خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ
١٨
فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ
١٩
وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ
٢٠
فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٢١
-القصص

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ } التي قتل فيها القبطي "خَائِفاً" الظاهر أنه خبر "أصبح"، و "فِي المَدِينَةِ" مفعول به، ويجوز أن يكون حالاً، والخبر "فِي المَدِينَةِ"، ويضعف تمام "أَصْبَحَ" أي: دخل في الصباح.
قوله: "يَتَرَقَّبُ" يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً ثانيةً، وأن يكون بدلاً من الحال (الأولى)، أو الخبر الأول، أو حالاً من الضمير في "خَائفاً" فتكون متداخلة، ومفعول "يَتَرَقَّبُ" محذوف، أي: يترقب المكروه، أو الفرج، أو الخبر: هل وصل لفرعون أم لا؟ قوله: "فَإِذَا الَّذِي"إِذَا" فجائية، و "الَّذِي" مبتدأ وخبره إمَّا "إذَا" فـ "يَسْتَصْرِخُهُ" حال، وإمَّا "يَسْتَصْرِخُهُ" فـ "إِذَا" فضله على بابها، و "بِالأَمْسِ" معرب، لأنه متى دخلت عليه "ال" أو أضيف أعرب، ومتى عَرِيَ منها فحاله معروفٌ، الحجاز يبنونه، والتميميون يمنعونه الصرف، كقوله:

3981 - لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسَا

على أنه قد بُنِيَ مع "ال" ندوراً، كقوله:

3982 - وَإِنِّي حُبِسْتُ اليَوْمَ والأَمْسِ قَبْلَهُ إِلَى الشَّمْسِ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ

يروى بكسر السين.
قوله: { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ } الضمير قيل للإسرائيلي، لأنه كان سبباً في الفتنة الأولى، وقيل للقبطي، وذلك أنَّ موسى لما أصبح خائفاً من قتل القبطي "يَتَرَقَّب" ينتظر سوءاً، والترقب انتظار المكروه. قال الكلبي: ينتظر متى يؤخذ به، { فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } يستغيثه ويصيح به من بعد، قال ابن عباس: أتى فرعون فقيل له: إنَّ بني إسرائيل قتلوا مِنَّا رجلاً فخذ لنا بحقنا، فقالوا ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه (فلا تنسبوني أن أقضي) بغير بينة، فبينما هم يطوفون لا يجدون بيّنة إذ مَرَّ مُوسَى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً، فاستغاثه على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي، فقال موسى للإسرائيلي: { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } (أي: ظاهر الغواية). قال أهل اللغة: "لَغَوِيٌّ" يجوز أن يكون فَعِيلاً بمعنى مفعل، أي: إنَّك لمغويّ، فإنِّي وقعتُ بالأمس فيما وقعت فيه بسببك، ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي: قاتلت رجلاً بالأمس فقتلته بسببك، وتقاتل اليوم آخر، وتستغيثني عليه، وقيل: إنما قال موسى للفرعوني: { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } بظلمك، والأكثرون على الأول.
قوله: { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ } الظاهر أنَّ الضميرين لموسى، وقيل للإسرائيلي، والعدو: هو القبطي، والضمير في { قَالَ يٰمُوسَىٰ } للإسرائيلي، كأنه توهم من موسى مخاشنة، فَمِنْ ثمَّ قال ذلك، وبهذا فشا خبره وكان مشكوكاً في قاتله. و "أَنْ" تطرد زيادتها في موضعين:
أحدهما: بعد لمَّا كهذه.
والثاني: قبل "لَوْ" مسبوقة بقسم كقوله:

3983 - أَمَــا وَالـلَّـهِ أَنْ لَــوْ كُنْــتُ حُــراً3983 م - فَأُقُسِمُ أَنْ لَوْ التَقَيْنَا وَأَنْتُمُ
لَكَانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِم

والعامة على "يَبْطِش" بالكسر، وضمَّها أبو جعفر، وقيل: إن القائل "يَا مُوسَى" هو القبطي، وكان قد عرف القصة من الإسرائيلي. قال ابن الخطيب: وهذا هو الظاهر، لقوله: { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَٰمُوسَىٰ }، فهذا القول منه لا من غيره، وأيضاً قوله: { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } لا يليق إلا بقول الكافر، والجبار: هو الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل بظلم، ولا ينظر في العواقب، وقيل: المتعظم، { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ }، قال المفسرون: فلما سمع القبطي قول الإسرائيلي علم أَنَّ موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني: فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك، وأمر فرعون بقتل موسى. قال ابن عباس: أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى فأخذوا الطريق الأعظم. قوله: { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ }، أي: من آخر المدينة اسمه: حزقيل مؤمن آل فرعون، وقيل اسمه شمعون، وقيل: (شمعان): "يَسْعَى" قال الزمخشري: "يَسْعَى" يجوز ارتفاعه وصفاً لـ "رَجُلٌ" وانتصابه حالاً عنه، لأنه قد تخصص بالوصف بقوله: { مِّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ }، فإن جعلت "مِنْ أَقْصَى" متعلقاً بـ "جَاءَ" فـ "يَسْعَى" صفة ليس إلا. وهذا بناء منه على مذهب الجمهور، وقد تقدَّم أَنَّ سيبويه يجيز ذلك من غير شَرْط.
وفي آية يس قدَّمَ "مِنْ أَقْصَى" على "رَجُل"، لأنه لم يكن من أقصاها وإنما جاء منها وهنا وصفه بأنه من أقصاها، وهما رجلان مختلفان وقضيتان متباينتان.
(قوله) "يَأْتَمِرُونَ" أي: يتآمرون بمعنى يتشاورون، كقول النمر بن تولب:

3984 - أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شبهَةً وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ مُؤْتَمَرْ

وعن ابن قتيبة: يأمر بعضهم بعضاً. أخذه من قوله تعالى: { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } [الطلاق: 6]. (قوله) "فَاخْرُجْ" أي: من المدينة، { إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } في الأمر بالخروج، فقوله "لَكَ"، يجوز أن يتعلق بما يدلُّ "النَّاصِحِينَ" عليه، أي؛ ناصحٌ لك من الناصحين، أو بنفس "النَّاصِحِينَ" للاتساع في الظرف، أو على جهة البيان أي: أعني لك. "فَخَرَجَ مِنْهَا" موسى "خَائِفاً يَتَرَقَّبُ" هِدَايَتَهُ وغَوْثَ الله إيَّاهُ، { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي؛ الكافرين وهذا يدلُّ على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنباً وإلا لكان هو الظالم لهم، وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم له ليقتلوه قصاصاً.