خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢٣
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ
١٢٤
بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ
١٢٥
وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١٢٦
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ
١٢٧
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

في كيفية النظم وجهان:
أحدهما: أنه - تعالى - لمَّا ذكر قصةَ أحُد أتبعها بقصة بدر؛ لأن المشركين كانوا في غاية القوة، ثم سلط المسلمين عليهم، فصار ذلك دليلاً على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى غرضه إلا بالتوكل على الله، ويكون ذلك تأكيداً لقوله:
{ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [آل عمران: 120]، وقوله: { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُون } [آل عمران: 122].
الثاني: أنه - تعالى - حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل، ثم قال:
{ { وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران: 122].
يعني: من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به الفشل؟ ثم أكَّد ذلك بقصة بدر؛ فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف، ولكن لمَّا كان الله تعالى ناصراً لهم، فازوا بمطلوبهم، وقهروا خصومهم، فهذا وجه النظم. والنصر: العون، نصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: { بِبَدْرٍ } متعلق بـ { نَصَرَكُمُ }، وفي الباء - حينئذ - قولان:
أحدهما: - وهو الأظهر -: أنها ظرفية، أي: في بدر، كقولك: زيد بمكة، أي: في مكة.
الثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها باء المصاحبة، فمحلُّها النصب على الحال، أي: مصاحبين لبدر، و "بدر": اسم لماء بين مكة والمدينة، سُمِّي بذلك لصفائه كالبدر.
وقيل: لاستدارته وقيل: اسم بئر لرجل يقال له: بدر، وهو بدر بن كلدة، قاله الشعبي، وأنكر عليه بذكر الله - تعالى - مِنَّتَه عليهم بالنُّصْرَةِ يوم بدر وقيل: إنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه. قاله الواقدي وشيوخه.
وقيل: اسم وادٍ, وكان يوم بدر السابع عشر من رمضان وكان يوم الجمعة، لثمانية وعشرين شهراً من الهجرة.
قوله: { وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } في محل نصب على الحال من مفعول: { نَصَرَكُمُ } و { أَذِلَّةٌ } جمع ذليل وهو جمع قلة؛ إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة، و "فعيل" الوصف - قياس جمعه على فعلاء، كظريف وظرفاء، وشريف وشرفاء، إلا أنه تُرِك في المضعَّف؛ تخفيفاً ألا ترى إلى ما يؤدي إليه جمع ذليل وخليل على ذُللاء وخُللاء من الثقل؟
فإن قيل: قال الله تعالى:
{ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين } [المنافقون: 8] فما معنى قوله: { وَأنْتُمْ أَذِلَّةٌ }؟ فالجواب من وجوه:
الأول: أنه بمعنى: القلة وضعف الحال، وقلة السلاح والمال، وعدم القدرة على مقاومة العدو، وأن نقيضه العِز، وهو القوة والغلبة.
رُوِيَ أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن فيهم إلا فرس واحد، وأكثرهم رَجَّالة، وربما كان الجمع منهم يركبون جَمَلاً واحداً، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس، مع الأسلحة الكثيرة، والعُدَّة الكاملة.
قال القرطبيُّ: واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزَّة، لكن نسبتهم إلى عدوهم، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض، تقتضي عند التأمل ذِلّتَهُمْ، وأنهم يغلبون.
الثاني: لعل المراد: أنهم كانوا أذلة في زَعْم المشركين، واعتقادهم؛ لأجل قلة عددهم، وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله - تعالى - عن الكفار قولهم:
{ { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } [المنافقون: 8].
الثالث: أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار بمكة في قوتهم، وثروتهم، إلى ذلك الوقت، ولم يَبْقَ للصحابة عليهم استيلاء، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم، فلهذا السبب كانوا يهابونهم ويخافونهم.
ثم قال: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي: في الثَّباتِ مع رسوله.
{ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } بتقواكم ما أنعم الله به عليكم من نصرته، أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام؛ لأنه سبب له.
قوله: { إذْ تَقُولُ } فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب بإضمار اذكر.
الثاني: إن قلنا: إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر، فالعامل في "إذْ" قوله: { نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ } والتقدير: إذ نصركم الله ببدر، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين.
وإن قلنا: إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد، فيكون بَدَلاً من قوله:
{ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ } [آل عمران: 122]، فهذه ثلاثة أوجه.
فصل
رُوِي عن ابن عبَّاسٍ والكَلْبِيِّ والواقِدِيِّ ومُقَاتِلٍ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ: أنه يوم أُحُد، لوجوه:
أحدها: أن يوم بدر إنما أمِدَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة لقوله:
{ { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَة } [الأنفال: 9]، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف؟
وثانيها: أن الكفارَ كانوا يوم بدر ألفاً، وما يقرب منه، والمسلمون كانوا على الثلث منهم؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة، فصار عدد الكُفَّار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين، فلا جرم، وقعة الهزيمة على الكفار، فكذلك يوم اُحُد، كان عدد المسلمين ألفاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة؛ ليصير عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكةِ، مع زيادة عدد المسلمين، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم، كما هزموهم يوم بدر، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم.
وثالثها: أنه قال في هذه الآية: { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ }.
والمراد: ويأتيكم أعداؤكم من فورهم، ويوم أحُد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر، فإنهم لم يأتوهم، بل هم ذهبوا إلى الأعداء.
فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم وعدهم بخمسة آلاف يوم أُحُد، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن إنزال الآلاف الخمسة، كان مشروطاً بأن يصبروا، ويتَّقوا في المغانم، فَخَالَفُوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فات الشرط، فات المشروط، وأمَّا إنزال الآلاف الثلاثة، فقد وَعَدَ المؤمنين بها حين بوَّأهُم مقاعدَ القتال.
الثاني: أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت.
روى الواقدي عن مجاهد قال: حضرت الملائكة يومَ أُحُد، ولكنهم لم يقاتلوا، ورُوِيَ
"أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر، فقُتِل مُصْعَبٌ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقدم يا مصعب، فقال الملك: لستُ بمُصعَب، فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مَلَك أمِدَّ به" .
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أرمي السهمَ يومئذٍ، فيرد علي رجل أبيض، حسن الوجه، وما كنت أعرفه، وظننت أنه مَلَك.
فعلى هذا القول يكون قوله تعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ } مُعْتَرِضاً بين الكلامين.
وقال قتادة: أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة، على ما قال:
{ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَة } [الأنفال: 9]، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسةَ آلاف، كما قال هاهنا: { بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ } [آل عمران: 125]، فصبروا يوم بدر واتقوا، فأمدم الله بخمسة آلاف كما وعد، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب - في ذلك اليوم - أكثرَ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً، غير مشروط بشرطٍ، فوجب أن يحصل، وإنَّما حصل يوم بدر، لا يوم أُحُد، وليس لأحد أن يقول: إنهم نزلوا، لكن ما قاتلوا؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد، بل لا بدّ من الإعانة، والإعانة حصلت يوم بدر، لا يوم أُحُد.
وأما الجواب عن أدلة الأولين، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف، فالجواب من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بألف، ثم زاد فيهم ألفين، فصاروا ثلاثةَ آلاف، ثم زاد ألفين آخرين، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم:
" ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا: بلى فقال لهم: إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ" .
الثاني: أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة الأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير، فخافوا، وشَقَّ عليهم ذلك، لقِلَّة عددهم، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ، فاستغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف.
وأما قولهم: إن الكفارَ كانوا - يوم بَدْرٍ - ألْفاً، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة، ويوم أُحُد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثةَ آلاف، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك، بل يفعل الله ما يشاء من زيادةٍ ونَقْصٍ بحسب ما يريد، وأما التمسك بقوله: { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ } فالجواب: أن المشركين لمّا سمعوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد تعرَّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم، واجتمعوا، وقصدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم إن الصحابةَ لما سمعوا ذلك، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فَوْرِهم يُمْدِدكم بخمسةِ آلاف من الملائكة.
فصل
قال القرطبيُّ: "نزول الملائكة سبب من أسباب النصر، لا يحتاج إليه الرَّبُّ تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق، فلْيَعْلَق القلبُ بالله، ولْيَثِقْ به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون } [يس: 82]، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلا } [الأحزاب: 62]، ولا يقدح ذلك في التوكُّل، وهو رَدٌّ على مَنْ قال: إن الأسبابَ إنما سُنَّتْ في حَقِّ الضعفاء، لا الأقوياء؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أقوياءَ، وغيرهم هم الضعفاء، وهذا واضح".
فصل في اختلافهم في عدد الملائكة
اختلفوا في عدد الملائكة، فمن الناس مَنْ ضَمَّ العدد الناقص إلى العدد الزائد؛ فقالوا: الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتَّقْوَى، ومجيء الكفار من فورهم، فلا بد من التغاير، وهذا القول ضعيف، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط.
ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد.
فعلى القول الأول إن حَمَلْنا الآية على قصة بدر، كان عدد الملائكة تسعة آلاف؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف، وذكر خمسة آلاف، فالمجموع تسعة آلاف.
وإن حملناها على قِصَّة أُحُدٍ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة، فيكون المجموع ثمانية آلاف.
وعلى القول الثاني: وهو إدخال الناقص في الزائد، فإن حملنا الآية على قصة بدر، فقالوا: عدد الملائكة: خمسة آلاف؛ لأنهم وُعِدوا بالألف، ثم ضُمَّ إليه الألفان، فصاروا ثلاثةً، ثم ضُمَّ إليه ألفان، فلا جرم، وعدوا بخمسة آلاف.
وقد رُوِيَ
"أن أهْلَ بَدْر أمِدُّوا بألْف، فقيل: إن كُرْز بن جابر المحاربيّ يريد أن يُمِدَّ المشركين، فشَقَّ ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: ألَنْ يَكْفِيَكُمْ" يعني بتقدير أن يجيء المشركين مَدَدٌ، فالله - تعالى - يمدكم - أيضاً - بثلاثة آلاف وخمسة آلاف، ثم إن المشركين ما جاءهم المَدَدُ.
وإن حملناها على قصة أُحُد، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف؛ لأن الخمسةَ، وعدوا بها بشرط أن يَصْبروا ويتقوا، ويأتوهم من الفور.
فصل
أجمع المفسرون وأهلُ السِّير على أن الله - تعالى - أنزل الملائكةَ يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفارَ.
قال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدرٍ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال، ولا يقاتلون، إنما يكونون عدداً ومدداً وهذا قول الأكثرين.
وقال الحسن: هؤلاء الخمسة آلافٍ ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة.
وأنكر ابو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار، واحْتَجَّ عليه بوجوه:
الأول: أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض؛ فإنَّ المشهور أنَّ جبريل - عليه السلام - أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط، وبلغ جناحُه إلى الأرض السابعة، ثم رفعها إلى السماء، فجعل عاليها سافلَها، فإذا حضر هو يوم بدر، فأيُّ حاجة إلى مقاتلةِ الناسِ مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟
الثاني: أن أكابر الكفار كانوا مشهورين، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.
الثالث: أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس، أوْ لا، فإن رآهم الناس، فإما أن يروهم في صورة الناس، أو في صورة غيرهم، فإنْ رَأوْهُمْ في صورة الناس، صار المشاهَد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى:
{ { وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِم } [الأنفال: 44] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس، لزم وقوع الرُّعْب الشديد في قلوب الخلق؛ لأن من شاهد الجن، لا شك أنه يشتد فَزَعُه - ولم ينقل ذلك ألبتة - وإن لم يَرَوْهُم، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا، وحزوا الرؤوس، وشقُّوا البطون، وأسقطوا الكفار عن الأفراس، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحَداً من الفاعلين، وهذا يكون من أعظم المعجزات، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد، ولما لم يوجد شيء من ذلك عُرفَ فسادُه.
الرابع: أن الملائكة الذين نزلوا، إما أن يكونوا أجساماً لطيفةً أو كثيفة، فإن كانت كثيفةً وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك، وإن كانت لطيفةً مثل الهواء - لم يكن فيهم صلابة وقوة، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول.
والجواب: أن نص القرآن ناطق بِها، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عُمَيْر لما رجعت قريش من أحد، جعلوا يتحدثون في أنْدِيَتِهم بما ظفروا، ويقولون: لم نَرَ الخيل البُلْق، ولا الرجالَ البيضَ الذين كُنَّا نراهم يومَ بدر.
وقال سعدُ بن أبي وقاص: رأيتُ عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بِيضٌ، ما رأيتهما قبل، ولا بعد.
قال سعدُ بن إبراهيمَ: يعني: جبريل وميكائيل.
وهذه الشبهة إنما تليق بمن يُنكر القرآن والنبوة، فأما من يُقِرُّ بهما، فلا يليق به شيءٌ من هذا، وهذه الشبهة إذا قابلناها بكمال قدرة الله - تعالى - زالت؛ فإنه - تعالى - يفعل ما يشاء؛ لأنه قادر على جميع الممكنات.
فصل
اختلفوا في كيفية نُصْرة الملائكة.
فقال بعضهم: بالقتال مع المؤمنين.
وقال بعضهم: بل بتقوية نفوسهم، وإشعارهم بأن النُّصْرة لهم، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار.
وقال أكثر المفسرين: إنهم لم يقاتلوا في غير بدر.
قوله: { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } معنى الكفاية: هو سَدُّ الخلة، والقيام بالأمر.
يقال: كَفَاهُ أمر كذا، أي: سَدَّ خلته.
والإمداد: إعانة الجيش بالجيش، وهو في الأصل إعطاء الشيء حالاً بعد حال.
قال المفضَّل: ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: أمَدَّه يُمِدُّه، وما كان على جهة الزيادة، قيل فيه: مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا ومنه:
{ { وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر } [لقمان: 27].
وقيل: المَدُّ في الشر، والإمداد في الخير؛ لقوله تعالى:
{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة: 15] وقوله: { { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً } [مريم: 79] وقال في الخير: { { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف } [الأنفال: 9] وقال: { { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِين } [الإسراء: 6].
قوله: { أَن يُمِدَّكُمْ } فاعل، { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } أي: ألن يكفيكم إمدادُ ربكم، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار، وجيء بـ "لن" دون "لا"؛ لأنها أبلغ في النفي، وفي مصحف أبيّ "ألا" بدون "لن" وكأنه قصد تفسير المعنى.
و "بثلاثة" متعلق بـ { يُمِدَّكُمْ }.
وقرأ الحسن البصريّ "ثلاثة آلافٍ" - بهاء - ساكنة في الوصل - وكذلك "بخمسة آلافٍ" كأنه أجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف، وهي ضعيفة؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال.
قال ابن عطية: ووجْه هذه القراءة ضعيف؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذْ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال الأول، والهاء إنما هي أمارة وقف، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضعَ، من ذلك ما حكاه الفرَّاء من قولهم: أكلت لحما شاةٍ - يريدون لحم شاة - فَمَطلُوا الفتحةَ، حتى نشأت عنها ألِفٌ، كما قالوا في الوقف قالا - يريدون قال - ثم مَطَلُوا الفتحة في القوافي، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت.
ومن ذلك في الشعر قوله: [الكامل]

1610- يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُكْدَمِ

يريد: "ينبع"، فمطل ومثله قول الآخر: [الرجز]

1611- أقُولُ إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ يَا نَاقَتَا مَا جُلْتُ مِنْ مَجَالِ

يريد: "الكلكل"، فمطل ومثله قول الشاعر: [الوافر]

1612- فَأنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى وَمَنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ

يريد: بمنتزح.
قال أبو الفتح: "فإذا جاز أن يعترض هذا [الفتور] والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه، إذ هما اثنان".
قال أبو حيان - بعد نقل كلام ابن عطية -: "وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوَصْل مُجْرَى الوَقْف، وإجراء الوَقْف مُجْرَى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله: لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوَصْل، وإنما نظير هذا قولهم: ثلاثة أربعة، أبدل التاء هاء، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها، وحذف الهمزة، فأجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف في الإبدال، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مُجْرى الوقف؛ إذْ لا يكون هذا النقل إلا في الوَصْل".
وقرئ شاذًّا - أيضاً -: بثلاثةْ آلاف - بتاء ساكنة، وهي أيضاً من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن، أهي تاء التأنيث التي كانت، فسكنت فقط، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ ولا طائل تحته.
قوله: { مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ } يجوز أن تكون "مِنْ" للبيان، وأن تكون "مِنْ" ومجرورها في موضع الجر صفة لـ "لَثَلاثَةِ" أو لِـ "آلافٍ".
قوله: { مُنْزَلِينَ } صفة لـ "ثلاثة آلاف"، ويجوز أن يكون حالاً من "الْمَلاَئِكَةِ" والأول أظهر. وقرأ ابن عامر "مُنزَّلين" - بالتضعيف - وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت:
{ { إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [العنكبوت: 34] إلا أنه هنا - اسم مفعول، وهناك اسم فاعل.
والباقون خفَّفوها وقرأها ابن أبي عَبْلَة - هنا - مُنَزِّلين - بالتشديد مكسور الزاي، مبنياً للفاعل.
وبعضهم قرأه كذلك، إلا أنه خفف الزاي، جعله من أنزل - كأكرم - والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية، ففعَّل وأفْعل بمعنًى، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالاًّ على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتين الأخيرتين يون المفعول محذوفاً، أي: منزلين النصر على المؤمنين، والعذاب على الكافرين.
قوله: { بَلَىۤ } حرف جواب، وهو إيجاب للنفي في قوله: { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ } وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله: { يُمْدِدْكُمْ }.
والفوز: العجلة والسرعة، ومنه: فارت القِدْرُ، إذا اشتد غليانها وسارع ما فيها إلى الخروج، و الفوز مصدر، يقال: فَار يفُورُ فَوْراً، قال تعالى:
{ { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّور } [هود: 40]، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال: جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه، فالفَوْر - في الأصل -: مصدر، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين: معنى "مِنْ فَورِهم هَذَا": من وجههم هذا.
وقال مجاهد والضَّحَّاكُ: من غضبهم هذا؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر.
قوله: { مُسَوِّمِينَ } كقوله: { مُنزَلِينَ }، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو، على اسم الفاعل، والباقون بفتحها على اسم المفعول، فأما القراءة الأولى، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى: أنهم سَوَّموا خَيْلَهم، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان، وتركوها كذلك، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى.
ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم، أو خيلهم.
روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ، قال عروة بن الزبير: كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ، عليهم عمائمُ بِيضٌ، قد أرسلوها بين أكتافهم.
وقال هشام بن عروة: عمائم صفر.
وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ، إلا جبريل فبعمامة صفراء، على مثال الزبير بن العوام.
قال قتادةُ والضَّحَّاكُ: كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها.
ورُوِيَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر:
"تسوموا، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم" . وأما القراءة الثانية، فواضحة بالمعنيين المذكورين، فمعنى السوم فيها: أن الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين.
قال أبو زيد: سوم الرجل خَيْلَه، أي أرسلها.
وحكى بعضهم: سومت غلامي، أي: أرسلته، ولهذا قال الأخفش: معنى "مُسَوَّمِينَ" مُرْسَلِين.
ومعنى السومة فيها: أن الله - تعالى - سومهم، أي جعل عليهم علامة، وهي العمائم، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم.
فصل
قال القُرْطُبِيُّ: "وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة، والعلامة للقبائل، والكتائب، يجعلها السلطان لهم؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البُلْق؛ لنزول الملائكة عليها".
قال القرطبي: "ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد؛ فإنه كان أبلق، ولم يكن له فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق، إكراماً للمقداد، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير".
قوله: { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ } الكناية في "جَعَلَهُ" عائدة على المصدر، أي: ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعول من أجله، وهو استثناء مفرغ؛ إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى، وشروط نصبه موجودة، وهي اتحاد الفاعل، والزمان، وكونه مصدراً سيق للعلة.
والثاني: أنه مفعول ثانٍ لِـ "جَعَل" على أنها تصييرية.
والثالث: أنه بدل من الهاء في "جَعَلَهُ" قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد.
والبشرى: مصدر على "فُعْلَى" كالرُّجْعَى.
وقيل: اسم من الإبشار، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى:
{ { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَات } [البقرة: 25].
قوله: { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيه وجهان:
أحدهما: أنًّه معطوف على "بُشْرَى" هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله، وإنما جُرَّ باللام؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه، وقد تقدم، والتقدير: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة.
والثاني: أنها متعلقة بمحذوف، أي: ولتطمئن قلوبكم، فعلى ذلك، أو كان كيت وكيت.
وقال أبو حيان: و "تطمئن" منصوب بإضمار "أن" بعد لام "كي"، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر.
ثم نقل عن ابن عطية أنه قال: "اللام في { وَلِتَطْمَئِنَّ } متعلقة بفعل مضمر يدل عليه "جَعَلَهُ" ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، ولتطمئن به قلوبكم.
قال أبو حيان: "وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف { وَلِتَطْمَئِنَّ } على { بُشْرَىٰ }، على الموضع؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع، ولا محرز هنا؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود، ومَنْ لم يشترط المحرز، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم".
قال شهاب الدين: "وقد جعل بعضهم الواو في { وَلِتَطْمَئِنَّ } زائدة، وهو لائق بمذهب الأخفش، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى، أي: أن البشرى عِلَّة للجَعْل، والطمأنينة علة للبُشْرَى، فهي علة العلة".
قال ابْنُ الخَطِيبِ: في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر:
فأحدهما: إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله: { إلاَّ بُشْرَىٰ }.
الثاني: حصول الطمأنينة بالنصر، فلا يجنبون، وهذا هو المقصود الأصلي، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية، فعطف الفعل على الاسم، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة، فقال: { وَلِتَطْمَئِنَّ } ونظيره قوله:
{ { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [النحل: 8] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب، أدخَل عليه حرف التعليل، فكذا هاهنا.
قال أبو حيان: "ويناقش في قوله: عطف الفعل على الاسم؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله: أدخل حرف التعليل، وليس ذلك كما ذكره". انتهى.
قال شهَابُ الدِّينِ: "إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل".
وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه: "هذا على تأويل: وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيكون التقدير: وما جعله الله إلا بشرى لكم؛ لتطمئنَّ قلوبكم به".
والضميران في قوله { وَمَا جَعَلَهُ }، و "بِهِ" يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم، وهو قوله: "يمددكم".
وقيل: يعودان على النصر.
وقيل: على التسويم.
وقيل: على التنزيل.
وقيل: على المدد.
وقيل: على الوعد.
فصل
قال في هذه الآية: "لَكُمْ" وتركها في سورة الأنفال؛ لأن تيك مختصر هذه، فكان الإطناب - هنا- أوْلَى؛ لأن القصة مكملة هنا، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه، وأخر - هنا - "به" وقدمه في سورة الأنفال؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في "لَكُمْ" فأتبع الخطاب الخطاب، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله: { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } وجاء بهما في جملة مستأنفة في سورة الأنفال، في قوله:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 10]؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم، أي: لا يغالب، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب، فالنصر من عنده, فاستعينوا به، وتوكلوا عليه؛ لأن العز والحُكْم له.
قوله: { لِيَقْطَعَ } في متعلق هذه اللام سبعة أوجه:
أحدها: أنها متعلقة بقوله: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ } قاله الحوفيّ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْل.
الثاني: أنها متعلقة بالنصر في قوله: { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } والمعنى: أن المقصود من نصركم، هو أن تقطعوا طرفاً من الذين كفروا، أي: تملكوا طائفة منهم، وتقتلوا قطعة منهم، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ، وهو الخبر.
الثالث: أنها متعلقة بما تعلَّق به الخبر، وهو قوله: { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ }، والتقدير: وما النصر إلا كائن، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع.
والرابع: أنها متعلقة بمحذوف، تقديره: أمَدَّكُم، أو نَصَرَكُم، ليقطَعَ.
الخامس: أنها معطوفة على قوله: "ولتطمئن" حذف حرف العطف لفهم المعنى؛ لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف، كقوله:
{ { ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف: 22] وقول السيد لعبده: أكرمتك لتخدمني، لتعينني، لتقوم بخدمتي، فحذف العاطف لقُرْب البعض من البعض، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله: { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو ساقط الاعتبار.
السادس: أنها متعلقة بالجَعْل قاله ابن عطية.
السابع: أنها متعلقة بقوله: { يُمْدِدْكُمْ } وفيه بُعْدٌ؛ للفواصل بينهما.
والطرف: المراد به: جماعة، وطائفة، وإنما حَسُنَ ذِكْر الطرف - هنا- ولم يحسن ذكر الوسط؛ لأنه لا وصول إلى الوَسَطِ إلا بعد الأخذ من الطرف، وهذا يوافق قوله تعالى:
{ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ } [التوبة: 123] وقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [الرعد: 41].
قوله: { مِّنَ ٱلَّذِينَ } يجوز أن يكون متعلِّقاً بالقَطْع، فتكون "مِنْ" لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة لـ "طَرَفاً" وتكون "مِنْ" للتبعيض.
قوله: { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } عطف على "لِيَقْطَعَ".
و "أو"؛ قيل: على بابها من التفصيل، أي: ليقطع طرفاً من البعض، ويكبت بعضاً آخرين.
وقيل: بل هي بمعنى الواو، أي: يجمع عليهم الشيئين.
والكبت: الإصابة بمكروه.
وقيل: هو الصَّرع للوجْه واليدين، وعلى هذين فالتاء أصلية، ليست بدلاً من شيء، بل هي مادة مستقلة.
وقيل: أصله من كبده، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وَجَعاً، كقولك: رأسته، أي: أصبت رأسه، ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حُمَيد: أو يكبدَهم - بالدال - والعرب تُبْدِل التاء من الدال، قالوا: هَرَتَ الثوبَ، وهردَه، وسَبَتَ رأسَه، وسَبَدَه - إذا حَلَقَه -.
وقد قيل: إنّ قراءة لاحق أصلها التاء، وإنما أُبدِلت دالاً، كقولهم: سبد رأسه، وهرد الثوب، والأصل فيهما التاء.
فصل
معنى قوله: { لِيَقْطَعَ طَرَفًا } أي: ليُهْلِكَ طائفة.
وقال السُّدِّيُّ: لِيَهْدِمَ رُكْناً من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقُتِل من قادتهم وسادتهم يوم بدر - سبعون، وأُسِر سبعون، ومَنْ حَمَل الآيةَ على أحُد، فقد قُتِل منهم يومئذ ستة عشر، وكانت النُّصرة للمسلمين، حتى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقلبت عليهم.
{ أَوْ يَكْبِتَهُمْ }.
قال الكلبي: يهزمهم.
وقال السُّدي: يلعنهم.
وقال أبو عبيدة: يُهْلِكهم ويصرعهم على وجوههم.
وقيل: يُخْزِيهم والمكبوت الحزين.
وقيل: يَغِيظهم.
وقيل: يُذلهم.
قوله: { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } لن ينالوا خيراً مما كانوا يرجون من الظفر بكم.
والخيبة لا تكون إلا بعد التوقُّع، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقُّع وقبلَه، فنقيض اليأس الرجاء، ونقيض الخيبة: الظفر يقال: خَابَ يَخِيبُ خَيْبَةً.
و { خَآئِبِينَ } نُصِبَ على الحال.