خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٣٣
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٣٤
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

لما بين - تعالى - أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسول بين علو درجات الرُّسُل فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً } "نوح" اسم أعجمي، لا اشتقاق له عند محققي النحويين، وزعم بعضهم أنه مشتق من النُّواح. وهذا كما تقدم لهم في آدم وإسحاق ويعقوب، وهو منصرف وإن كان فيه عِلَّتان فَرعيَّتان: العلمية والعجمة الشخصية - لخفّة بنائه؛ لكونه ثلاثياً ساكن الوسط، وقد جوَّز بعضهم منعَه؛ قياساً على "هند" وبابها لا سماعاً؛ إذْ لم يُسمَع إلا مصروفاً وادعى الفرّاء أن في الكلام حذفَ مضاف، تقديره: إن الله اصطَفى دينَ آدمَ.
قال التبريزي: "وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه لو كان الأمر على ذلك لقيل: ونوحٍ - بالجر - إذ الأصل دين آدم ودين نوح".
وهذه سقطة من التبريزيُّ؛ إذْ لا يلزم أنه إذا حُذِفَ المضاف، بقي المضاف إليه [على جره] - حتى يرد على الفراء بذلك، بل المشهور - الذي لا يعرف الفصحاء غيره - إعراب المضاف إليه بإعراب المضاف حين حذفه، ولا يجوز بقاؤه على جرِّه إلا في قليل من الكلام، بشَرْطٍ مذكورٍ في النحو يأتي في الأنفال إن شاء الله تعالى.
وكان ينبغي - على رأي التبريزيّ: أن يكون قوله تعالى:
{ { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] بجر "القرية"؛ لأن الكُلَّ هو وغيره - يقولون: هذا على حَذْف مضاف، تقديره: أهل القرية.
قال القرطبيُّ: "وهو - نوح - شيخُ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض - بعد آدم - عليه الصلاة والسلام - بتحريم البنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وسائر القرابات المحرمة، ومن قال - من المؤرخين - إن إدريس كان قبلَه فقد وهم" على ما يأتي بيانه في الأعراف - إن شاء الله تعالى.
وعمران اسم أعجميٌّ.
وقيل: عربيّ، مشتق من العَمْر، وعلى كلا القولين فهو ممنوع من الصرف؛ للعلمية، و العُجْمة الشخصية، وإما للعلمية، وزيادة الألِف والنون.
قوله: { عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } متعلق بـ "اصْطَفَى".
قوله: "اصْطَفَى" يتعدى بـ "مِنْ" نحو اصطفيتك مِن الناس.
فالجواب: أنه ضُمِّنَ معنى "فَضَّل"، أي: فضَّلَهُم بالاصطفاء.
فصل
اعلم أن المخلوقات على قسمين: مكلَّف، وغير مكلَّف، واتفقوا على أن المكلَّف أفضل. وأصناف المكلفين أربعة: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين.
أما الملائكة فقد روي أنهم خُلِقوا من الريح، ولهذا قدروا على الطيران، وعلى حمل العرش، وسُمُّوا روحانيين.
وروي أنهم خُلِقوا من النور، ولهذا صَفَتْ وأخلصت لله - تعالى - ويُمْكن الجمع بين الروايتين بأن نقول: أبدانهم من الريح، وأرواحهم من النور وهؤلاء سكان عالم السموات.
أما الشياطين فهم كفرة، أما إبليس فكُفْره ظاهر؛ لقوله تعالى:
{ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة: 34]. وأما سائر الشياطين فكفرة؛ لقوله تعالى: { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام: 121].
ومن خواص الشياطين أنهم أعداء للبشر، قال تعالى:
{ { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [الكهف: 50] وقال: { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } [الأنعام: 112].
وهم مخلوقون من النار؛ لقوله تعالى - حكاية عن إبليس -:
{ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } [الأعراف: 12].
وأما الجن فمنهم كافر، ومنهم مؤمن، قال تعالى:
{ { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ } [الجن: 14].
وأما الإنس فوالدهم الأول آدم؛ لقوله تعالى:
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59] وقوله: { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء: 1].
واتفق العقلاءُ على أن البشر أفضل من الجنِّ والشياطين، واختلفوا هل البشر أفضل أم الْمَلَك؟ كما قدمناه في البقرة، واستدل القائلون بأن البشر أفضل بهذه الآية؛ لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة، وعُلُوِّ الدرجة، فكما بيّن - تعالى - أنه اصطفى آدم وأولادَه من الأنبياء على كل العالمين، وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة؛ لأنهم من العالمين.
فإن قيل: إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض؛ لأن الجمع الكثير إذا وُصفُوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين، يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محالٌ، ولو حملناه على كونه أفضل المعنى، دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى - في صفة بني إسرائيل -
{ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة: 47] ولا يلزم كونهم أفضل من محمَّد صلى الله عليه وسلم بل قلنا: المراد به عالمو زمان كل واحد منهم، فكذا هنا.
فالجواب أن ظاهر قوله: اصْطَفَى آدم على العالمين، يتناول كل مَنْ يَصِحُّ إطلاق لفظ "العالم" عليه فيندرج فيه الملك، غاية ما في الباب أنه تُرِكَ العملُ بعمومه - في بعض الصور - لدليل قام عليه فلا يجوز أن يتركه في سائر الصور من غير دليل.
فصل
الاصطفاء - في اللغة - الاختيار فمعنى اصْطَفاهُم: أي: جعلهم صفوةَ خلقه تمثيلاً بما يُشَاهَد من الشيء الذي يُصَفَّى من الكدورة، ويقال: صفَّاهم صَفْوَةً، وصِفْوَةً، وصُفْوَةً.
ونظير هذه الآية قوله - لموسى -:
{ { إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ } [الأعراف: 144].
وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب:
{ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ } [ص: 47] وفي الآية قولان:
أحدهما: المعنى أن الله اصطفى دين آدمَ ودين نوح - على حذف مضاف - كما تقدم.
الثاني: أن الله اصطفاهم؛ أي: صفَّاهم من الصفاتِ الذميمة، وزينهم بالصفات الحميدة، وهذا أولى لعدم الاحتياج إلى الإضمار، ولموافقة قوله:
{ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124].
فصل
قيل: اختار الله آدم بخمسة أشياءٍ:
أولها: أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته.
الثاني: أنه علَّمه الأسماء كلَّها.
الثالث: أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له.
الرابع: أنه أسكنه الجنة.
الخامس: أنه جعله أبا البشر.
واختار نوحاً بخمسة أشياءٍ:
أولها: أنه جعله أبا البشر - بعد آدم -؛ لأن الناس كلَّهم غرقوا، وصار ذريته هم الباقين.
الثاني: أنه أطال عمره، ويقال: "طوبى لمن طال عمره وحسن عمله".
الثالث: أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين.
الرابع: أنه حمله على السفينة.
الخامس: أنه كان أول من نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يُحَرَّم تزويج الخالات والعمات.
واختار إبراهيم بخمسة أشياءٍ:
أولها: أنه خرج منها جراً إلى ربه ليَهْدِيه.
الثاني: أنه اتخذه خليلاً.
الثالث: أنه أنجاه من النار.
الرابع: أنه جعله للناس إماماً.
الخامس: أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن.
وأما آل عمران فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنهم اختارهما على العالمين؛ حيث أنزل على قومهما المن والسلْوَى، وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم وإن كان عمران أبا مريم فإنه اصطفى مريم بولادة عيسى من غير أب، وذلك لم يكن لأحد من العالمين والله أعلم.
فصل
ذكر الحليمي في كتابه - المنهاج للأنبياء - قال: لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القُوَى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مُدْرِكة، وإمَّا محرِّكة؛ أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة:
أحدها: القوة الباصرة، فكان صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بكمال هذه الصفة، لقوله:
"زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها" وقوله: "أقيموا صفوفكم وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري" ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم - عليه السلام - قال تعالى: { { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الأنعام: 75] وذكر في تفسيرها أنه - تعالى قَوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل.
قال الحليمي: وهذا غير مُسْتبعَد؛ لأن البُصراء يتفاوتون، فيُرْوَى أن زرقاء اليمامةِ كانت تُبْصِر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بَصَرُ النبي صلى الله عليه وسلم أقْوَى من بصرها.
وثانيها: القوة السامعة، فكان - عليه السلام - أقوى الناسِ في هذه القوة؛ لقوله:
"أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى" .
وسمع أطيط السماء وسمع دوياً فذكر أنه هويّ صخرة قذفت في جهنم، فلم تبلغ مقرها إلى الآن.
قال الحليمي: ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا؛ فإنهم زعموا أن فيثاغورث راضَ نفسه حتى سمع حفيف الفلك. ونظير هذه القوة لسليمان - عليه السلام - في قصة النملة حيث قالت:
{ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ } [النمل: 18] فالله - تعالى - أسمع سليمان كلامَ النملة، وأوقفه على معناه وحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم حين تكلم مع الذئب والبعير والضَّبِّ.
وثالثها: تقوية قوة الشَّمِّ، كما في حق يعقوب - حين قال:
{ { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } [يوسف: 94] فأحسّ بها من مسيرة ثلاثة أيامٍ.
ورابعها: تقوية قوة الذوقِ، كما في حق نبيِّنَا صلى الله عليه وسلم حين قال:
"إن هذا الذراع يخبرني بأنه مسموم" .
خامسها: تقوية قوة اللمس، كما في حق الخليل - عليه السلام - حيث جُعِلَتْ له النارُ بَرْداً وسلاماً وكيف يستبعد هذا ويُشَاهَد مثلُه في السَّمَنْدَل، والنعامة.
وأما الحواس الباطنة فمنها: قوة الحفظ، قال تعالى:
{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [الأعلى: 6]، ومنها: قوة الذكاء: قال عليٌّ - رضي الله عنه -: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم، واستنبط من كلّ باب ألف باب. فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي صلى الله عليه وسلم؟
أما القوى المحرِّكة، فمثل عروج الرسول إلى المعراج، وعروج عيسى حيًّا إلى السماء، ورَفْع إدريس وإلياس - على ما وردت به الأخبار - قال تعالى:
{ قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [النمل: 40].
وأما القوة الروحانية العقلية، فلا بد أن تكون في غاية الكمال، ونهاية الصفاء، إذا عرفت هذا فقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً } معناه أن الله اصطفى آدم، إمَّا من سكان العالم السفلي - على قول من يقول: الملك أفضل من البشر - أو من سكان العالم العلويّ والسفليّ - على قول من يقول: البشر أفضل المخلوقات - ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة، من أولاد آدم، وهم شيث وأولاده، إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم حصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو، فوضع النبوة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو، واستمرَّ ذلك إلى زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلما ظهر محمد نُقِل نور النبوة، ونور الملك إليه، وبقيا - أعني الدين والملك لا تباعد بينهما إلى قيام الساعة.
فصل
من الناس من قال: المرادُ بآل إبراهيم: المؤمنون، لقوله تعالى:
{ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [غافر: 46] والصحيح أن المراد بهم الأولاد: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم.
وقيل: المراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم وعمران نفسهما؛ لقوله:
{ { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَٰرُونَ } [البقرة: 248]، وقوله: صلى الله عليه وسلم "لَقَد أعُطيَ مِزْمَاراً مِنْ مَزِامِيرِ آله دَاوُد" .
وقال الشاعر: [الطويل]

1412- وَلاَ تَنْسَ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أجَنَّهُ عَلِيٌّ وعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ

وقال الآخر: [الوافر]

1413- يُلاَقِي مِنْ تَذَكر آل لَيْلَى كَمَا يَلْقَى السَّليمُ مِنَ العِدَادِ

وقيل: المراد من آل عمران عيسى - عليه السلام - لأن أمه ابنة عمران.
وأما عمران فقيل: والد موسى، وهارون، وأتباعهما من الأنبياء.
وقال الحسن ووهب: المراد عمران بن ماثان، أبو مريم، وقيل اسمه عمران بن أشهم بن أمون، من ولد سليمان وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام - قالوا: وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بأنه والد مريم بذكر قصة مريم عقيبه.
قوله: { ذُرِّيَّةَ } في نَصْبها وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة على البدل مما قبلها، وفي المُبْدَل منه - على هذا - ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من "آدَمَ" وما عُطِفَ عليه وهذا إنَّمَا يتأتَّى على قول من يُطْلِق "الذُّرِّيَّة" على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذَهَب جماعةٌ.
قال الجرجاني: "الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء. وجاز ذلك؛ لأنه من ذرأ الخلق، فالأب ذُرِئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب".
قال الراغبُ: "الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل، لقوله تعالى:
{ حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } [يس: 40] أي: آباءهم، ويقال للنساء: الذراريّ". فعلى هذين القولين صَحَّ جَعْل "ذُرِّيَّةٌ" بدَلاً من "آدم" بما عطف عليه.
قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن يكون بدلاً من "آدم"؛ لأنه ليس بذريته"، وهذا ظاهر إن أراد آدَمَ وحده دون مَنْ عُطِف عليه، وإن أراد "آدم" ومَنْ ذُكِرَ معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذُّرِّيَّة على الآباء.
الثاني - من وجهي البدل - أنها بدل من "نُوح" ومَنْ عطف عليه، وإليه نحا أبو البقاء.
الثالث: أنها بدل من الآلين - أعني آل إبراهيمَ وآل عمرانَ - وإليه نحا الزمخشريُّ. يريد أن الأولين ذرية واحدة.
الوجه الثاني - من وجهي نصب "ذُرِّيَّةً" - النصب على الحال، تقديره: اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض، فالعامل فيها اصطفى. وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة.
قوله: { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } هذه الجملة في موضع نصب، نعتاً لِـ "ذُرِّيَّةً".
فصل
قيل: { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } أي: بعضها من وَلَد بعض.
وقال الحسن وقتادة: { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } في الضلالة.
وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة.
وقيل: بعضها من بعض في التناصُر.
وقيل: بعضها على دين بعض - أي: في التوحيد، والإخلاص، والطاعة كقوله
{ { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } [التوبة: 67]، أي: بسبب اشتراكهم في النفاق.
قوله: { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قال القفَّال: والله سميع لأقوال العباد، عليم بضمائرهم، وأفعالهم، يصطفي من يعلم استقامته قولاً وفعلاً، ونظيره قوله:
{ { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124].
وقيل: إن اليهود كانوا يقولون: نحن من ولد إبراهيم، وآل عمران، فنحن أبناء الله، والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله، وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلامَ باطل، إلا أنه بقي مصراً عليه، ليُطَيِّب قلوبَ العوامِّ، فكأنه - تعالى - يقول: والله { سَمِيعٌ } لهذه الأقوالِ الباطلةِ منكم، "عليم" بأغراضكم الفاسدةِ من هذه الأقوال، فيجازيكم عليها، فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياءِ والرسل وتهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم.