خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦٢
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ
٦٣
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

قال أبو مُسْلِمٍ: هذا الكلام متصل بما قبله، ولا يجوز الوقف على قوله: { ٱلْكَاذِبِينَ }، وتقدير الآية: فنجعلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِيْنَ بأن هذا هو القصص الحقُ، وعلى هذا التقدير كان حق "إنَّ" أن تكون مفتوحةً، إلا أنها كُسِرَت؛ لدخول اللاَّمِ في قوله: { لَهُوَ الْقَصَصُ }، كما في قوله: { { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } [العاديات: 11].
قال الباقون: الكلام تمّ عند قوله: { عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ } وما بعده جملة أخْرَى مستقلة غير مُتعَلِّقةٍ بما قبلها، فَقَوْلُهُ: { هَـٰذَا } الكلام إشارةٌ إلى ما تقدم من الدلائلِ والدعاءِ إلى الْمُبَاهَلَةِ، وأخبار عيسى.
وقيل: هو إشارة لما بعده - وهو قوله: { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ } - وضُعفَ هذا بوجهين:
أحدهما: أنَّ هذا ليس بقصصٍ.
الثاني: أن مقترن بحرف العطف.
واعتذر بعضهم عن الأول، فقال: إن أراد بالقصص الخبر، فيصح على هذا، ويكون التقدير: إن الخبر الحق { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ } ولكن الاعتراض الثاني باقٍ، لم يُجَبْ عنه.
و "هُوَ" يجوز أن يكون فَصْلاً، و "القصص" خبر "إن"، و "الْحَقُّ" صفته، ويجوز أن يكون "هو" مبتدأ و "الْقَصَصُ" خبره، والجملة خبر "إنَّ".
والقصص مصدر قولهم: قَصَّ فلانٌ الحديثَ، يَقُصُّهُ، قَصًّا، وقَصَصاً وأصله: تتبع الأثَر، يقال: فلان خرج يقصُّ أثَرَ فلان، أي: يتبعه، ليعرف أين ذَهَبَ. ومنه قوله:
{ { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [القصص: 11]، أي، اتبعي أثره، وكذلك القاصّ في الكلام، لأنه يتتبع خَبراً بعد خبر. وقد تقدم التنبيه على قراءتي "لهْو" بسكون الهاء وضمها؛ إجراء لها مجرى عضد.
قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: لم جاز دخولُ اللامِ على الفَصْل؟
قلت: إذا جاز دخولُها على الخبر كان دخولُها على الفَصْل أجودَ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ.
قوله: { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ } يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن { مِنْ إِلَـٰهٍ } مبتدأ، و "مِنْ" مزيدة فيه، و "إلاَّ اللهُ" خبره، تقديره: ما إلَهٌ إلا اللهُ، وزيدت "مِنْ" للاستغراق والعموم.
قال الزمخشريُّ: و "مِنْ" - في قوله: { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ } - بمنزلة البناء على الفتح في: لا إلَهَ إلا اللهُ - في إفادة معنى الاستغراق.
قال شهابُ الدينِ: الاستغراق في: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، لم نستفده من البناء على الفتح، بل استفدناه من "مِنْ" المقدَّرة، الدالة على الاستغراق، نَصَّ النحويون على ذلك، واستدلوا عليه بظهورها في قول الشاعر: [الطويل]

1495- فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ وَقَالَ: ألاَ لاَ مِنْ سَبيلٍ إلَى هِنْدٍ

الثاني: أن يكون الخبر مُضْمَراً، تقديره: وما من إله لنا إلا الله، و { إِلاَّ ٱللَّهُ } بدل من موضع { مِنْ إِلَـٰهٍ } لأن موضعه رفع بالابتداء، ولا يجوز في مثله الإبدالُ من اللفظ، لِئَلاّ يلزم زيادة "مِنْ" في الواجب، وذلك لا يجوز عند الجمهور.
ويجوز في مثل هذا التركيب نصب ما بعد "إِلاَّ" على الاستثناء، ولكن لم يُقرأ به، إلا أنَّه جائز لُغَةً أنْ يُقَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ - برفع لفظ الجلالة بدلاً من الموضع، ونصبها على الاستثناء من الضمير المستكن في الخبر المقدر؛ إذ التقدير: لا إله استقر لنا إلا الله.
وقال بَعْضُهُم: دخلت "مِنْ" لإفادة تأكيد النفي؛ لأنك لو قلتَ: ما عندي من الناس أحد، أفاد أن عندك بعض الناس. فإذا قلتَ: ما عندي من الناس من أحدٍ، أفاد أن ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أوْلَى، فثبت أن قوله: { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ } مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحدُ الحقُّ.
قوله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } كقوله: { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ } وفيه إشارةٌ إلى الجواب عن شبهات النَّصَارَى، لأن اعتمادَهم على أمرين:
أحدهما: أنه قدر على إحياء الموتَى وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ، فكأنه - تعالى - قال: هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية، بل لا بُدَّ وأن يكون عزيزاً، غالباً، لا يدفع، ولا يمنع، وأنتم اعترفتم بأن عيسى - عليه السلام - ما كان كذلك، بل قلتم: إنّ اليهودَ قتلوه.
والثاني: أنهم قالوا: إنه كان يُخبر عن الغيوب وغيرها، فكأنه - تعالى - قال: هذا القدرُ من العلم لا يكفي في الإلهية، بل لا بد وأن يكون حَكِيماً، أي: عالماً بجميع المعلومات، وبجميع عواقب الأمورِ.
فَذِكرُ العزيز الحكيم - هاهنا - إشارةٌ إلى الجواب عن هاتَيْنِ الشبهتين، ونظير هذه الآية ما ذكر تعالى في أول السورة من قوله:
{ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [آل عمران: 6].
وقوله: { فَإِنْ تَوَلَّوْا } يجوز أن يكون مضارعاً - حُذِفَتْ منه إحدى التاءَين، تخفيفاً - على حَدِّ قراءة:
{ تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [القدر: 4] و { { تَذَكَّرُون } [الأنعام: 152] - ويؤيد هذا نسق الكلام، ونظمُه في خطاب من تقدم في قوله: { تَعَالَوْا } ثم جرى معهم في الخطاب إلى أن قال لهم: فَإن تولّوا.
قال أبو البقاء: "ويجوز أن يكون مستقبلاً، تقديره: تتولوا - ذكره النَّحَّاسُ - وهو ضعيفٌ؛ لأن حَرْفَ الْمُضَارَعةَِ لا يُحْذَف".
قال شهاب الدين: "وهذا ليس بشيء؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَف - في هذا النحو - من غير خِلافٍ. وسيأتي من ذلك طائفة كثيرة".
وقد أجمعوا على الحذف في قوله:
{ { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } [القدر: 4].
ويجوز أن يكون ماضياً، أي: فإن تَوَلَّى وَفْدُ نجرانَ المطلوب مباهلتهم، ويكون - على ذلك - في الكلام التفات؛ إذْ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبةٍ.
قوله: { بِالْمُفْسِدِينَ } من وقوع الظاهر موقعَ المُضْمَرِ، تنبيهاً على العلة المقتضية للجزاءِ، وكان الأصل: فإن الله عليم بكم - على الأول - وبهم - على الثاني.
فصل
ومعنى الآية: فإن تولوا عما وَصَفْتَ لهم من أنه الواحد، وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً، قادراً على جميع المقدوراتِ، حكيماً، عالماً بالعواقب - مع أن عيسى ما كان كذلك - فاعلم أن تولّيهم وإعراضَهم ليس إلاَّ على سبيل العِنَادِ، فاقطع كلامَك عَنْهُم، وفَوِّضْ أمرك إلى اللهِ؛ فإنه عليم بالمفسدين الذين يعبدون غيرَ اللهِ، مُطَّلِع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادرٌ على مجازاتهم.