قال جابرٌ، وابنُ عبّاسٍ، وقتادةُ، وأنسٌ: "نزلت في النجاشي - ملك الحبشة - واسمه أصْحَمة، وهو - بالعربية - عطية، وذلك أنه لما مات نعاه جبريلُ - عليه السّلام - لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اخرجوا، فصلُّوا على أخ لكم مات بِغَيْر أرْضِكم، فقالوا: مَنْ هو؟ قال النجاشيُّ، فخرج إلى البقيع، وكُشِفَ له إلى أرض الحبشةِ، فأبصر سريرَ النجاشي، وصَلَّى عليه أربعَ تكبيراتٍ، واستغفر له، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يُصلي على عِلجٍ حبشيٍّ، نصرانيٍّ، لم يَرَه قطّ، وليس على دينه." فأنزل اللَّه هذه الآية.
قال عطاءٌ: نزلت في أربعينَ رجلاً من أهل نجرانَ، واثنينَ وثلاثينَ من الحبشة، وثمانيةٍ من الرُّوم، كانوا على دينِ عيسى فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جُرَيْحٍ: نزلت في عبد اللَّهِ بن سلام وأصحابه. وقال مُجَاهدٌ: نزلتْ في مؤمني أهل الكتاب كُلِّهم.
قوله: {لَمَن يُؤْمِنُ} اللام لام الابتداء، دخلت على اسم "إنَّ" لتأخُّرهِ عنها، و "مِنْ أهْلِ" خبرٌ مقدَّمٌ و "من" يجوز أن تكونَ موصولةً - وهو الأظهر - وموصوفة، أي: لـ "قوماً"، و "يؤمن" صلة - على الأول - فلا محلَّ له، وصفة - على الثاني - فمحله النصب، وأتى - هنا - بالصِّلة مستقبلة - وإن كان ذلك قد مضى - دلالة على الاستمرار والديمومة.
والمعنى: إن من أهْلِ الكتابِ مَنْ يُؤمِن باللَّهِ وما أنْزِل إليكم، وهو القرآنُ، وما أنْزِلَ إلَيْهَم، وهو التوراة والإنجيل.
قوله: {خَاشِعِينَ} فيه أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه حالٌ من الضمير في "يؤمن" وجَمَعَه، حَمْلاً على معنى "مَنْ" كما جمع في قوله: "إلَيْهِمْ" وبدأ بالحمل على اللفظ في "يُؤْمِن" ثم بالحَمْلِ على المعنى؛ لأنه الأولى.
ثانيها: أنه حال من الضمير في "إلَيْهِمْ" فالعامل فيه "أنْزِلَ".
ثالثها: أنه حال من الضمير في "يَشْتَرُون" وتقديم ما في حيِّز "لا" عليها جائز على الصحيح وتقدم شيء من ذلك في الفاتحة.
رابعها: أنه صفة لـِ "من" إذا قيل بأنها نكرة موصوفة. وأما الأوجه الثلاثة السابقة فجائزة، سواء كانت موصولةٌ، أو نكرة موصوفة.
قوله: "للَّهِ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق بـ "خَاشِعِينَ" أي: لأجل الله.
ثانيهما: أنه متعلق بـ "لاَ يَشْتَرُونَ" ذكره أبو البقاء، قال: "وهو في نية التأخير، أي: لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله".
قوله: {لاَ يَشْتَرُونَ} كقوله: {خَاشِعِينَ} إلا في الوجه الثالث، لتعذره، ويزيد عليها وجهاً آخر، وهو أن يكون حالاً من الضمير المستكن في "خَاشِعينَ" أي: غير مشترين. وتقدم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل فيه في البقرة.
ومعناه: أنهم لا يُحَرِّفُونَ كُتُبَهم، ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكلة، كفعل غيرهم من رؤساءِ اليهودِ.
واعلم أنه - تعالى - لما بيَّن أنَّ مصير الكفار إلى العقاب، بيَّن - هنا - أنَّ مَنْ آمنَ منهم فإن مَصيرَه إلى الثّوابِ.
وقد وصفهم بصفات:
أولها: الإيمان بالله.
ثانيها: الإيمان بما أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم.
وثالثها: الإيمان بما أُنْزِلَ على الأنبياء قَبْلَه.
ورابعها: كونهم خَاشِعِينَ لله.
وخامسها: أنهم لا يشترون بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً، كما يفعله أهلُ الكتابِ ممن كان يكتم أمرَ الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: {أُوْلۤـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ} "أولئك" مبتدأ، وأما "لَهُمْ أجْرُهُمْ" ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون "لَهُمْ" خبراً مقدَّماً، و "أجْرُهُمْ" مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الأول، وعلى هذا فالظرفُ فيه وجهانِ:
الأول: أنه متعلق بـ "أجْرُهُمْ".
الثاني: أنه حال من الضمير في "لَهُمْ" وهو ضمير الأجر، لأنه واقع خبراً.
ثانيها: أن يرتفع "أجْرُهُمْ" بالجارِّ قبله، وفي الظرف الوجهان، إلا أنّ الحال من "أجْرُهُمْ" الظاهر؛ لأن "لَهُمْ" لا ضمير فيه حينئذ.
ثالثها: أن الظرف هو خبر "أجْرُهُمْ" و "لَهُمْ" متعلق بما تعلَّق به من هذا الظرف من الثبوت والاستقرار. ومن هنا إلى آخر السورة تقدم إعراب نظائره.