قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية، والباقون بالتحقيق فيهما، ومَد هاتَيْن الهمزَتَيْن - بلا خلاف - قالون عن نافع، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل.
وورش على أصله من نقل حركة الهمزة الأولى إلى لام "قُلْ".
ولا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها، وتحرير مذاهبهم؛ فإنه موضع عسير الضبط، فنقول: الوارد من ذلك في القرآن الكريم ثلاثة مواضع - أعني همزتين، أولاهُمَا مفتوحةُ، والثانية مضمومة - الأول: هذا الموضع.
والثاني: { { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ص: 8]، والثالث: { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [القمر: 25]، والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتب:
أحدها: مرتبة قالون، وهي تسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ، وإدخال ألِفٍ بين الهمزتين - بلا خلاف - كذا رواه عن نافع.
الثانية: مرتبة وَرْش وابن كثير، وهي تسهيل الثانية - أيضاً - بين بين، من غير إدخال ألِفٍ بين الهمزتين بخلاف كذا روى ورش عن نافع.
الثالثة: مرتبة الكوفيين وابنِ ذكوان عن ابن عامر، وهي تحقيق الثانيةِ، من غير إدخال ألف بلا خلاف-، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر.
الرابعة: مرتبة هشام، وهي أنه رُويَ عنه ثلاثةُ أوجه:
الأول: التحقيق، وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في الثلاثِ مواضِعَ.
الثاني: التحقيق، وإدخال ألف بينهما في المواضع الثلاثة.
الثالث: التفرقة بين السور، فيُحقق ويُقْصِر في هذه السورة، ويُسَهِّل ويمد في السورتين الأخْرَيَيْن.
الخامسة: مرتبة أبي عمرو، وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه. وتسهيل هذه الأوجه تقدم في أول البقرة.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِئَ: أَؤُنَبِّئكم - بواوٍ خالصةٍ بعد الهمزةِ؛ لانضمامها - وليس ذلك بالوَجْه.
وفي قوله: { أَؤُنَبِّئُكُم } التفاتٌ من الغيبة - في قوله: "للنَّاسِ" - إلى الخطاب، تشريفاً لهم.
"بِخَيْرٍ" متعلق بالفعل، وهذا الفعل لَمَّا لم يضمن معنى "أعلم" تعدى لاثنين، الأول تعدى إليه بنفسه، وإلى الثاني بالحرف، ولو ضُمِّنَ معناها لتعدَّى إلى ثلاثة.
و "مِنْ ذَلِكُمْ" متعلق بـ "خَيْر"؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل، والإشارة بـ "ذَلِكُمْ" إلى ما تقدم من ذكر الشهوات وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع، ولا يجوز أن تكون "خير" ليست للتفضيل، ويكون المراد به خيراً من الخيور، ويكون "مِنْ" صفة لقوله: "خَيْرٍ".
قال أبو البقاء: "من" في موضع نَصْب بخير، تقديره [بما يفضل من ذلك، ولا يجوز أن يكون صلة لخير؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها] مما رغبوا فيه بعضاً لِمَا زهدوا فيه من الأموال ونحوها، وتابَعَهُ في ذلك أبو حيان.
فصل
كيفية النَّظم أنه - تعالى - لما عدَّد نِعَم الدنيا بيَّن - هنا - أن منافع الآخرة خيرٌ منها كما قال في آية أخرى: { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [الأعلى: 17]؛ لأن نعم الدنيا مشوبَةٌ بالأنكاد، فانيةٌ، ونِعَم الآخرة خالصةٌ، باقيةٌ.
قوله: { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } يجوز فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلّق بخَيْرٍ، ويكون الكلام تم هنا، وتُرْفَع "جَنَّاتٌ" على خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره هو جنات، أي ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات، فالجملة بيان وتفسير للخَيْريَّة، ومثله قوله تعالى: { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكُمُ } [الحج: 72]، ثم قال:
{ ٱلنَّارُ وَعَدَهَا ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الحج: 72] ويؤيد ذلك قراءة "جَنَّاتٍ" - بكسر التاء - على أنها بدل من "بِخَيْرٍ" فهي بيان للخير.
والثاني: أن الجارَّ خبر مقدم، و "جَنَّاتٌ" مبتدأ مؤخر، أو يكون "جَنَّاتٌ" فاعلاً بالجار قبله - وإن لم يعتمد - عند مَنْ يَرَى ذلك، وعلى هذين التقديرين، فالكلام تم عند قوله: { مِّن ذٰلِكُمْ }، ثم ابتدأ بهذه الجملة، وهي - أيضاً مبينة ومفسِّرة للخَيْرية.
وأما الوجهان الأخيران فذكرهما مكي - مع جَرِّ "جَنَّات" - يعني أنه لم يُجِز الوجهين إلا إذا جررت "جنات" بدلاً من "خَيْر".
الوجه الأول: أنه متعلق بـ "أؤُنَبِّئُكُمْ".
الوجه الثاني: أنه صفة لـ "خَيْر".
ولا بد من إيراد نصه؛ فإن فيه إشكالاً، قال -رحمه الله - بعد أن ذكر أن "لِلَّذِينَ" خبر مقدَّم، و "جنات" مبتدأ -: "ويجوز الخفض في "جناتٍ" على البدل من "خَيْر" على أن تجعل اللام في "لِلَّذِينَ" متعلقةً بـ "أؤُنَبِّئُكُمْ"، أو تجعلها صفة لـ "خَيْر" ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض "جنات"؛ لأن حروف الجر، والظروف إذا تعلقت بمحذوف، وقد قامت مقامه - صار فيها ضمير مقدر مرفوع، واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير، كقولك: لزيد مال، في الدار زيد، خلفك عمرو، فلا بد من رفع "جَنَّات" إذا تعلقت اللام بمحذوف، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت "جَنَّات" بفعلها، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف، أو حروف الخفض صفةً لما قبلها، فحينئذ يتمكن ويحْسُن رفعُ الاسم بالاستقرار، وقد شرحنا ذلك وبيناه في أمثلة؛ وكذلك إذا كانت أحوالاً".
فقد جوَّز تعلُّقَ هذه اللام بـ "أؤُنَبِّئُكُمْ" أو بمحذوف على أنها صفة لخير، بشرط أن يُجَرَّ لفظُ "جنات" على البدل من "خَيْر" وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع "جَنَّات" وعلَّل ذلك بأن حروف الجر تتعلق بمحذوف، يحمل الضمير، فوجب أن يُؤتَى له بمبتدأ هو "جَنَّات" وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم؛ إذ لقائل أن يقول: أجوز تعلق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع "جَنَّات" على أنها خبر مبتدأ محذوف، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت ولكن الوجهين ضعيفان من جهة أخرى، وهو أن المعنى ليس واضحاً بما ذكر مع أنّ جعله صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة بـ "أؤُنَبِّئُكُمْ"؛ إذ لا معنى له، وقوله - في الظروف وحروف الجر -: إنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات.. وكذلك إن كانت أحوالاً - فيه قصور؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع:
منها: الموضعان اللذان ذكرهما.
وثالثها: أن يقعا صلة.
ورابعها: أن يقعا خبراً لمبتدأ.
وخامسها: أن تعتمد على نفي.
وسادسها: أن تعتمد على استفهام. وقد تقدم تحرير هذا.
فصل
قد بيَّنا في قوله تعالى: { { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] معنى التقوى، وبالجملة فإن المتقي هو الآتي بالواجبات، المحترز عن المحظورات.
وقيل: التقوى عبارة عن اتقاء الشرك؛ لأن التقوى - في عُرْف القرآن - مختصة بالإيمان. قال تعالى: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } [الفتح: 26]، وظاهر اللفظ يطابق الامتنان بحقيقة التقوى، وهي حاصلةٌ عند حصولِ اتقاء الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك، فوجب حملُه على مَن اتقى الكفرَ:
قوله: { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه في محل نصب على الحال من "جَنَّات"؛ لأنه - في الأصل - صفة لها، فلما قُدِّم نصب حالاً.
الثاني: أنه متعلق بما تعلق به "لِلَّذِينَ" من الاستقرار، إذَا جعلناه خبراً، أو رافعاً "جَنَّاتٌ" بالفاعلية، أما إذا علقته بـ "خَيْر" أو "أؤنَبَّئُكُمْ" فلا؛ لعدم تضمينه الاستقرار.
الثالث: أن يكون معمولاً لـ "تَجْرِي"، وهذا لا يساعد عليه المعنى.
الرابع: أنه متعلق بـ "خَيْر"، كما تعلق به "لِلَّذِينَ"، كما تقدم.
ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله: { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } ثم يُبْتَدَأ بقوله: { عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ } - على الابتداء والخبر - وتكُون الجملة مبيِّنة ومفسِّرة للخيرية، كما تقدم في غيرها. وقرأ يعقوب "جَنَّاتٍ" بكسر التاء - وفيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها بدل من لفظ "بِخَيْر" فتكون مجرورة، وهي بيان له - كما تقدم.
الثاني: أنها بدل من محل "بِخَيْر" - ومحله النصب - وهو في المعنى كالأول.
الثالث: أنه منصوب بإضمار "أعني"، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر.
قوله: "تَجْرِي" صفة لـِ "جَنَّات"، فهو في محل رفع، أو نصب، أو جر - على حسب القراءتين، والتخاريج فيهما - و "مِنْ تَحْتِهَا" متعلق بـ "تَجْرِي" وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حال من "الأنهار" قال: أي: تجري الأنهار كائنةً تحتها، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه.
قوله: { خَالِدِينَ } حال، وصاحبها الضمير المستكن في "لِلَّذِينَ" والعامل فيها - حينئذ - الاستقرار المقدَّر.
وقال أبو البقاء: "إن شئت من الهاء في: تَحْتِهَا"، وهذا الذي ذكره - إنما يتمشى على مذهب الكوفيين، وذلك أن جعلها حالاً من الهاء في تحتها يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى؛ لأن الخلود من أوصاف الجنة ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاءِ، فكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير مرفوع بارز، هو الذي كان مستتراً في الصفة نحو: زيد هند ضاربها هو، والكوفيون يقولون: إن أمِنَ اللبس - كهذا - لم يجب بروز الضمير، وإلا يجب، والبصريون لا يفرقون. وتقدم البحث في ذلك.
قوله: { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ } من رفع "جَنَّاتٌ" - كما هو المشهور - كان عطف "أزْواجٌ" و "رِضْوانٌ" سَهْلاً، ومَنْ كَسَر التاء فيجب - حينئذ - على قراءته أن يكون مرفوعاً على أنه مبتدأ خبره مضمر، تقديره: ولهم أزواجٌ، ولهم رضوان، وتقدم الكلام على "أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ" في البقرة.
فصل
اعلم أن النعمة - وإن عَظُمَت - لن تكمل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنْس إلاَّ بِهِنَّ وقد وصفهن بصفة واحدةٍ جامعةٍ لكل مطلوب، فقال: "مُطَهَّرَةٌ" فيدخل في ذلك الطهارة من الحيض والنفاس والأخلاق الدنيئة، والقُبْح، وتشويه الخِلْقة، وسوء العِشرة، وسائر ما ينفر عنه الطبع.
قوله: "وَرِضْوَان" فيه لغتان:
ضم الراء، وهي لغة تميم وقيس، وبها قرأ عاصم في جميع القرآن إلا في الثانية من سورة المائدة وهي { { مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } [المائدة: 16]، فبعضهم نقل عنه الجَزْم بكسرها، وبعضهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة.
والكسر، وهو لغة الحجاز، وبها قرأ الباقون - وهل هما بمعنى واحد، أو بَينهما فرقٌ؟
قولان:
أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحد - كالعُدْوان.
قال الفرّاء: "رَضِيتُ رِضاً، ورِضْوَاناً ورُضْواناً، ومثل الرِّضْوَان - بالكسر - الحِرْمان، وبالضم الطُّغْيَان، والرُّجحان، والكُفْران، والشُّكْران".
الثاني: أن المكسور اسم، ومنه رِضوان: خازن الجنة صلّى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته. والمضموم هو المصدر، و "مِنَ اللهِ" صفة لـِ "رِضْوَان".
فصل
روى أبو سعيد الخدري أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: ألاَ أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أسْخَطْ عَلَيْكُمُ بَعْدَهُ أبَداً" .
ثم قال: { وَٱللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ }، أي: عالم بمصالحهم، فيجب أن يَرْضَوْا لأنفسهم ما اختاره لهم.
قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ } يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ، والنصبَ، والجرَّ، فالرفع من وجهينِ:
أحدهما: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: الذين يقولون كذا مستجاب لهم، أو لهم ذلك الجزاء المذكور.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون؟ فقيل: الذين يقولون كيت، وكيت.
والنصب من وجه واحدٍ، وهو النصب بإضمار أعني، أو أمدح، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر، ويُسَمَّيَان: الرفع على القطع، والنصب على القطع.
والجر من وجهين:
أحدهما: النعت.
والثاني: البدل، ثم لك - في جعله نَعْتاً أو بَدَلاً - وجهان:
أحدهما: جعله نعتاً لِلَّذِينَ اتَّقَوا، أو بدلاً منه.
والثاني: جعله نعتاً للعباد، أو بدلاً منهم.
واستضعف أبو البقاء جعله نعتاً للعباد، قال: [ويضعف أن يكون صفةً للعباد]؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم اللهِ، وهو جائز - على ضعفه - ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة، فهو يُجازيهم عليها، كما قال: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم } [النساء: 25].
والجملة من قوله: { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ } يجوز أن تكون معترضة، لا محل لها، إذا جعلتَ "الَّذِينَ يَقُولُونَ" تابعاً لـِ "الَّذِينَ اتَّقَوا" - نعتاً أو بدلاً-، وإن جعلته مرفوعاً، أو منصوباً فلا.
فصل
اعلم أن قولَهم { رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } يدل على أنهم توسَّلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة، والله - تعالى - مدحهم بذلك، وأثْنَى عليهم، فدلَّ هذا على أن العبد - بمجرد الإيمان - يستوجب الرحمةَ والمغفرةَ من الله تعالى، ويؤيِّدُ هذا قولُه تعالى: { { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } [آل عمران: 193].
فإن قيل: أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة؛ حيث أتبع هذه الآية بقوله: { ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ }؟
فالجواب: أن هذه الآيةَ تؤكد ما قلنا؛ لأنه - تعالى - جعل مجردَ الإيمانِ وسيلةً إلى طَلَب المغفرة، ثم ذكر بعده صفاتِ المطيعين، وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائطَ للحصول على المغفرة لكان ذِكرُها قبل طَلَب المغفرة أولى، فلما رتَّب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعده هذه الصفاتِ، علمنا أن هذه الصفاتِ غيرُ معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي مُعْتَبَرَة في حصول كمال الدرجات.
قوله تعالى: { ٱلصَّابِرِينَ } إن قدرت { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ } منصوبَ المحل، أو مجروره - على ما تقدم - كان "الصَّابِرِينَ" نعتاً له - على كلا التقديرين، فيجوز أن يكون في محل نصب، وأن يكون في محل جر، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب "الصَّابِرِينَ" بإضمار "أعني".
فصل
المراد بالصابرين في أداء المأمورات، وترك المحظورات، وعلى البأساء، والضراء وحين البأس، والصادقين في إيمانهم.
قال قتادة: "هم قوم صدقت نِيَّاتُهم، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم، فصدقوا في السر والعلانية".
فالصدق يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً، يقال: صدق فلان في القتال، وصدق في الحكمة، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ.
"القانِتِينَ" المطيعين، المُصَلِّين، والقنوت: عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها، "والمنفقين" أموالهم في طاعة الله، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه، وأهله، وأقاربه، وصلة رحمه، وفي الزكاة، والجهاد، وسائر وجوه البر.
{ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ }.
قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ: يعني المصلين بالأسحار.
وعن زيد بن أسلم: هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ.
وقال الحسنُ: مدوا الصلاة إلى السَّحَر، ثم استغفروا.
وقال نافع: كان ابن عمر يُحْيِي الليل، ثم يقول: يا نافِعُ، أسْحَرْنَا؟ فيقول: لا، فيعاوِدُ الصلاةَ، فإذا قلتُ: نَعَمْ، قعد يستغفر اللهَ، ويدعو حتى يُصْبحَ.
وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أنا الْملِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ؟" رواه مسلم.
قال القرطبيُّ: وقد اختلف في تأويله، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن الله - عز وجل - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً، يَقُولُ: هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟" صححه أبو محمد عبدُ الحق، وهو يرفع الإشكال، ويوضِّح كلَّ احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي: ينزل مَلَكُ رَبِّنَا، فيقول. وقد رُوِيَ "يُنْزَلُ" - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا.
وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه: "لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ". واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبوديةِ، كانت الطاعة أكملَ، وأشقَّ، فيكثر ثوابُها، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً، فيكون وقتاً للوجود العام.
و "الأسْحَار" جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ، ايُّ وقت هو؟
فقال الزّجّاج وجماعة: إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر، ومنه تسحر، أي: أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ- إذا سافر فيه -.
قال زُهَيْر: [الطويل]
1364 - بَكَرْنَ بُكُوراً، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ
وقال الرَّاغب: "السَّحَر: اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت، ويقال: لَقِيتُه بأعلى السحرين، والْمُسْحِر: الخارج سَحَراً، والسّحور: اسم للطعام المأكول سَحَراً، والتَّسَحُّر: أكلُه".
والمُسْتَحِر: الطائر الصيَّاح في السَّحَر.
قال الشاعر: [المتقارب]
1365 - يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَحِرْ
وقال بعضهم: أسْحَر الطائرُ، أي: صاح، وتحرك في صياحه، وأنشد البيت، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر، ويقال: أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي: دخل في وقت الظهر.
قال: [المتقارب]
1366 - وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَا
ومثله: استحر أيضاً.
وقال بعضهم: السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.
وقال بعضهم - أيضاً -: السحر - عند العرب - من آخر الليل، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه، يقال له سحر قيل: وسمي السحر سحراً؛ لخفائه، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ؛ للُطْفِهِ وخفائه.
والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها -: "مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري" سُمِّي بذلك لخفائه.
و "سَحَر" فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه، والتصرف وعدمه، والإعراب وعدمه، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى -.
فإن قيل: كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ، وكلُّها لقبيل واحد؟ ففيه جوابان:
أحدهما: أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً -، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح.
الثاني: أن هذه الصفات متفرقة فيهم، فبعضُهم صابر، وبعضُهم صادق، فالموصوف بها متعدِّد. هذا كلام أبي البقاء.
وقال الزمخشريُّ: "الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها".
قال أبو حيّان: "ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال".
قال شهاب الدين: "قد علمه علماء البيان، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب".
والباء في قوله: "بِالأسْحَارِ" بمعنى "في".