خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً
٢٨
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً
٢٩
يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً
٣١
يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٣٢
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً
٣٣
وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً
٣٤
إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْقَانِتَاتِ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلصَّادِقَاتِ وَٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّابِرَاتِ وَٱلْخَاشِعِينَ وَٱلْخَاشِعَاتِ وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَاتِ وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَافِـظَاتِ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
٣٥
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً
٣٦
-الأحزاب

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } الآية وجه التعلق (هو) أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإلى هذا أشار عليه (الصلاة و) السلام بقوله: "الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ" فاللَّه (تعالى لما) أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله: { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 1] ذكره ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قَدَّمَهُنَّ في النفقة.
فصل
قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - (سَأَلْنَهُ) عن عرض الدنيا (شيئاً) وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآلى أن لا يقربهن شهراً ولا يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه فقال عمر: لأعلَمنَّ لكم شأنه قال: فدخلت على رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله: أطلقتهن قال: لا، فقلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال: نعم إنْ شِئْتَ فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ونزلت هذه الآية:
{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التخيير وكانت تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ تسعُ نسوة خمسٌ من قريش عائشةُ بنت أبي بكر, وحفصةُ بنت عمر، وأمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ وأمّ سلمةَ بنت أمية، وسودةُ بنت زَمْعة وغير القرشيات زينب بنتُ جحش الأسدية، وميمونةُ بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حُيَيّ بن أخطب الخَيْبريَّة وجُوَيْرِيةُ بنت الحارث المُصْطَلِقيَّة، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها فقرأ عليها (القرآن) فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة. ورُؤي الفرح في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعنها على ذلك، قال قتادة فلما اخْتَرْن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال: "لاَ تَحِلُّ لَكَ النِّسَاْءُ مِنْ بَعْدُ". وعن جابر بن عبد الله قال: "دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لواحد منهم قال: فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً حوله نساؤه واجماً ساكناً قال: فقال: لأقولَنَّ شيئاً أُضْحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فَوَجأْتُ عنقها فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عُنُقَها وقام عمر إلى حفصة يَجَأُ عنقها كلاهما يقول: تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً ثم نزلت هذه الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ } حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } قال: فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير أَبَويَّ بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أنّ الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً" وروى الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة قالت: "فلما مضت تسعٌ وعشرونَ أعُدُّهن دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: بدأ بي فقلت: يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن فقال: إن الشهر تسع وعشرون" .
فصل
اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا؟ فذهب الحَسَنُ وَقَتَادة وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض للطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى: { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة:
"لا تعجلي حتى تَسْتَشَيري أبوَيْك" وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور. وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضَ طلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً، واختلف العلماء في حكم التخيير فقال عمر وابن مسعود وابن عباس إذا خير رجلٌ امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة وهو قول عمر بن عبد العزيز وابنُ أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن عند أصحاب الرأي تقع طلقةٌ بائنةً إذا اختارت نفسها، وعند الآخرين رجعيةٌ، وقال زيد بن ثابت: إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدةً وإذا اختارت نفسها فثلاثٌ وهو قول الحسن، وروايةً عن مالك. وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة واحدة وإذا اختارت نفسها فطلقة ثانية، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء لما روت عائشة قالت: خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك شيئاً.
قوله: "أُمَتَّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ" العامة على جزمهما، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مجزوم على جواب الشرط، وما بين الشرط وجوابه معترض، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض ومثله في دخول الفاء قوله:

4084 - وَاعْلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعهُ أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا

يريد: واعلم أن سوف يأتي.
والثاني: أن الجواب قوله "فتعالين" و "أمتعكن" جواب لهذا الأمر، وقرأ زيد بن علي "أُمْتِعْكُنَّ"، بتخفيف التاء من "أمتعه" وقرأ حُمَيْد الحَزَّاز "أُمَتِّعُكُنَّ وَأُسَرِّحُكُنَّ" بالرفع فيهما على الاستئناف و "سَرَاحاً" قائم مقام التَّسريح.
فصل
قال ابن الخطيب: وههنا مسائل منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي (صلى الله عليه وسلم) أم لا والجواب أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ للرسالة لأن الله تعالى لما قال (له): "قل لهم" صار من الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا، والظاهر أنه للوجوب ومنه أن واحدة منهم لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً. والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبين المختارة نفسها فإنه من جهة النبي عليه السلام لقوله: { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ومنها أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا إنها لا تبين إلا بإبانة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل كان يجب على النبي عليه (الصلاة و) السلام الطلاق أم لا؟ الظاهر نظراً إلى منصبه عليه (الصلاة و) السلام أنه كان طلاقاً لأن الخُلْفَ في الوعد من النبي غير جائز بخلاف أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد، ومنها أن المطلقة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا؟ والظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنية ومنها أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي عليه (الصلاة و) السلام طلاقها أم لا؟ الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه السلام على معنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتنع منه أصلاً لا بمعنى أنه لو أتى به لعُوقِب أو لعُوتِبَ.
قوله: { أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ } أي من عمل صالحاً منكن كقوله تعالى:
{ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } [لقمان: 22] والأجر العظيم: الكثير الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق حتى لو كان زائداً في الطول يقال له طويل ولو كان زائداً في العرض يقال له: عريض وكذلك العميق فإذا وجدت (منه) الأمور الثلاثة قيل عظيم، فيقال: جبل عظيم إذا كان عالياً ممتداً في الجهات، وإن كان مرتفعاً حيث يقال: جبل عال. إذا عُرف هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن وجهة قبح لما في مأكوله ومشروبه من الضرر وغيره، وأيضاً فهو غير دائم، وأجر الآخرة كثير خالٍ عن جهات القبح دائم فهو عظيم.
قوله تعالى: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ... } الآية العامة على "يأت" بالياء من تحت حملاً على لفظ "مَنْ" لأن "مَنْ "أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والجمع (و) المذكر والمؤنث، وزيدُ بن علي، والجَحْدَريُّ، ويعقوب بالتاء من فوق حملاً على معناها لأنه يرشح بقوله: "منْكُنَّ" حال من فاعل "يأْتِ" وتقدم القراءة في "مبينة" بالنسبة لكسر الياء وفتحها، في النساء.
قوله: "يضاعف" قرأ عمرو "يَضَعَّف" - بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحة على البناء للمفعول - العذابُ بالرفع لقيامة مقام الفاعل، وقرأ ابن كثير وابن عامر "يُضَعِّف" - بنون العظمة وتشديد العين مكسورة على البناء للفاعل - العَذَابَ بالنصب على المفعول به وقرأ الباقون "يُضَاعَف" من المفاعلة مبنياً للمفعول العذابُ بالرفع لقيامه مقام الفاعل (وقد) تقدم توجيه التضعيف والمضاعفة في سورة البقرة.
فصل
قال ابن عباس المراد هنا بالفاحشة النشوز وسوء الخلق، وقيل: هو كقوله تعالى:
{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65]. واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خير نساءه واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن بالتوقي عما يسوء النبي ويقبح بهن من الفاشحة التي هي أصعب على الزوج من كل ما يأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان:
إحدهما: أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك لإيذاء قلبه والإزراء بمَنْصِبِه وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي عليه السلام وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي على النبي ويكون ذلك الغير خيراً عندها من النبي وأولى والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين.
وثانيهما: أن هذا إشارة إلى شرفهن، لأن الحرة عذابها ضعف عذاب الأمة إظهاراً لشرفها ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم فكذلك زوجاته اللائي هن أمهات المؤمنين، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأَمَةِ بالنسبة إلى الحرة، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع في بعض الصور جزماً وفي بعض (يقعُ) جزماً، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين، فقوله تعالى: { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ } من القبيل الأولى فإن الأنبياء صان الله زوجاتهم عن الفاحشة ثم قال: { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكنّ شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن فليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم وشفعائهم وإخوانهم.
قوله: { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ } أي يطع الله ورسوله وهذا بيان لزيادة ثوابهن كما بين زيادة عقابهن { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } في مقابلة قوله: { يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } وفيه لطيفة وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر الموفي وهو الله وعند العذاب لم يصرح بالعذاب فقال: "يضاعف" وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم. قوله: { وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ } قرأ الأخوان "ويَعْمَلْ ويُؤْتِ" - بالياء من تحت فيهما، والباقون "وتعمل" بالتاء من فوق و "نُؤْتها" بالنون، فأما الياء في "ويعمل" فلأجل الحمل على لفظ "من" وهو الأصل والتاء من فوق على معناها إذا المراد بها مؤنث ويرشح هذا بتقدم لفظ المؤنث وهو "منكنّ" ومثله قوله:

4085 - وإِنَّ مِنَ النِّسْوَانِ مَنْ هِيَ رَوْضَةٌ ...........................

لما تقدم قوله "من النِّسْوان" يرجع المعنى فحمل عليه، وأما "يؤتها" بالياء من تحت فالضمير لله تعالى لتقدمه في "لله ورسوله" وبالنون فهي نون العظمة، وفيه انتقال من الغيبة إلى التكلم، وقرأ الجَحْدَريُّ ويعقوبُ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر وشيبة: "تَقْنُتْ" بالتاء من فوق حملاً على المعنى وكذلك "وَتَعْمَلْ". وقال ابو البقاء: إن بعضهم قرأ "وَمَنْ تَقْنُتُ" بالتأنيث حملاً على المعنى وَيَعْمَلْ بالتذكير حملاً على اللفظ قال: فقال بعض النحويين: هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعاً للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن قال تعالى: { خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا } [الأنعام: 139].
فصل
معنى أجْرَهَا مَرَّتَيْن أي مثل أجر غيرها، قال مقاتل: مكان كل حسنةٍ عشرون حسنةً { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } يعني الجنة، ووصف رزق الآخرة بكونه كريماً مع أن الكرم لا يكون وصفاً إلا للرزاق، وذلك إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس، التاجر يسترزق من السوقة، والعاملين والصناع من المتعلمين والملوك من الرعية منهم، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه وإنما هو مستمر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار، وأما في الآخرة فلا يكون له ممسك ومرسل في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق وفي الآخر يوصف بالكريم نفس الرزق.
قوله: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } قال الزمخشري: "أحد" في الأصل يعني وَحَد وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث، والواحد وما وراءه والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعة النساء (أي) إذا تَقَصَّيْتُ جماعات النساء واحدةً واحدةً لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة. ومنه قوله عز وجل
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [النساء: 152] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق البين. قال أبو حيان أما قوله: "أحَد" في الأصل بمعنى "وحد" وهو الواحد فصحيح، وأما قوله: وضع إلى قوله وما وراءه. فليس بصحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن "واحد" ينطلق على شيء اتصف بالوحدة "وأَحَداً" المستعمل في النفي العام مختص بمن يعقل، وذكر النحويون أن مادَّته همزةٌ وحاءٌ ودالٌ ومادة "أحد" بمعنى واحد واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولاً، وأما قوله: "لَسْتُنَّ كجماعة واحدة" فقد قلنا إن معناه ليست كل واحدة منكن فهو حكم على كل واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموع، وأما { { وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [النساء: 152] فيحتمل أن يكون الذي يستعمل في النفي العام ولذلك جاء في سياق النفي فعم وصلحت التثنية للعموم، ويحتمل أن يكون "أحدٌ" بمعنى "واحد" وحذفَ معطوفٌ، أي بين أحدٍ وأحدٍ (كما قال:)

4086 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر لَوْ جَاءَ سَالِماً أبُو حَجَرٍ إِلا لَيَالٍ قَلاَئِلُ

أي بين الخير وبيني انتهى، قال شهاب الدين "أما قوله فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فمسَلَّم، ولكن الزمخشري لم يجعل أحداً الذي أصله واحد - بمعنى أحد المختص بالنفي، ولا يمنع أن "أحداً" الذي أصله "واحد" أن يقع في سياق النفي، وإنما الفارق بينهما أن الذي همزته أصل لا يستعمل إلا في النفي كأخواته في غريب، وكَيْتَع ودَابِر، وتامر والذي أصله واحد يجوز أن يستعمل إثباتاً ونفياً وأيضاً المختص بالنفي مختص بالعقلاء، وهذا لا يختص، وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري من الحكم على المجموع ولكن المعنى على ما قاله أبو حيان أوضح وإن كان خلاف الظاهر".
قوله: "إن اتَّقَيْتُنَّ" في جوابه وجهان:
أحدهما: أنه محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي إِن اتَّقَيْتُنَّ اللَّهُ فَلَسْتُنَّ كَأَحدٍ، فالشرط قيد في نفي أن يشبَّهْنَ بأحد من النساء.
والثاني: أن جوابه قوله "فَلاَ تَخْضَعْنَ" والتقوى على بابها، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون "اتَّقَى" بمعنى اسْتَقْبَلَ أي استقبلتن أحداً فلا تُلِنَّ له القول، واتَّقَى بمعنى استقبل معروف في اللغة، وأنشد:

4087 - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِد إِسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتْنَا بِاليَدِ

أي واستقبلتنا باليد قال: "ويكون على هذا المعنى أبلغ من مدحهن؛ إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ولا على نهيه عن الخضوع بها إذْ هنّ متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى، قال شهاب الدين: هذا خروج عن الظاهر من غير ضرورة وأما البيت فالاتِّقاءُ أيضاً على بابه أي صانت وجهها بيدها عنا.
قوله: "فَيَطْمَعَ" العامة على نصبه جواباً للنهي، والأعرج بالجزم فيكسر العين لالتقاء الساكنين وروي عنه وعن أبي السَّمَّال وعيسى بن عمر وابن مُحَيْصِن بفتح الياء وكسر الميم، وهذا شاذ حيث توافق الماضي والمضارع في حركة. وروى عن الأعرج أيضاً أنه قرأ بضم الياء وكسر الميم من "أَطْمَع" وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً عائداً على الخضوع المفهوم من الفعل و "الذي" مفعوله أي لا تخضعن فيطمع الخضُوع المريضَ القلبِ، ويحتمل أن يكون "الذي" فاعلاً، ومفعوله محذوف أي فيطمع المريض نفسه.
فصل
قال ابن عباس: معنى لسْتُنَّ كأحد من النساء يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات أنتن أكرم عليّ، وثوابكن أعظم لَدَيَّ، ولم يقل كواحد لأن الأحد عام يصلح للواحد، والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، قال تعالى:
{ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [البقرة: 285] وقال: { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 47] وقوله: "إِنْ اتَّقَيْتُنَّ" الله فأطعتنّه ولما منعهن من الفعل القبيح منعهن من مقدماته وفي المحادثة مع الرجال فقال: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } أي تُلِنَّ القولَ للرجال، ولا ترفضن الكلام { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي فسق وفجور وشهوة، وقيل: نِفاق أي لا تقولن قولاً يجدُ منافقٌ أو فاجرٌ به سبيلاً إلى المطامع فيكُنَّ والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح أو بيان من غير خضوع.
قوله: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرأ نافعٌ وعاصمٌ بفتح القاف والباقون بكسرها، فأما الفتح فمن وجهين:
أحدهما: أنه أمر من قَرِرْتُ - بكسر الراء الأولى - في المكان أَقَرُّ به - بالفتح - فاجتمع راءان في: "اقرَرْنَ" فحذفت الثانية تخفيفاً، ونقلت حركة الراء الأولى إلى القاف فحذفت همزة الوصل استغناء عنها فصار "قَرْنَ" على وزن "فَعْنَ" فإن المحذوف هو اللام لأنه حصل به الثقل, وقيل: المحذوف الراء الأولى لأنه لما نقلت حركتها بقيت ساكنة وبعدها أخرى ساكنة فحذفت الأولى لالتقاء الساكنين، ووزنه على هذا "فَلْنَ" فإن المحذوف هو العين، وقال أبو علي: أبدلتِ الراءُ الأولى ياءً ونقلت حركتها إلى القاف، فالتقى ساكنان فحذفت الياء لالتقائهما، فهذه ثلاثة أوجه في توجيه أنها أمر من "قَررتُ بالمكانِ".
والوجه الثاني: أنها أمر من "قَارَ - يَقَارُ-" كخَافَ يَخَافُ إذا اجتمع، ومنه "القَارَةُ" لاجتماعها، فحذفت العين لالتقاء الساكنين، فقيل: "قِرْنَ"كخِفْنَ" ووزنه على هذا أيضاً: فلْنَ، إلا أن بعضهم تكلم في هذه القراءة من وجهين:
أحدهما: قال أبو حاتم يقال: قَرَرْتُ بالمَكانِ - بالتفح - أَقِرُّ به - بالكسر - وقِرَّت عَيْنُهُ - بالكسر - تَقَرُّ - بالفتح - فكيف تقرأ وقرن بالفتح؟! والجواب عن هذا أنه قد سمع في كل منهما الفتح والكسر، حكاه أبو عبيد، وتقدم ذلك في سورة مَرْيَمَ.
الثاني: سلمنا أنه يقال قَرِرْتُ بالمكان - بالكسر - أَقَرُّ به - بالفتح - وأن الأمر اقْرَرْنَ إلا أنه لا مسوغ للحذف، لأن الفتحة خفيفة، ولا يجوز قياسه على قولهم "ظلت" في "ظللت" قال تعالى:
{ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [الواقعة: 65] و { ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [طه: 97] وبابه، لأن هناك شيئين ثقيلين التضعيف والكسرة (فحسن الحذف وأما هنا فالتضعيف فقط)، والجواب أن المقتضي للحذف إنما هو التكرار ويؤيد هذا أنهم لم يحذفوا مع التكرار ووجود الضمة وإن كان أثقل نحو "اغضضن أبْصَارَكُنَّ" وكان أولى بالحذف فيقال: غُضْنَ لكن السماع خلافه قال تعالى: { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } [النور: 31] على أن ابن مالك قال: إنه يحذف في هذا بطريق الأولى. أو نقول: إن هذه القراءة إنما هي من "قَارَ - يَقَارُ" بمعنى اجتمع وهو وجه حسن بريء من التكلف فيندفع اعتراض أبي حاتم وغيره لولا أن المعنى على الأمر بالاستقرار لا بالاجتماع. وأما الكسر فمن وجهين أيضاً:
أحدهما: أنه أمر من قَرَّ في المكان - بالفتح - في الماضي والكسر في المضارع، وهي اللغة الفصيحة، ويجيء فهيا التوجيهات الثلاث المذكورة أولاً، أما حذف الراء الثانية أو الأولى أو إبدالُها ياءً وحذفها كما قاله الفارسيّ، ولا اعتراض على هذه القراءة لمجيئها على مشهور اللغة، فيندفع اعتراض أبي حاتم، ولأن الكسر ثقيل فيندفع الاعتراض الثاني ومعناها مطابق لما يراد بها من الثبوت والاستقرار.
الوجه الثاني: أنها أمر من "وَقَرَ"يَقِرُ" أي ثبت واستقر ومنه "الوَقَار" وأصله اوْقِرْنَ فحذفت الفاء - وهو الواو - واستغني عن همزة الوصل فبقي "قِرْنَ"، وهذا كالأمر من وعد سواء، ووزنه على هذا "عِلْنَ"، قال البغوي: الأصح أنه أمر من "الوقار" كقولك من الوعد "عِدْنَا"، ومن الوصل "صلْنَا". وهذه الأوجه المذكورة إنما يهتدي إليها من مَرِنَ في علم التصريف وإلا ضاق به ذَرْعاً.
قوله: "تَبَرُّجَ الجَاهِلِيةِ" مصدر تشبيهيّ أي مثل تبرج والتبرج الظهور من البُرْجِ لظهوره، وقد تقدم، وقرأ البزِّيُّ: "ولا تبرجن" بإدغام التاء في التاء، والباقون بحذف إحداهما وتقدم تحقيقه في البقرة في: "وَلاَ تَيَمَّمُوا".
فصل
قال المفسرون وقرن أي الزمْنَ بيوتكنّ من قولهم: قررت بالمكان أقر قراراً يقال: قررت: أقر وقررت: أقر، وهما لغتان، فإن كان من الوقار أي كن أهل وقار وسكون من قولهم: وَقَر فُلان يَقِر وُقُوراً إذا سكن واطمأن، و "لا تبرجن" قال مجاهد وقتادة التبرج هو التكسر والتغنج، وقال ابن أبي نُجَيح: وهو التبختر، وقيل: هو إظهار الزينة، وإبراز المحاسن للرجال { تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو العالية: هي بين داود وسليمان - عليهما السلام -، وكانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين فيرى حلقها فيه، وقال الكلبي: كان ذلك في زمن نمروذ، وكانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه، وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال، وروى عِكْرَمةُ عن ابن عباس أنه قال: الجاهلية الأولى أي فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر نفسه منه فكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون إليه واتخذوه عيداً يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن، وإن رجلاً من أهل الخيل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فذلك قوله: { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ }، وقيل: الجاهلية الأولى ما ذكرنا والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان، وقيل: قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى كقوله تعالى:
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } [النجم: 50] ولم يكن لها أخرى.
قوله: { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } يعني ليس التكليف في النهي وحده حتى يحصل بقوله: "وَلاَ تَخْضَعْنَ. وَلاَ تَبَرَّجْنَ" بل في النهي وفي الأوامر فأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله فيما أمر به، ونهى عنه { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ } قال مقاتل: الرجس: الإثم الذي نهى الله النساء عنه، وقال ابن عباس يعني عمل الشياطين وما ليس لله فيه رضا. وقال قتادةُ يعني السوء، وقال مجاهد: الرِّجْس: الشَّكُّ.
قوله:"أَهْلَ البَيْتِ" فيه أوجه: النداء والاختصاص، إلا أنه في المخاطب أقل منه في المتكلم وسمع "بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الفَضْلَ"، والأكثر إنما هو في التكلم كقولها:

4088 - نَحْــنُ بَنَــاتُ طَــارِقْ نَمْشِــي عَلَــى النَّمــارِقْ

(وقوله:)

4089 - نَحْـنُ - بَنِي ضَبَّة - أَصْحَابُ الجَمَلْ المَوْتُ أَحْلَى عِنْدَنَا مِنَ العَسَلْ

(و) "نَحْنُ العَرَبَ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ" (و): "نَحْنَ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورثُ" أو على المدح أي أمدحُ أهلَ البيت، واختلف في أهل البيت، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن في بيته، وتلا قوله: { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } وهو قول عكرمة ومقاتل. وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة غيرهم إلى أنهم عليّ، وفاطمة، والحسن والحسين، لما روت عائشة قالت: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غَداةٍ وعليه مرط مرجَّل من شعر أسود فجلست فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء حسين فأدخله فيه، ثم قال: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }" .
وروت أم سلمة قالت: "في بيتي أنزل: إنَّما يريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ قالت: فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة وعلي والحسين والحسن فقال: هؤلاء أهل بيتي. فقلت: يا رسول الله أما أنا من أهل البيت قال: بلى إن شاء الله" وقال زيد بن أرقم: أهل بيته من حرم الصدقة بعده، آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال ابن الخطيب: والأولى أن يقال: هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين، وعليّ منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي عليه (الصلاة و) السلام وملازمته له.
قوله: { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } يعني القرآن والحكمة، قال قتادة يعني السنة، وقال مقاتل: أحكام القرآن ومواعظه، و { مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } بيان للموصول فيتعلق "بأعني" ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً } بأوليائه "خَبِيراً" بجميع خلقه.
قوله: { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ } قال مقاتل: قالت أم سلمة بنت أبي أمية، ونسيبة بنت كعب الأنصارية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نَخْشَى أن لا يكون فيهن خير فنزلت فيهن هذه الآية، ويروى أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن: يا رسول الله ذكر الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة، فأنزل الله هذه الآية، ورُوِيَ أن أسماء بنت عميسٍ رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن قلن: لا فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسارة، قال وممَّ ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال فأنزل الله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَات وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْقَانِتِينَ } المطيعين "والقَانِتَاتِ والصَّادِقينَ" في إيمانهم، وفيما سرهم وساءهم "والصَّادِقَاتِ والصَّابِرِينَ" على أمر الله "والصَّابِرَاتِ والخَاشِعِينَ" المتواضعين "والخَاشِعَاتِ". وقيل: أراد به الخشوع في الصلاة ومن الخشوع أن لا يلتفت "والمُتَصَدِّقينَ" مما رزقهم الله { وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَاتِ وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ } عما لا يحِل "والحَافِظَاتِ". وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه والتقدير: والحَافِظَاتِها وكذلك: والذاكرات، وحسن الحذف رُؤُوس الفواصل { وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ }، قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
"سبق المفردون، قالوا: وما المفردُونَ؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات" . قال عطاء بن أبي رباح من فوض أمره إلى الله عز وجل فهو داخل في قوله: { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ } ومن أقر بأن الله ربه، ومحمداً رسوله، ولم يخالف قلبُه لسانه فهو داخل في قوله: "والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ" ومن أطاع الله في الفرض، والرسول في السنة فهو داخل في قوله: "والقَانِتِينَ والقَانِتَاتِ" ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله: "والصَّادِقِينَ والصَّادِقَاتِ" ومن صَبَرَ على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله: "والصابرين والصابرات" ومن صلى ولم يعرف من يمينه عن يساره فهو داخل في قوله: "والخَاشِعِينَ والخَاشِعَاتِ" ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله: "والمُتَصَدِّقِينَ والمُتَصَدِّقَاتِ"، ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالثَ عَشَر، والرابعَ عَشَر, والخَامِسَ عَشَر فهو داخل في قوله: "والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ". ومن حفظ فرجه فهو داخل في قوله "والحَافِظِينَ فُرُوجهُمُ والحَافِظَاتِ" ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: { وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } وغلب المذكرعلى المؤنث في "لهم" ولم يقل: "لهن" (لشرفهم).
قوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } نزلت الآية في زينبَ بنت جحش الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى زيداً في الجاهلية بعُكَاظَ، فأعتقه وتبناه، فلما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقال: أنا ابن عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي وكانت بيضاءَ جميلةً فيها حدة وكذلك كره أخوها ذلك فانزل الله عز وجل: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } يعني عبد الله بن جحش وأخته زينت { إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } (أي أراد الله ورسوله أمراً) وهو نكاح زيدٍ لزينبَ { أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }. والخيرة الاختيار أي يريد غير ما أراد الله ويمتنع مما أمر الله ورسوله.
قوله: { أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } "أن يكون" هو اسم كان، والخبر الجار متقدم وقوله: { إِذَا قَضَى ٱللَّهُ } يجوز أن يكون محْض ظرف معموله الاستقرار الذي تعلق به الخبر، أي وما كان مستقراً لمؤمن ولا مؤمنةٍ وقت قضاء الله كَوْنُ خيرة وأن تكون شرطية ويكون جوابها مقدراً مدلولاً عليه بالنفي المتقدم. وقرأ الكوفيون وهِشَامٌ "يكون" - بالياء من أسفل؛ لأن "الخِيرَةَ" مجازيُّ التأنيث، وللفصل أيضاً، والباقون بالتاء من فوق مراعاةً للفظها، وقد تقدم أن "الخِيَرَةَ" مصدر "تَخَيَّرَ"كالطَّيرِةِ" من "تَطَيَّرَ"، ونقل عيسى بن سُلَيْمَانَ أنه قرىء الخِيرَة - بسكون الياء - و "مِنْ أَمْرِهِمْ" حال من الخيرة، وقيل: "من" بمعنى "في" وجمع الضمير في "أمرهم" وما بعده لأن المراد بالمؤمن والمؤمنة الجنس. وغلب المذكر على المؤنث، وقال الزمخشري: "كان من حق الضمير أن يُوَحَّدَ كما تقول: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ وَلا امْرَأَةٍ إلاَّ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا" قال أبو حيان: "وليس بصحيح؛ لأن العطف بالواو، فلا يجوز ذلك إلا بتأويل الحذف".
قوله: { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } أخْطَأَ خَطَأً ظَاهِراً. فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها عَشْرَةَ دَنَانِيرٍ وستِّينَ دِرْهَماً وخِماراً ودِرْعاً وَإِزَاراً وملْحَفَةً وخَمْسِينَ مُدّاً مِن الطَّعَامِ وثلاثينَ صاعاً من تَمْرٍ.