خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ
١٠
أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١
وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
١٢
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ
١٣
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ
١٤
-سبأ

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } فقوله: "مِنَّا" إشارة إلى بيان فضل داود لأن قوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } مستقبل بالمفهوم وتام كما يقول القائل: آتَى الملك زيداً خلعةً، فإذا قال القائل: آتاه منه خلعَةً يفيد أنه كان من خاصِّ ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض، ونطيره قوله تعالى: { { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ } [التوبة: 21] فإنَّ رحمةَ الله واسعةٌ تصلُ إلى كل أحد لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصِّه، والمراد بالفضل النبوة والكتاب، وقيل: الملك، وقيل: جميع ما أوتِيَ من حُسْن الصوت وتَلْيِين الحديد وغير ذلك مما خُصَّ به.
قوله: "يَا جِبَالُ" محكيّ بقول مضمر، ثم إن شئت قدرته مصدراً ويكون بدلاً من "فضلاً" على جهة تفسيره به كأنه قيل: آتيناهُ فضلاً قولَنَا يَا جبالُ، وإن شئت جعلته مستأنفاً.
قوله: "أَوِّبي" العامة على فتح الهمزة، وتشديد الواو، أمراً من التَّأويب وهو التَّرجيع، وقيل: التسبيح بلغة الحَبَشَة، وقال القُتَيْبيُّ: أصله من التأويب في السير وهو أن يسير النهار كلّه، وينزل ليلاً كأنه قال: ادْأَبِي النَّهَار كُلَّهُ بالتسبيح معه، وقال وهب: نوحي معه، وقيل: سيري معه، وقيل: سيري معه، والتضعيف يُحتمل أن يكون للتكثير، واختار أبو حيان أن يكون للتعدي قال: لأنهم فَسَّروه برجع مع التسبيح، ولا دليل فيه لأنه دليل معنى.
وقرأ ابنُ عباس والحَسَنُ وقتادةُ وابنُ أبي إسحاق: أُوبِي بضم الهمزة أمراً من آبَ يَؤُوبُ أي ارجع معه بالتسبيح.
قوله: "والطير" العامة على نصبه وفيه أوجه:
أحدهما: أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً.
الثاني: أنه مفعول معه قاله الزجاج. ورد عليه بأنه قبله لفظ "معه" ولا يقتضي العامل أكثرَ من مفعول معه واحد إلا بالبدل أو العطف لا يقال: جَاءَ زَيْدٌ مَعَ بَكْرٍ مَعَ عَمْروٍ. قال شهاب الدين: وخلافهم في تَقَصِّيه حالين يقتضي مجيئه هنا.
الثالث: أنه عطف على "فضلاً"، قاله الكسائي، ولا بدّ من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتَسْبِيح الطير.
الرابع: أنه منصوب بإضمار فعل أي سَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ. قاله أبو عمرو، وقرأ السُّلَميُّ والأعرجُ ويعقوبُ وأبو نوفل وأبو يَحْيَى وعاصمٌ - في رواية - والطَّيْرُ بالرفع، وفيه أوجه: النسق على لفظ "الجبال" وأنشد:

4114- أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا فَقَدْ جَاوزتُمَا خَمَرَ الطَّرِيق

بالوجهين، وفي عطفِ المعرف بأل على المنادى المضموم ثلاثة مذاهب، الثاني: عطفه على الضمير المستكن في "أَوِّبِي" وجاز ذلك، للفصل بالظرف، والثالث: الرفع على الابتداء والخبر مضمر أي والطيرُ كذلك أي مؤوبةٌ.
فصل
لم يكن الموافقون له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجُمُود والطير للنفور وكلاهما مستبعد منه الموافقة، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشَدّ قسوة.
قال المفسرون كان داود إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصَدَاها وعكفت الطير على من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل: كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح. وقيل: كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له.
قوله: "وَأَلَنَّا" عطف على "آتَيْتَا" وهو من جملة الفَضْل، قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يعطف على "قلنا" في قوله { يَٰجِبَالُ أَوِّبِي... وَأَلَنَّا }.
فصل
ألان الله تعالى له الحديد حتى كان في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مِطْرَقَةٍ وذلك في قدرة الله يسير، روي أنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان الله له الحديدَ وعلمه صنعة اللَّبُوس وهي الدرع وأنه أول من اتخذها. وإنما اختار الله له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وتحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل، فالزَّرَّاد خيرمن القوَّاس والسَّيَّاف وغيرهما؛ لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح رُبَّمَا يستعمل في قتل النفس المحرمة، بخلاف الدِّرع قال عليه (الصلاة و) السلام:
"كَانَ دَاوُدُ لاَ يَأكُلُ إلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" .
قوله: "أَن اعْمَلْ" فيه وجهان:
أظهرهما: أنها مصدرية على حذف الجر أي لأَنْ.
والثاني: قاله الحَوْفيُّ وغيره إنها مفسرة لقوله: "وَأَلَنَّا لَهُ الحديدَ لِيَعْمَلَ سابغاتٍ" ورد هذا بأن شرطها تقدم بما هو بمعنى القول ولم يتقدم إلا "أَلَنَّا"، واعتذر بعضهُم عن هذا بأن قَدَّر ما هو بمعنى القول أي وأَمَرْنَاهُ أَنْ اعْمَلْ. ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، وقرىء: "صَابِغَاتٍ" لأجل الغين وتقدم تقديره في لقمان عند "وأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ".
فصل
معنى "سابغات" أي كوامل واسعات طوالاً تسحب في الأرض. وذكر الصفة ويعلم منها الموصوف.
قوله: { وَقدِّرْ فِي السَّرْد } والسرد: نسيج الدُّرُوع يقال لصانعه: السَّرَّاد" الزَّرَّاد.
والمعنى قدر المسامير في حلق الدروع أي لا تجعل المسامير غلاظاً فتكسر الحَلَق ولا دقاقاً فتُغَلْغِل فيها. ويقال السرد المسمار في الحَلَقة، يقال: درع مسْرُودَة أي مَسْمُورَة الحَلَق. وقدر في السَّرد أي اجعله على القصدِ وقدْرِ الحاجة، ويحتمل أن يقال السَّرد هو عمل الزرد.
وقوله: { وقدِّرْ فِي ٱلسَّرْد } أي إنك غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب (إنما) يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب. ويدل عليه قوله تعالى: { وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً } أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه والكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله: { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يريد بهذا داود وآله، ثم لما ذكر المنيب الواحد منيباً آخر وهو سليمانُ كقوله تعالى:
{ { وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ص:34] ذكر ما استفاد من الإنابة وهو قوله تعالى: { وَلِسُليمَانَ ٱلرِّيحَ } العامة على النصب بإضمار فعل، أي سَخَّرنَا لِسُلَيْمانَ، وأبو بكر بالرفع على الابتداء، والخبر في الجار قبله أو محذوف، وجوز أبو البقاء أن يكون فاعلاً يعني بالجار، وليس بقويّ لعدم اعتماده وكان قد وافقه في الأنبياء غيره، وقرأ العامة الرِّيحَ بالإفراد. والحَسَنُ وأبو حَيْوَةَ، وخالدُ بْنُ إلْيَاسَ الرِّيَاح جمعاً. وتقدم في الأنبياء أن الحسن يقرأ مع ذلك بالنصب وهنا لم ينقل له ذلك.
فإن قيلَ: الواو في قوله: "وَلِسُلَيْمَانَ" للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً للجملة الاسمية على فعلية وهو لا يجوز أوْ لاَ يَحْسُنُ؟
فالجواب: أنه لما بين حال داود فكأنه قال: لما ذكر لداود ولسليمان الريح وإما على النصب على قوله: { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلحَدِيدَ } (كأنه قال وألنا لداودَ الحديدَ) وسخرنا لسليمان الريح.
قوله: { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } مبتدأ وخبر ولا بد من حذف مضاف أي غُدُوُّهَا مَسِيرةُ شَهرٍ أو مقدارُ غُدُوِّهَا شَهْرٌ، ولو نصب لجاز، إلا أنه لم يُقْرأ بها فيما علمنا، وقرأ ابن أبي عبلة غَدْوَتُهَا وَروحتُها على المرّة، والجملة إما مستأنفة، وإما في محلِّ حالٍ.
فصل
المعنى غُدُوُّ تلك الريح المستمرة له مسيرةُ شهر، وسير رواحها شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرةَ شهرين. قال الحسن: كان يَغْدُو من دمشقَ فيقيل بإصطخر (وبينهما مسيرة شهر، ثم يَرُوحُ من إصطخر فيبِيت بكَابُل) وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل: كان يتغذى بالرِّيِّ ويتعشى بسمرقَنْدَ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في الجبال معَ دَاوُدَ الجِبَالَ وفي الأنبياء وفي هذه السورة فقال: يا جبال أوبي معه وقال في الريح هناك وههنا: لسليمان باللام؟
فالجواب: أن الجبال لما سبَّحت شَرفت بذكر الله فلم يُضِيفْها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب والريح لم يذكر تسبيحها فجعلها كالمملوكة لَهُ.
قوله: { وَأسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلقِطْرِ } أي أذبْنَا له عين النُّحاس. والقِطْرُ: النحاسُ، قال المفسرون: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجَرْي المياه، وكان بأرضِ اليمن. وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليْمَانَ.
قوله: "مَنْ يَعْمَلُ" يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره في الجار قبله أي مِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ وأن يكون في موضع نصب بفعل مقدر أي وسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ و"مِنَ الجِنِّ" يتعلق بهذا المقدر، أو بمحذوف على أنه حال أو بيان، و "بإذْنِ" حال أي مُيَسّراً بإذن ربه، والإذن مصدر مضاف لفاعله، وقرىء: "وَمَنْ يَزُغْ" بضم الياء من أَزَاغَ ومفعوله محذوف أي يَزُغْ نَفْسَهُ، أي يُمِيلُها و "مِنْ عَذَابٍ" لابتداء الغاية أو للتبعيض.
فصل
قال ابن عباس: سخر الله الجنَّ لسليمانَ وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به، ومن يزُغ يعدِل منهم من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليان نُذِقْه مِنْ عَذَابِ السَّعير في الآخرة، وقيل: في الدنيا وذلك أن الله وكل بهم ملكاً بيده سَوْطٌ من نارٍ فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحْرَقَتْهُ.
قوله: { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ } مفسر لقوله: "مَنْ يَعْمَلُ" و "مِنْ مَحَارِيبَ" بيان لـ "مَا يَشَاءُ" والمراد بالمحاريب: المساجد والأبنية المرتفعة، وكان مما عملوا له بيت المقدس، ابتدأه داود ورَفَعَهُ قامةَ رجُل فأوحى إليه أني لم أقضِ ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمُه سليمانُ أقضي تمامه على يده، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرُّخَام والمِيهَا الأبيْضَ من معادِنه وأمر ببناء المدينة بالرُّخام والصّفاح وجعلها اثْنَيْ عَشَرَ رَبَضاً وأنزل على كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطاً، فلما فرغ من بناء المدينة، ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فِرَقاً فِرَقاً يستخرجون الذهبَ والفضةَ والياقوتَ من معادنها والدرِّ الصِّافِيَ من البحر وفرقاً يقلعون الجواهرَ من الحجارة من أماكنها وفرقاً يأتونه بالمِسْكِ والعَنْبَر وسائر الطّيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يُحصيه إلا الله عزّ وجلّ. ثم أحضر الصُّنَّاع وأمرهم بنحتِ تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً وإصلاح تلك الجواهر وثَقَّبَ الياقوتَ واللآلىءَ فبنى المسجد بالرُّخَام الأبيض والأصفر والأخضر وعمَّده بأساطين المِيهَا الصَّافي وسقَّفه بألواح الجَوَاهر الثمينة وفَصَّصَ سُقُوفَه وحِيطَانَهُ باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفَيْرُوزَج فلم يكن يومئذ في الأرض بين أبهرُ ولا أنورُ من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقَمر ليلةَ البدر، فلما فرغ منه جمع أحْبَار بين إسرائيل وأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً، روى عبدُ الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ بِنَاء بَيْتِ المَقْدِس سَأَلَ رَبَّهُ ثَلاثَا فَأَعْطَاه اثْنتَين وَأَنَا أَرْجُو أنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثَّالثَةَ سَأَلَ حُكْماً يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأعطاه إياه، وَسَأَلَهُ مُلْكاً لاَ يَنْبغَي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ، وَسَأَلَهُ أنْ لاَ يَأتِيَ هذَا البَيْتَ أحَدٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَا أَرْجُو أنْ يَكُونَ قَد أَعْطَاهُ ذَلِكَ" قَالُوا: فَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بخنتصَّر فخرَّب المدينة وهَدَمَها ونقَضَ المَسْجِد وأخذ ما كان في سقوفه وحِيطَانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار مملكته من أرض العراق وبنى الشيطان لسليمان باليمن حصوناً كثيرة وعجيبة من الصخر.
قوله: { وَتَماثِيلَ } وهي النقوش التي تكون في الأبنية. وقيل: صور من نُحَاس وصفر وشَبَهٍ وزُجَاج ورُخَام. قيل: كانوا يُصَوِّرون السِّباع والطيور. وقيل: كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ولعلها كانت مباحة في شريعتهم كما أن عيسى كان يتخذ صُوراً من طينٍ فينفخ فيها فيكون طيراً.
قوله: "وَجِفَانٍ كَالْجَوَاب" الجِفَانُ القِصَاعُ، وقرأ ابن كثير بإثبات ياء "الجَوَابِ" وصلاً ووقفاً وأبو عمرو وورشٌ بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً. والباقون بحذفها في الحالين. و"كَالْجَوَابِ" صفة "لِجفَانٍ" والجِفَانُ جمع جَفْنَة، والجَوَابِي جمعُ جَابِيةٍ كَضارِبةٍ وضَوَارِب والجابية الحَوْض العظيمُ سميت بذلك لأنه يُجْبي إليها الماءُ، أي يجمع وإسناد الفعل إليها مجاز لأنه يُجْبَى فيها كما قيل: خَابِيَة، لما يُخبَّأُ فيها قال الشاعر:

4115- بِجِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِيَنَا مِنْ سَدِيفٍ حِينَ هَاجَ الصِّنَّبِرْ
كَالْجَوابِي لاَ تَنِي مُتْرَعَةً لِقِرَى الأَضْيَافِ أوْ لِلمُحْتَضرْ

وقال الأعشى:

4116- نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ العِرَاقيِّ تَفْهَقُ

وقال الأفوه:

4117- وَقُدُورٍ كَالرُّبَا رَاسِيَة وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي مُتْرَعَه

قيل: كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.
فصل
وقُدُورٍ رَاسِيَات ثابتات لها قوائم لا يحرِّكْنَ عن أماكنها ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد إليها بالسلاليم وكانت باليمن.
قوله: { ٱعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } في "شكراً" أوجه:
أحدهما: أنه مفعول به أي اعملُوا الطَّاعَةَ سميت الصلاة ونحوها شكراً لسدِّها مَسَدَّهُ.
الثاني: أنه مصدر من معنى "اعْمَلُوا" كأنه قيل: اشْكُرُوا شكراً بعَمَلِكُمْ أو اعملوا عَمَلَ شُكْر.
الثالث: أنه مفعول من أجله أي لأجل الشكر كقولك: جِئْتكَ طَمَعاً، وعبدت الله رجاء غُفْرَانه.
الرابع: أنه مصدر موقع الحال أي شَاكِرينَ.
الخامس: أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره واشْكُرُوا شُكْراً.
السَّادس: أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره اعملُوا عملاً شكراً أي ذَا شُكْرٍ قال المفسرون: معناه اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمة، واعلم أن كما قال عقيب قوله (تعالى): { أَن اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } { اعْمَلُوا صَالِحاً } قال عقيبَ ما تعمله الجن له اعملوا آل داود شكراً إشارة إلى ما تقدم من أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقةً في هذه الأشياء، وإنما يجب الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شُكْراً.
قوله: "وَقَلِيلٌ" خبر مقدم "ومِنْ عِبَادي" صفة له، "والشَّكُورُ" مبتدأ. والمعنى أن العامل بطاعتي شكراً لنعمتي قليلٌ. قيل: المراد من آل داود هو داود نفسه، وقيل: داود وسليمان وأهل بيته.
فصل
قال جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمان: سمعت ثابتاً يقول: كان داود نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائمٌ يُصَلِّي.
قوله: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ } أي على سليمان، قال أهل العلم: كان سليمان - عليه السلام - يتحرز ببيت المقدس السَّنَةَ والسَّنَتَيْنِ والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشاربه فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نَبَتَتْ في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها ما اسمك؟ فتقول اسمي كذا فيقول: لأن شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا فيأمرها فتقطع فَإنْ كَانَتْ تنبت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتبه حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت؟ قالت الخرّوبة قال: لأي شيء نَبَتْت؟ قالت: لخراب مَسْجِدِك فقال سليمان: ما كان الله ليجزيه وأنا حي أنت الذي على وَجْهِك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال: الل‍َّهُمَّ عَمِّ على الجنِّ موتى حتى يعمل الناس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من العيب أشياء ويعلمون ما في غد، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بني يديه وخلفه فكانت الجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته وينظرون إلى سليمان فيرونه قائماً متكئاً على عصاه فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَان فخرَّ ميتاً فعلموا بموته، قال ابن عباس: فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله: { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ ٱلأَرْضِ } وهي الأَرَضَةُ "تَأكلُ منسأته" أي عصاه.
قوله: "تَأكُلُ" إما حال، أو مستأنفة، وقرأ ابن ذَكْوَان منسأْتَهُ - بهمزة ساكنة - ونافع وأبو عمرو بألف محضة، والباقون بهمزة مفتوحة، والمِنْسَأةُ اسم آلة من نَسأَهُ أي أخَّرَهُ كالمكسحة والمِكْنَسة من نسأتُ الغنم أي زجرتها وسقتها، ومنه: نَسَأَ اللَّهُ في أجَلِهِ أي أَخَّره وفيها الهمزة وهو لغة تميم وأنشد:

4118- أَمِنَ أَجْل حَبْلٍ لاَ أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ بمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلاَ

(والألف) وهو لغة الحجاز وأنشد:

4119- إذَا دَبَبْتَ عَلَى المِنْسَأةِ مِنْ كِبَرٍ فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ

فأما بالهمزة المفتوحة فهي الأصل لأن الاشتقاق يشهد له والفتح لأجل بناء مِفْعَلَةٍ كمِكَنَسَةٍ وأما سكونها ففيه وجهان:
أحدهما: أنه أبدل الهمزة ألفاً كما أبدلها نافع وأبو عمرو وسيأتي، ثم أبدل هذه الألف همزة على لغة من يقول العَألَمُ والخَأتَمُ وقوله:

4120-................... وخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَألَمِ

ذكره ابن مالك قال شهاب الدين وهذا لا أدري ما حمله عليه كيف نعتقد أنه هرب من شيء ثم يعود إليه وأيضاً فإنهم نصُّوا على أنه إذا أبدل من الألف همزة فإن كان لتلك الألف أصل حركت هذه الهمزة بحركة أصل الألف.
وأنشد ابن عصفور على ذلك:

4121- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً.................................

قال: الأصل زَوْزاةٌ وأصل هذا: زَوْزَوَةٌ، فلما أبدل من الألف همزة حركها بحركة الواو، إذا عرف هذا فكان ينبغي أن تبدل هذه الألف همزة مفتوحة لأنها عن أصل متحرك وهو الهمزة المفتوحة فتعود إلى الأول وهذا لا يقال.
الثاني: أنه سكن الفتحة تخفيفاً والفتحة قد سكنت في مواضع تقدم التنبيه عليها وشواهدها، ويحسنه هنا أن الهَمْزَة تشبه حروف العلة، وحرف العلة يستثقل عليه الحركة من حيث الجملة وإن كان لا تستثقل الفتحة لخفتها، وأنشدوا على تسكين همزتها:

4122- صَرِيعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأتِهِ كَقوْمَةِ الشَّيْخِ إلَى مِنْسأتِهِ

وقد طعن قوم على القراءة ونسبوا راويها إلى الغلط قالوا: لأن قياس تخفيفها إنما هو تَسْهيلُها بَيْنَ بَيْنَ وبه قرأ ابنُ عامر وصاحباهُ فظن الراوي أنهم سكنوا وضعفها أيضاً بعضهم بأنه يلزم سكون ما قبل تاء التأنيث وما قبلها واجب الفتح إلا الألف. وأما قراءة الإبدال فقيل: هي غير قياسية يعنون أنها ليست على قياس تخفيفها إلا أن هذا مردود بأنها لغة الحجاز ثابتة فلا يلتفت لمن طعن، وقد قال أبو عمرو وكفى به: أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً، فإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز، وهذا الذي ذكره أبو عمرو أحسن ما يقال في هذا ونظائره. وقرىء مَنْسَأَتَه بفتح الميم مع تحقيق الهمز، وإبدالها ألفاً وحذفها تخفيفاً وقرىء مِنْسَاءَتِهِ بزنة منعالته كقولهم: مِيضَأةٌ ومِيضَاءَةٌ. وكلها لُغات، وقرأ ابن جبير من ساته فَصَل "مِنْ" وجعلها حرف جر وجعل "ساته" مجرورة بها، والسَّاةُ والسِّيَةُ هنا العَصَا وأصلها يَدُ القَوْس العليا والسفلى يقال: سَاةُ القَوْسِ مثلُ شَاةٍ وسِئَتُها، فسمِّيَت العصا بذلك على وجه الاستعارة والمعنى تأكل من طرف عصاه. ووجه بذلك - كما جاء في التفسير - أنه اتَّكأ على عصا خضراء من خروب والعصا الخضراء متى اتُّكِيءَ عليها تصير كالقَوْس في الاعْوِجَاج غالباً. و"سَأَة" فَعَلَة وسِئَة فِعَلَة نحو قحَة وقحة والمحذوف لامهما. وقال ابن جني: سمي العصا منسأة لأنها تسوء وهي فَلَة والعين محذوفة. قال شهاب الدين: وهذا يقتضي أن تكون القراءة بهمزة ساكنة والمنقول أن هذه القراءة بألف صريحة ولأبي الفتح أن يقول أصلها الهمزة ولكن أُبْدِلَتْ.
قوله: "دابَّةُ الأرض" فيه وجهان:
أظهرهما: أن الأرض هذه المعروفة والمراد بدابة الأرض الأَرَضة دُوَيبَّة تأكل الخَشَب.
والثاني: أن الأرض مصدر لقولك أَرَضَتِ الدابَّة الخَشَبَة تَأرِضُهَا أَرْضاً أي أكلتها فكأنه قيل: دابة الأكل يقال: أرَضَت الدَّابَّةُ الخَشَبَة تَأرُضُها أَرْضاً فأَرِضَتْ بالكسر تَأْرَضُ هي بالفتح أيضاً وأكَلت الفَوَازجُ الأسْنَانَ تَأكُلُها أكْلاً فَأَكِلَتْ هي بالكسر تَأكَلُ أكَلاً بالفتح.
ونحوه أيضاً: جَدِعَتْ أَنْفُهُ جَدَعاً فجُدِعَ هو جَدَعاً بفتح عين المصدر، وقرأ ابن عباس والعباس بن الفضل بفتح الراء وهي مقوية المصدرية في القراءة المشهورة وقيل: الأَرَضُ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أرَضَةٍ وهذا يكون من باب إضافة العام إلى الخاص لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدوّابِّ.
قوله: "فَلَمَّا خَرَّ" أي سقط الظاهر أن فاعله ضمير سليمانَ عليه (الصلاة و) السلام، وقيل: عائد على الباب لأن الدابة أكلته فوقع وقيل: بل أكلت عتبة الباب وهي الخارّة وينبغي أن لا يصحَّ؛ إذ كان يكون التركيب خرَّتْ بتاء التأنيث و: أبْقَلَ إبْقَالَها ضرورة، أو نادر تأويلها بمعنى العَوْد أندر منه.
قوله: "تَبَيَّنَت" العامة على نيابته للفاعل مسنداً للجنِّ وفيه تأويلاتٌ.
أحدهما: أنه على حذف مضاف تقديره تَبَيَّنَ أمْرُ الجِنِّ أي ظَهَرَ وبَانَ، و"تَبَيَّنَ" يأتي بمعنى "بَانَ" لازماً كقوله:

4123- تَبَيَّنَ لِي أَنَّ القَمَاءَةَ ذِلَّةٌ وأَنَّ أَعِزَّاء الرِّجَالِ طِيَالُهَا

فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وكان مما يجوز تأنيث فعله ألحقت علامة التأنيث (به).
وقوله: { أَن لَوْ كَانُواْ } بتأويل المصدر مرفوعاً بدلاً من الجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ.
الثاني: أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنّ فاعل. ولا حاجة إلى حذف مضاف و"أَنْ لَوْ كَانُوا" بدل كما تقدم والمعنى ظهر الجن جهلهم للناس لأنهم كانوا يوهمون الناس بذلك كقولك: بَانَ زَيْدٌ جَهْلُهُ.
الثالث: أن تَبَيَّنَ هنا متعدِّ بمعنى أدْرَكَ وعَلم وحينئذ يكون المراد "بِالجِنِّ" ضَعَفَتُهُمْ وبالضمير في "كانوا" كبارُهم ومَرَدَتُهُمْ و "أنْ لَّوْ كَانُوا" مفعول به، وذلك أن المردة (و) الرؤساء من الجن كانوا يوهمون ضعفاءهم أنهم يعلمون الغيب فلما خَرَّ سليمانُ مَيْتاً ومكثوا بعده عاماً في العمل تبينت السفلة من الجن أن المراد منهم لو كانوا يعلمون الغيب كما ادعوا ما مَكَثُوا في العذاب، ومن مجيء "تَبَيَّنَ" متعدياً بمعنى أدْرَكَ قوله:

4124- أفَاطِم إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيَّنِي وَلاَ تَجْزَعِي كُلُّ الأَنَامِ يَمُوتُ

وفي كتاب أبي جَعْفَر ما يقتضي أن بعضم قرأ: "الجنَّ" بالنصب. وهي واضحة أي تبينت الإنسُ الجِنَّ، و"أن لو كانوا" بدل أيضاً من "الجن"، قال البغوي: قرأ ابنُ مسعود وابنُ عباس تبينت الإنس أن لو كان الجنُّ يَعْلَمُونَ الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي علمت الإنسُ وأيقنت ذلك. وقرأ ابنُ عباس ويعقوب تُبُيِّنَتِ الجِنُّ على البناء للمفعول وهي مؤيدة لما نقله النَّحَّاس وفي الآية قراءاتٌ كثيرةٌ أضْرَبْتُ علها لمخالفتها الشواذ و"أن" في "أن لو" الظاهر أنها مصدرية مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و "لو" فاصلة بينها وبين خبرها الفعليّ. وتقدم تحقيق ذَلك كقوله: { { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ } [الجن:16] و { { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُم } [الأعراف: 100] وقال ابن عطية: وذهب سيبويه إلى أَنَّ "أَنْ" لا موضع لها من الإعراب إنما هي مؤذنة بجواب ما يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين؛ لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحلّ مَحَلَّ القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب "لو" وعلى الأقولا الأُول يكون جوابها. قال شهاب الدين: وظاهر هذا أنها زائدة لأنهم نصوا على اطِّرَادِ زيادتها قبل لو في حَيِّز القَسَم.
وللناس خلاف هل الجواب لِلَوْ أو للقسم. والذي يقتضيه القياس أن يجاب أسبقهما كما في اجتماعه مع الشرط الصريح ما لم يتقدمهما ذُو خَبَر كما تقدم بيانه.
وتقدم الكلام والقراءات في سبأ في سورة النمل.
فصل
المعنى أن سليمان لما سقط ميتاً تَبَيَّنَت الجِنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي التَّعَب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب لغلبة الجهل عليهم وذكر الزُّهْريُّ أن معنى تَبَيَّنَت الجِنُّ أي ظهرت وانكشفت الجن للإنس أي ظهر لهم أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك، ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وابن عباس المتقدمة، وقوله: { مَا لَبِثُوا في ٱلعَذَابِ ٱلمُهِينِ } يدل على أن المؤمنين من الجنِّ لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النَّبِيِّ في العذاب المهين.
فصل
رُوِيَ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسينَ سنة ومدة ملكه أربعونَ سنة ومَلَكَ يَوْمَ مَلَكَ وهو ابن ثلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه.