خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ
٦٧
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٨
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
٦٩
وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٧٠
-القصص

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ } لمّا بيَّن حال المعذبين أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيباً في التوبة، وزجراً عن الثبات على الكفر، وفي "عَسَى" وجوه:
أحدها: أنه من الكرام حقيق، والله أكرم الأكرمين.
وثانيها: أنَّها للترجي للتائب وطمعه، كأنه قال: فليطمع في الفلاح.
وثالثها: عسى أن يكونوا كذلك إذا داموا على التوبة والإيمان، لجواز أن لا يدوموا.
قوله: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا:
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]، يعني الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم.
قوله: { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } فيه وجوه:
أحدها: أنَّ ما نافية، فالوقف على "يَخْتَارُ".
والثاني: ما مصدرية أي يختار اختيارهم، والمصدر واقع موقع المفعول، أي مختارهم.
الثالث: ان يكون بمعنى "الذي" والعائد محذوف، أي ما كان لهم الخيرة فيه كقوله:
{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43] أي منه، وجوَّز ابن عطية أن تكون كان تامة، ولهم الخيرة جملة مستأنفة، قال: ويتجه عندي أن يكون ما مفعول إذا قدَّرنا كان التامة، أي: إن الله يختار كلَّ كائن، ولهم الخيرة مستأنف معناه: تعديد النعم عليهم في اختيار الله لهم لو قبلوا. وجعل بعضهم في كان ضمير الشأن، وأنشد:

4014 - أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ لَوْ كَانَ ذَا مِنْكَ قَبْلَ اليَوْم مَعْرُوفُ

ولو كان ذا اسمها لقال معروفاً، وابن عطية منع ذلك في الآية، قال: لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف، كأنه يريد أن الجار متعلق بمحذوف وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها إلا أنَّ في هذا نظراً إن أراده، لأن هذا الجار قائم مقام الخبر ولا أظن أحداً يمنع: هو السلطان في البلد، وهي الدار، والخيرة: من التخير كالطيرة من التطير فيستعملان استعمال المصدر، وقال الزمخشري { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } بيان لقوله "وَيَخْتَارُ"، لأن معناه: ويختار ما يشاء ولهذا لم يدخل العاطف، والمعنى أن الخيرة لله في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه.
قال شهاب الدين: لم يزل الناس يقولون: إن الوقف على "يَخْتَار" والابتداء بما على أنها نافية هو مذهب أهل السنة، ونقل ذلك عن جماعة كأُبيٍّ وغيره، وأن كونها موصولة متصلة "يَخْتَارُ" غير موقوف عليه هو مذهب المعتزلة، وهذا الزمخشري قد قرر كونها نافية وحصل غرضه في كلامه وهو موافق لكلام أهل السنة ظاهراً وإن كان لا يريده، وهذا الطبري من كبار أهل السنة منع أن تكون نافية، قال: لئلا يكون المعنى: أنه إن لم يكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، وأيضاً فلم يتقدم نفي، وهذا الذي قاله ابن جرير مرويّ عن ابن عباس، وقال بعضهم: ويختار لهم ما يشاؤه من الرسل فـ "ما" على هذا واقعة على العقلاء.
فصل
إن قيل: "ما" للإثبات فمعناه: ويختار الله ما كان لهم الخيرة، أي: يختار ما هو الأصلح والخير، وإن قيل: ما للنفي أي: ليس إليهم الاختيار، أو ليس لهم أن يختاروا على الله كقوله:
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب: 36] ثم قال منزِّهاً نفسه سبحانه وتعالى "عَمَّا يُشْرِكُونَ" أي: إن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه { يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "وَمَا يُعْلِنُونَ" من مطاعنهم فيه، وقولهم: هلا اختير غيره في النبوة،. ولما بيَّن علمه بما هم عليه من الغل والحسد والسفاهة قال: { وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ }، وهذا تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات { لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ } وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة لأن الثواب غير واجب عليه بل يعطيه فضلاً وإحساناً، و { لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ } ويؤكد قول أهل الجنة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } [فاطر: 34]. { ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [الزمر: 74] { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [يونس: 10] "ولَهُ الحُكْمُ" وفصل القضاء بين الخلق، قال ابن عباس: حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء "وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ" أي: إلى حكمه وقضائه.