتبوا: { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } [التوبة: 47] بزيادة ألف بين لام ألف والواو.
قوله: "أو لَيَأْتِينِّي"، قرأ ابن كثير بنون التوكيد المشددة بعدها نون الوقاية، وهذا هو الأصل، واتبع مع ذلك رسم مصحفه، والباقون بنون مشددة فقط، والأظهر أنها نون التوكيد الشديدة، توُصِّلَ بكسرها لياء المتكلم، وقيل: بل هي نون التوكيد الخفيفة أدغمت في نون الوقاية، وليس بشيء لمخالفة الفعلين قبله، وعيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة لم يصلها بالياء.
فصل
قال المفسرون: معنى الآية: ما للهدهد لا أراه، تقول العرب: ما لي أراك كئيباً؟ فقال: ما لي لا أرى الهدهد، على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه، ثم أدركه الشك في غيبته فقال: أم كان من الغائبين، يعني أكان من الغائبين؟ والميم صلة، وقيل: أم بمعنى بل، ثم أوعد على غيبته، فقال: { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً }، فقيل: بنتف ريشه ووضعه لهوام الأرض، وقيل: بحبسه في القفص، وقيل: بأن يفرق بينه وبين إلفه، وقيل: بحبسه مع ضده، { أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } حُجَّة ظاهرة.
قوله: "فَمَكَثَ" قرأ عاصم بفتح الكاف، والباقون بضمها، وهما لغتان، إلا أن الفتح أشهر، ولذلك جاءت الصفة على ماكث، دون مكيث، واعتذر عنه بأن فاعلاً قد جاء لفَعُل بالضم، نحو: حَمُضَ فهو حامض، وخَثُر فهو خاثر، وفَرُهَ فهو فاره.
قوله: "غَيْرَ بعِيدٍ"، يجوز أن يكون صفة للمصدر، أي مكثاً غير بعيد، وللزمان أي: زماناً غير بعيد، وللمكان أي: مكاناً غير بعيد، والظاهر أن الضمير في مكث للهدهد، وقيل: لسليمان - عليه السلام - فقال: { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ }، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، يقول: علمت ما لم تعلم، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك.
قوله: "مِنْ سَبَأ"، قرأ البزِّيّ، وأبو عمرو بفتح الهمزة، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة، فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث، وعليه قوله:

3946 - مِـنْ سَبَـأَ الحَاضِـرِينَ مَـأْربَ إِذْ يَبْنُـونَ مِـنْ دُون سَيْلِـهِ العَرِمَـا

وقرأ قُنْبُل بسكون الهمزة، كأنه نوى الوقف وأجرى الوصل مجراه، والباقون بالجر والتنوين، جعلوه اسماً للحيِّ او المكان، وعليه قوله:

3947 - الـوَارِدُونَ وَتَيْـمٌ فِـي ذُرَى سَبَـأٍ قَـدْ عَـضَّ أَعْنَاقَهُـمْ جِلْـدُ الجَوَامِيـسِ

وهذا الخلاف جارٍ بعينه في سورة سبأ.
وفي قوله: { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } فيه من البديع التجانس، وهو: تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف كهذه الآية، ومثله:
{ تَفْرَحُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [غافر: 75].
وفي الحديث:
"الخَيْلُ مَعْقُود بِنَواصِيهَا الخَيْرُ" وقال آخر:

3948 - لِلَّـهِ مَـا صَنَعَــتْ بِنَــا تِلْـكَ المَعَاجِـرُ وَالمَحَاجِــرْ

وقال الزمخشري: وقوله { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو يصنعه عالم بجوهر هذا الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هنا زائداً على الصحة، فحسن وبدع لفظاً ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان: "بنبأ": "بخبر" لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
يريد بالزيادة: أن النبأ أخص من الخبر، لأنه لا يقال إلا فيما له شأن من الأخبار، بخلاف الخبر، فإنه يطلق على ما له شأن، وعلى ما لا شأن له، فكلّ نبأ خبر من غير عكس. وبعضهم يعبر عن نحو: { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } في علم البديع بالترديد، قاله صاحب التحرير، وقال غيره: إن الترديد عبارة عن رد أعجاز البيوت على صدورها، أو ردّ كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، فمثال الأول قوله:

3949 - سَـرِيـعٌ إِلَـى ابْـنِ العَـمِّ يَلْطـمُ وَجْهَـهُ وَلَيْـسَ إلَـى دَاعِـي الخَنَـا بِسَرِيــعِ

ومثال الثاني قوله:

3950 - وَاللَّيَـالِـي إِذَا نَأَيْتُـمْ طِـوَالٌ واللَّيَالِـي إذَا دَنَوْتُـمْ قِصَـارُ

وقرأ ابن كثير في رواية: "مِنْ سباً" مقصوراً منوناً، وعنه أيضاً: "مِنْ سَبْأَ" بسكون الباء وفتح الهمزة، جعله على فَعْل ومنعه من الصرف، لما تقدم. وعن الأعمش: "من سَبَإِ" بهمزة مكسورة غير منونة، وفيها إشكال؛ إذ لا وجه للبناء، والذي يظهر أن تنوينها لا بد وأن يقلب ميماً وصلاً، ضرورة ملاقاته للباء، فسمعها الراوي؛ فظن أنه كسر من غير تنوين. وروي عن أبي عمرو: "مِنْ سَبَا" بالألف صريحة، كقولهم: تفرقوا أيدي سبا. وكذلك قرىء "بِنَبَا" بألف خالصة، وينبغي أن يكونا لقارىء واحد وسبأ في الأًصل: اسم رجل من قحطان، واسمه: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسبأ لقب له، وإنما لقب به: لأنه أول من سبأ.
قوله: { إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } لما قال الهدهد لسليمان: { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ }، قال سليمان: وما ذاك؟ قال: { إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن من نسل يعرب بن قحطان، وكان ملكاً عظيم الشأن، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها، وفي الحديث: "إن أحد أبوي بلقيس كان جنِّياً" وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس، والضمير في "تملكهم" راجع إلى "سبأ"، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريد المدينة فمعناه: تملك أهلها، قال عليه السلام لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى:
"لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة" .
قوله: { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } يجوز أن يكون معطوفاً على "تَمْلِكُهُمْ"، وجاز عطف الماضي على المضارع، (لأن المضارع) بمعناه، أي: ملكتهم، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من مرفوع "تملكهم". و "قَدْ" معها مضمرة عند من يرى ذلك.
وقوله: { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } عام مخصوص بالعقل؛ لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان. قوله: "وَلَهَا عَرْشٌ" يجوز أن تكون هذه جملة مستقلة بنفسها سيقت للإخبار بها، وأن تكون معطوفة على "أُوتِيَتْ"، وأن تكون حالاً من مرفوع "أُوتِيَتْ"، والأحسن أن يجعل الحالَ الجارُّ، "وعَرْشٌ" مرفوع به، وبعضهم يقف على "عَرْشٌ" ويقطعه عن نعته. قال الزمخشري: ومن نَوْكى القُصَّاصِ من يقف على قوله: "وَلَهَا عَرْشٌ"، ثم يبتدىء، "عَظِيمٌ وَجَدْتها"، يريد: أمرٌ عظيم أَنْ وجدتها، فرَّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيم، وهي مسخ كتاب الله.
قال شهاب الدين: النَّوكَى: الحمقى جمع أَنْوَك وهذا الذي ذكره من أمر الوقف نقله الدّاني عن نافع وقرره أبو بكر بن الأنباري ورفعه إلى بعض أهل العلم، فلا ينبغي أن يقال (نَوْكَى القُصَّاص)، وخرجه الداني على أن يكون "عَظِيمٌ" مبتدأ، و "وَجَدْتُهَا" الخبر، وهذا خطأ، كيف يبتدىء بنكرة من غير مسوِّغ، ويخبر عنها بجملة لا رابط بينهما وبينه، والإعراب ما قاله الزمخشري من أن عظيماً صفة لمحذوف خبراً مقدماً، و "وَجَدْتُهَا" مبتدأ مؤخراً مقدراً معه حرف مصدري أي: أمر عظيم وجداني إياها وقومها غير عابدي الله.
قوله: "وَجَدْتُهَا"، هي التي بمعنى لقيت وأصبت، فيتعدى لواحد، فيكون "يَسْجُدُونَ" حالاً من مفعولها وما عطف عليه، فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان، وأيضاً: فكيف سوَّى بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟.
فالجواب عن الأول: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش ويجوز أن يكون لسليمان - مع جلالته - مثله كما قد يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله للسلطان.
وعن الثاني: أنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، وَوَصْفُ عرشِ اللَّهِ بالعظم تعظيمٌ له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض.
قال المفسرون: العرش السرير الضخم كان مضروباً من الذهب مكلّلاً بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق.
قال ابن عباس: كان عرشها ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً. واعلم أن قوله:
{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } [النمل: 26] إن قلنا: إنه من كلام الهدهد، فالهدهد قد استدرك على نفسه، واستقلّ عرشها بالنسبة إلى عظمة عرش الله، وإن قلنا: إنه من كلام الله تعالى، فالله رد عليه استعظامه لعرشها.
فصل
طعنت الملاحدة في هذه القصة من وجوه:
أحدها: أَنَّ هذه الآيات اشتملت على أنَّ النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك إلاَّ عن العقلاء وذلك يجر إلى السَّفْسَطَة، فإنَّا لو جوَّزنا ذلك لما أمِنّا من النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أَنْ تكون أعلم بالهندسة من إقليدس، وبالنحو من سيبويه، وكذا القول في القملة والضئبان، ولجوزنا أن يكون فيهم الأنبياء والمعجزات والتكاليف، ومعلوم أنَّ مَنْ جوّزه كان إلى الجنون أقرب.
وثانيها: أنَّ سليمان - عليه السلام - كان بالشام، فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن، ثم رجع إليه؟.
وثالثها: كيف خفي على سليمان (عليه السلام)؟ تلك المملكة العظيمة مع أنَّ الجن والإنس كانوا في طاعته، وأنه - عليه السلام - كان ملك الدنيا كلها، وكان تحت طاعة بلقيس - على ما يقال - اثنا عشر ألف تحت يد كل واحد منهم مائة ألف، مع ما يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلاَّ مسيرة ثلاثة أيام؟
رابعها: من أين حصل للهدهد إنكار سجودهم للشمس وإضافته للشيطان وتزيينه؟
والجواب عن الأول: أنّ ذلك الاحتمال قائم في أول العقل، وإنما يدفع ذلك بالإجماع. وعن البواقي: أنَّ الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك.
فصل
قالت المعتزلة: قوله { يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } يدل على أنَّ فعل العبد من جهته، لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم، وأورده مورد الذم، وبين أنهم لا يهتدون.
والجواب من جوه:
أحدها: أَنَّ هذا قول الهدهد فلا يكون حجة.
وثانيها: أنه متروك الظاهر: فإنه قال: { فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ }، وعندكم الشيطان، فإنه ما صدّ الكافر عن السبيل، إذ لو صدّه الشيطان عن السبيل لكان معذوراً ممنوعاً، فيسقط عنه التكليف فلم يبق إلاَّ التمسك بالمدح والذم، وجوابه قد تقدم.
قوله: "ألاَّ يَسْجُدُوا" قرأ الكسائي بتخفيف "أَلاَ"، والباقون بتشديدها، فأمَّا قراءة الكسائي، "أَلاَ" فيها تنبيه واستفتاح، و "يَا" بعدها حرف نداء، أو تنبيه أيضاً على ما سيأتي، و "اسْجُدُوا": فعل أمرٍ، فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون يَا اسجُدُوا، ولكن الصحابة أسقطوا ألف "يَا" وهمزة الوصل من "اسْجُدُوا" خَطاً لما سقط لَفْظاً، ووصلوا الياء بسين "اسْجُدُوا"، فصارت صورته "يَسْجُدُوا" كما ترى، فاتحدت القراءتان لفظاً وخطّاً، واختلفا تقديراً. واختلف النحويون في "يَا" هذه، هل هي حرف تنبيه أو للنداء والمنادى محذوف، تقديره: يَا هَؤُلاَءِ اسْجُدُوا، وقد تقدم ذلك عند قوله في سورة النساء: "يَا لَيْتَنِي" والمُرَجَّحُ أَنْ تكون للتنبيه، لِئَلاَّ يؤدي إلى حذفٍ كثير من غير بقاءِ ما يدلّ على المحذوف، ألا ترى أنَّ جملة النداء حذفت، فلو ادَّعَيْتَ حَّذْفَ المنَادى كَثُرَ الحذف، ولم يبق معمولٌ يدل على عامله؛ بخلاف ما إذا جعلتَها للتنبيه. ولكن عَارَضنا هنا أَنَّ قبلها حرف تنبيه آخر، وهو "أَلا" وقد اعتُذِر عن ذلك بأنه جُمِعَ بينهما تأكيداً، وإذا كانوا قد جمعوا بين حرفن عاملين للتأكيد، كقوله:

3951 - فَأَصْبَحْـنَ لاَ يَسْأَلْنْنِـي عَـنْ بِمَـا بِـهِ

فغير العاملين أولى، وأيضاً فقد جمعوا بين حرفين عاملين مُتّحدي اللفظ والمعنى كقوله:

3952 - فَـلاَ وَاللَّـهِ لاَ يُلْفَـى لِمَـا بِـي وَلاَ لِلمـا بِهِـمْ أَبَـداً دَوَاءُ

فهذا أولى، وقد كثر مباشرة "يا" لفعل الأَمر، وقبلها "أَلاَ" التي للاستفتاح، كقوله:

3953 - أَلاَ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّمِ

وقوله:

3954 - أَلاَ يَا اسْلَمِي دَارَ مَيٍّ عَلَى البِلَى وَلاَ زالَ مُنْهَلاًّ بِجَرْعَائِـكَ القَطْـرُ

وقوله:

3955 - أَلاَ يا اسْلَمِي ذَات الدَّمَالِيـجِ وَالعُقَـد وذات اللثاث الحُمِّ والفَاحِمِ الجَعْـدِ

وقوله:

3956 - أَلاَ يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ وَإِنْ كَانَ حَيَّانا عِدًى آخِرَ الـدَّهْـرِ

وقوله:

3957 - أَلاَ يَـا اسْقِيَـانِي قَبْلَ خَيْـلِ أَبِـي بَكْـر لَعَلَّ مَنَايانَا قَرُبـنَ ولاَ نَـدْرِي

وقوله:

3958 - أَلاَ يـا اسْقِيانِي قَبْلَ غَـارَةٍ سنجـال

وقوله:

3959 - فَقَالَـتْ أَلاَ يَا اسْمَـعْ أَعِظْـكَ بخطبـةٍ وقلتُ سمِعْنَـا فَانطِقِـي وأَصِيبِي

وقد جاء ذلك وإن لم يكن قبلها "أَلاَ"، كقوله:

3960 - يـا دَارَ هِنْـدٍ يَـا اسْلَمِـي ثُـمَّ اسْلَمِـي بِسَمْسَـمٍ أَوْ عَـنْ يَمِيـنِ سَمْسَـمِ

فعلم أنه قراءة الكسائي قوية، لكثرة دَوْرِها في لغتهم، وقد سمع ذلك في النَّثْر، سُمِعَ بَعْضُهم يقول: أَلاَ يَا ارحَمُوني، أَلاَ يا تصدَّقُوا علينا، وأما قوله:

3961 - يَا لَعْنَةُ اللَّهِ والأَقْوَامِ كُلِّهِم والصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جِارِ

فيحتمل أن تكون "يَا" للنداء، والمنادى محذوف، وأن يكون للتنبيه، وهو الأرجح لِمَا مَرَّ. واعلم أَنَّ الوقف عند الكسائي على "يَهْتَدُونَ" تام، وله أن يقف على "أَلاَ يَا" معاً، ويبتدىء "اسْجُدُوا" بهمزة مضمومة. وله أن يقف على "أَلاَ" وحدها، وعلى "يَا" وحدها، لأنهما حرفان منفصلان وهذا الوقفان وقفاً اخْتبارٍ لا اختيار، لأنهما حرفان لا يتم معناهما إلاَّ بما يتصلان به، وإنما فعله القراء امتحاناً وبياناً. فهذا توجيه قراءة الكسائي، والخَطْبُ فيها سهل. وأما قراءة الباقين فتحتاج إلى إِمْعَان نظرٍ، وفيها أوجه كثيرة:
أحدها: أنَّ "أَلاَّ" أصلها: أَنْ لا، فأَنْ ناصبة للفعل بعدها، ولذلك سقطت نون الرفع، و "لاَ" بعدها حرفُ نَفْي، وأَنْ وما بعدها في موضع مفعول "يَهْتَدُونَ" على إسقاط الخافض أي: إلى أَنْ لا يسجُدُوا، و "لاَ" مزيدة كزيادتها في:
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [الحديد: 29]، والمعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا.
الثاني: أنه بدل من "أَعْمَالَهُمْ" وما بينهما اعتراض تقديره: وزَيَّنَ لهم الشيطانُ عدم السجود لله.
الثالث: أنه بدل من "السَّبِيلِ" على زيادة "لاَ" أيضاً، والتقدير: فَصَدَّهُمْ عن السجود لله.
الرابع: أَنَّ "أَلاَّ يَسْجُدُوا" مفعولاً له، وفي متعلّقه وجهان:
أحدهما: أنه "زَيَّنَ" أي: زيَّنَ لهم لأجل أَلاَّ يسجدوا.
والثاني: انها متعلق بـ "صَدَّهُمْ"، أي: صَدَّهُمْ لأجل أن لاَ يسجُدُوا، وفي "لاَ" حينئذٍ وجهان:
أحدهما: انها ليست مزيدة (بل باقية على معناها من النفي.
والثاني: أنها مزيدة) والمعنى: وزيَّنَ لهم لأجل توقعه سجودهم، أو لأجل خوفه من سُجُودهم، وعدم الزيادة أظهر.
الخامس: أنه خبرأ مبتدأ مضمر، وهذا المبتدأ إما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على "أَعْمَالَهُمْ"، والقدير هي ألا يسجدوا، فتكون "لاَ" على بابها من النفي، وإما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على "السَّبِيل"، التقدير: هو أن لا يسجدوا، فتكون "لاَ" مزيدة - على ما تقدم - ليصح المعنى.
وعلى الأوجه الأربعة المتقدمة لا يجوز الوقفُ على "يَهْتَدُونَ"، لأنَّ ما بعده إمَّا معمول له أو لِمَا قبله من "زَيَّنَ" و صَدَّ" أو بدل مما قبله أيضاً من "أَعْمَالَهُمْ" أو من "السَّبِيل" على ما قُرِّرَ، بخلاف الوجه الخامس، فإنه مَبنيٌّ على مبتدأ مضمر، وإنْ كان ذلك الضمير مُفَسراً بما سبق قبله، وقد كتبت "أَلاَّ" موصولة غير مفصولة، فلم تُكْتَبْ "أَنْ" منفصلة من "لاَ"، فمن ثَمَّ: امتنع أن يُوقَف هؤلاء في الابتلاء والامتحان على "أَنْ" وحدها، لاتصالها بلا في الكتابة، بل يُوقَف لهم على "أَلاَّ" بجملتها، كذا قال القُرَّاءُ، والنحويون متى سُئِلوا عن مثل ذلك وقفوا لأجل البيان على كل كلمةٍ على حدتها. لضرورة البيان، كونها كُتِبَت متصلة بـ "لا" غير مانعٍ من ذلك. ثُمَّ قول القُرَّاءِ: كتبت متصلة فيه تجوُّزٌ وتسامُح، لأَنَّ حقيقة هذا أن يُثْبِتُوا صورة نُونٍ ويصلونها بلاء، فيكتبونها "أَنْلاَ"، ولكن لما أدغمت فيما بعدها لفظاً، وذهب لفظها إلى لفظ ما بعدها قالوا ذلك تسامحاً. وقد رتَّبَ أبو إسحاق على القراءتين حُكْماً، وهو وجوب سجود التلاوة وعدمه، فَأَوْجَبَهُ مع قراءة الكسائي، وكأنه لأجل الأمرِ بِهِ، ولم يوجبه في قراءة الباقين لعدم وجود الأمر فيها، إِلاَّ أَنَّ الزمخشري لم يرتضه منه، فإنه قال: فَإِنْ قُلْتَ: أَسَجدةُ التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً أو في واحدة منهما؟ قُلْتُ: هي واجبة فيهما. وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك، وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد مرجوع إليه.
قال شهاب الدين: وكأن الزجاج أخذ بظاهر الأمر، وظاهره الوجوب وهذا لو خلينا الآية لكان السُّجُودُ واجباً، ولكن دلَّت السنةُ على استحبابه دون وجوبه، على أَنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظر آخر، وهو أَنَّ هذا الأمر من كلام الله تعالى أو من كلام الهدهد محكيّاً عنه، فإن كان من كلام الله تعالى فيقال: يقتضي الوجوب إلاَّ أَنْ يجيء دليل يصرفه عن ظاهره، وإنْ كان من كلام الهدهد - وهو الظاهر - ففي انتهاضة دليلاً نظر، وهذا الذي ذكروه ليس بشيء، لأنَّ المراد بالسجود هاهنا عبادة الله لا عبادة الشمس، وعبادة الله واجبة وليس المراد من الآية سجود التلاوة، وأين كانت التلاوة في زمن سليمان عليه السلام ولم يكن ثم قرآن.
وقرأ الأعمش "هَلاَّ" و "هَلاَ" بقلب الهمزة هاء مع تشديد "لاَ" وتخفيفها، وكذا هي في مصحف عبد الله، (وقرأ عبد الله) "تَسْجُدُونَ" بتاء الخطاب ونون الرفع، وقرىء كذلك بالياء من تحت، فَمَنْ أَثْبَتَ نون الرفع فـ "أَلاَّ" بالتشديد أو التخفيف للتحضيض، وقد تكون المخففة للعرض أيضاً نحو أَلاَ تنزلُ عندنا فتحدَّثُ، وفي حرف عبد الله أيضاً { أَلاَ هَلْ تَسْجُدُونَ } بالخطاب. قوله: { ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ } يجوز أن يكون مجرور المحل نعتاً "للَّه" أو بدلاً منه أو بياناً، و"منصوبة على المدح، ومرفوعة على خبر ابتداءٍ مضمر. و "الخَبْءَ" مصدر خَبَأْتُ الشيء أَخْبَؤُهُ خَبْئاً أي: سَتَرَْتُهُ، ثم أطلِقَ على الشيء المَخْبُوءِ وَنَحْوُهُ
{ هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } [لقمان: 11] قال المفسرون: الخَبْء في السَّماواتِ المطر، وفي الأرض النبات، والخَابِيَةُ من هذا إلاَّ أَنَّهُم التزموا فيها ترك الهمزة كالبَريَّة والذّريّة عند بعضهم. وقيل: الخبء الغيب أي: يعلم غيب السموات والأرض، وقرأ أبيّ وعيسى "الخَبَ" بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة فيصير نحو: رأيت لَبَ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار "الخَبَا" بألفٍ صريحةٍ، وجهها أنه أبدل الهمزة ألفاً فلزم تحريك الباء، وذلك على لغة مَنْ يقف من العرب بإبدال الهمزة حرفاً يجانس حركتها، فيقول: هذا الخَبُو، ورأيت الخبا، ومررت بالخبي، ثم أُجْرِي الوَصْلُ مَجْرَى الوقْفِ، وقيل: إنه لمَّا نَقَلَ حركة الهمزة إلى الساكن قبلها لم يحذفها بل تركها، فَسَكَنَتْ بعد فتحةٍ فَدُبِرَتْ بحركة ما قبلها وهي لغة ثابتة، يقولون: المراة والكماة بألف مكان الهمزة بهذه الطريقة، وقد طعن أبو حاتم على هذه القراءة وقال: لا يجوز في العربية، لأَنَّه إن حذف الهمزة أَلْقَى حركتها على الباء، فقال الخَبَ، وإن حوَّلَها قال الخَبْي، بسكون الباء وياء بعدها.
قال المبرد: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو، لم يَلْحَقْ بهم إلاَّ أنه إذا خرج من بلدهم لم يلق أَعْلَم منه.
قوله: "في السَّماوَاتِ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق بـ"الخَبْءَ"، أي؛ المَخْبُوءُ في السموات.
والثاني: أنه متعلق بـ"يُخْرِجُ" على أنَّ معنى (في) بمعنى (مِنْ)، أي: يخرجه من السموات، و "مِنْ" و "فِي" يتعاقبان، يقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم، أي منكم - قاله الفراء -، وقرأ عبد الله: { يُخْرِجُ الخَبْءَ مِنَ السَّماواتِ }.
قوله: "مَا تُخْفُونَ" قرأ الكسائي وحفص بالتاء من فوق فيهما، والباقون بالياء من تحت، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي، لأن ما قبله أَمرهُمْ بالسجود وخطابهم به والغيبة على قراءة الباقين غير حفص ظاهرة أيضاً، لتقدم الضمائر الغائبة في قوله: "لَهُمْ"، و "أَعْمَالَهُمْ" و "صَدَّهُمْ" و "فَهُمْ" وأما قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أَتَمَّ قصة أهل سبأ، ويجوز أن يكون التفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر، فخاطبه ملتفتاً إليه.
وقال ابن عطية: القراءة بياء الغيبة تُعْطِي أَنَّ الآية من كلام الهدهد، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله لأُمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم أن الظاهر أنه من كلام الهدهد مطلقاً.