خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
٥٩
أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
٦٠
-النمل

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } الآية، العامة على كسر لام قل، لالتقاء الساكنين، وأبو السمال بفتحها تخفيفاً، وكذا في قوله: { وَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } [النمل: 93]، "وَسَلاَمٌ": مبتدأ، سوَّغ الابتداء به كونه دعاء.
فصل
المعنى: "الحمد لله" على هلاكهم، وهذا خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية، و { وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ } بأن أرسلهم ونجّاهم. وقيل: هذا كلام مبتدأ، فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء - عليهم السلام - وكان محمد - عليه السلام - كالمخالف لمن قبله - في العذاب؛ لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه - أمره الله تعالى بأن يشكر ربّه على ما خصّه به من هذه النعم، وبأن يسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة.
قوله: { وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ } قال مقاتل: هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى:
{ وَسَلاَمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الصافات: 181]. وقال ابن عباس - في رواية أبي مالك - هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال الكلبي: هم أمة محمد وقيل: هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين.
قوله: "أَمّا" أمْ هذه متصلة عاطفة، لاستكمال شروطها، والتقدير: أَيُّهُمَا خَيْرٌ، و "خَيْرٌ" إمَّا تفضيل - على زعم الكفار - وإلزام الخصم، أو صفةٌ لا تفضيل فيها. و"مَا" في "أَمْ مَا" بمعنى الذي، وقيل: مصدرية، وذلك على حذف مضاف من الأول، أي أتوحيد الله خير أم شرككم؟ وقرأ أبو عمرو وعاصم: "أَمَّا يُشْرِكُونَ" بالغيبة حملاً على ما قبله من قوله: "وَأَمْطَرنَا عَلَيْهِمْ"، وما بعده من قوله: "بَلْ أَكْثَرَهُمْ"، والباقون على الخطاب، وهو التفات للكفار، بعد خطاب نبيه - عليه السلام - وهذا تبكيت للمشركين بحالهم، لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى، ولا يؤثر عاقل شيئاًعلى شيء إلا لزيادة خير ومنفعة، فقيل لهم هذا الكلام تنبياً لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم، وروي أنّ رسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأها قال:
"بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم" .
قوله: "أَمَّن خَلَقَ"أَمْ" هذه منقطعة، لعدم تقدّم همزة الاستفهام ولا تسوية، و "مَنْ خَلَقَ" مبتدأ وخبره محذوف، فقدَّره الزمخشري: خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، فقدر ما أثبت في الاستفهام الأوّل، وهو حَسَنٌ، وقَدَّرَهُ ابن عطية: يُكفَر بنعمته ويُشْرك به، ونحو هذا من المعنى. وقال أبو الفضل الرازي: لا بُدَّ من إضمار جملة معادلة، وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، وتقدير تلك الجملة: أم مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرْض كَمَنْ لَمْ يَخْلُقُ؟ وكذلك أخواتها، وقد أُظْهِرَ في غير هذه المواضع ما أُضْمِر فيها، كقوله: { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [النحل: 17]. وقال أبو حيان: وتسمية هذا المقدر جملة إن أراد أنّها جملة من جهة الألفاظ فصحيح، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو، فليس بصحيح، بل هو مضمر من قبيل المفرد. وقرأ الأعمش: "أَمَنْ" بتخفيف الميم جعلها (مَنْ) الموصولة داخلة عليها همزة الاستفهام، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف وتقديره ما تقدم من الأوجه، قاله أبو حيان.
والثاني: أنها بدل من "الله"، كأنه قيل: أمن خلق السموات والأرض خَيْر أمَّا يشركون، ولم يذكر الزمخشري غيره. ويكون قد فصل بين البَدَل والمُبْدَل منه بالخبر وبالمعطوف على المبدل منه، وهو نظير قولك: أَزيدٌ خَيْرٌ أَمْ عَمْرٌوا أأخوك، على أن يكون أأخوك بدلاً من: أزيد، وفي جواز مثل هذا نظر.
قوله: "فَأَنْبَتْنَا" هذا التفات من الغيبة إلى المتكلم، لتأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأنَّ إنْبات الحدائق المختلفة الألوان والطُّعوم - مع سقيها بماءٍ واحدٍ - لا يقدر عليه إلاّ هو وحده، ولذلك رشحه بقوله: { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا }.فإن الإنسان ربما يقول: أنا الذي ألقي البذر في الأرض وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها، وفاعل السبب فاعل المسبب، فإذن أنا المنبت للشجرة، فلمّا كان هذا الاحتمال قائماً، لا جرم أزال الله تعالى هذا الاحتمال، فرجع من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم، والحدائق: جمع حديقةٍ وهي البستان، وقيل القطعة من الأرض ذات الماء. قال الراغب: سُمِّيَتْ بذلك تشبيهاً بحَدقةِ العين في الهيئة وحصول الماء فيه. وقال غيره: سُمِّيت بذلك لإحداق الجدران بها.
وليس بشيء، لأنها يطلق عليها ذلك م عدم الجدران ووقف القراء على "ذَات" من "ذَاتِ بَهْجَة" بتاء مجهورة، والكسائي بها، لأنها تاء تأنيث. وقيل: "ذات"، لأنه بمعنى جماعة حدائق ذات بهجة كما تقول: النساء ذهبت، و "البهجة": الحسن، لأن حسّ الناظر يبتهج به. وقرأ ابن أبي عبلة: "ذَوَاتِ بَهَجَةٍ" بالجمع، وفتح هاء "بَهَجَةٍ". قوله: { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ }، "أَنْ تُنْبِتُوا" اسم كان و "لَكُمْ" خبر مقدم، والجملة المنفية يجوز أن تكون صفة لـ "حدائق"، وأن تكون حالاً، لتخصصها بالصفة.
قوله: { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } استفهام بمعنى الإنكار، هل معبود سواه أعانه على صنعه، بل ليس معه إله، وقرىء: أإلهاً مَعَ اللَّهِ، أي: تدعون أو تشركون، { بَلْ هُمْ قَوْمٌ }: يعني كفار مكة، يَعْدِلُون: يشركون، أي: يعدلون بالله سواه، وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ونظير هذه الآية أول سورة الأنعام.