خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
١
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلْغَفُورُ
٢
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٣
لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
٥
وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ
٦
-سبأ

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } اعلم أن السور المفتتحة بالحمد خمسٌ، سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في النصف الأخير وهما هذه وسورة الملائكة، والخامسة وهي سورة فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير. والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمةِ الإيجاد ونعمة الإبقاء فإن الله خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه خلقنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلِّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد، ويدل عليه قوله تعالى: { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } فأشار إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱل‍َّذِي أنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ ٱلكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قِيَماً لِيُنْذِرَ } فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع يُنْقاد له لا تّبع كُلُّ واحدٍ هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والتّفاني وقال ههنا: { ٱلحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ } إشارة إلى نعمةِ الإيجاد الثاني بدليل قوله: { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ } [سبأ:1] وقال في الملائكة: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [فاطر:1] إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى: { جَاعِلِ ٱلمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } أي: يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كما قال تعالى: { { وَتَتَلَقَّاهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [الأنبياء:103] وقال تعالى عنهم: { { سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر:73] وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذلك نعمتين أشار بقوله: { { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة:2] إلى النعمة العاجلة، وأشار بقوله: { مَالِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4] إلى النعمة الآجلة، فرتب الافتتاح والاختتام عليهما.
فإن قيل: قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في الآخرة فلماذا ذكر الله السموات والأرض؟
فالجواب: أن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال: { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ } لتنقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها.
قوله: "الَّذِي لَهُ" يجوز فيه أن يكون تابعاً وأن يكون مقطوعاً نصباً ورفعاً على المدح فيهما و"مَا فِي السَّمَاواتِ" يجوز أن يكون فاعلاً به وهو الأحسن وأن يكون متبدأ.
قوله: "فِي الآخِرَةِ" يجوز أن يتعلق بنفس الحَمْدِ، وأن يتعلق بما تعلق به خبره (وَهُو الحَكِيمُ) يجوز أن يكون معترضاً إذا أعربنا "يَعْلَمُ" حالاً مؤكدة من ضمير الباري تعالى، ويجوز أن يكون "يَعْلَمُ" مستأنفاً، وأن يكون حالاً من الضمير في "الخَبِيرِ".
فصل
له ما في السموات وما في الأرض مِلْكاً وخَلْقاً وله الحمد في الآخرة كما هو له في الدنيا؛ لأن النعم في الدين كلها منه وقيل: الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى:
{ { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } [فاطر:34] و { { ٱلْحَـمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [الزمر:74] وهو الحكيم الخبير فالحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمراً ولا يأتي بما يناسب علمه لا يقال له حكيم، والفاعل الذي فعله على وفق العلم وهو الحكيم، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها، فقوله حكيم أي في ابتداء الخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ما يصدر من المخلوق وما لا يصدر فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء ثم بيّن كمال خيره بقوله: { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ } أي ما يدخل فيها من الماء والأموات وما يخرج منها من النبات والأموات إذا حشروا.
قوله: "وَمَا يَنْزِلُ" العامة على "يَنْزِلُ" مفتوح الياء مخفف الزاي مسندٌ إلى ضمير "مَا" وعَليُّ - رضي الله عنه - والسُّلَميُّ بضمها وتشديد الزاي أي الله تعالى. والمراد الأمطار والملائكة والقرآن. { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الكلام الطيب لقوله:
{ { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } [فاطر:10] والملائكة والأعمال الصالحة لقوله: { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وقدم: { مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ } على: { مَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ }؛ لأن الحبة تُبْذَرُ أولاً ثم تسقي ثانياً. وقال: { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } ولم يقل: "مَا يَعْرُج إليها" إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة لأن كلمة: "إلَى" للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفم الوقوف عند السموات فقال: وما يعرج فيها ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ }؛ لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه ثم قال: { وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلغَفُورُ } رحيم عند الإنزال حيث ينزل الرزق من السماء غفور عندما يعرج إليه الأرواح والأعيان والأعمال. ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد هي نعمة الآخرة أنكرها قَوْمٌ فقال: { وقَالَ ٱلَّذينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ } قوله: "بَلَى" جواب لقولهم: "لاَ تَأتِينَا" وما بعدها قسمٌ على ذلك. وقرأ العامة: لتأتِيَنَّكُمْ بالتأنيث، وقرأ (طَلْقٌ) بالياء فقيل: (أي) البعث. وقيل: على معنى الساعة أي اليوم. قاله الزمخشري وره أبو حيان بأنه ضرورة كقوله:

4101-........................ وَلاَ أَرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا

وليس مثله، وقيل: (أي) الله بمعنى أمره. ويجوز على قياس هذا الوجه أن يكون: "عالم" فاعلاً لِتَأتِيَنَّكُمْ في قراءة مَنْ رفعه.
قوله: "عَالِمُ" قرأ الأخَوَانِ: عَلاَّم على صيغة المبالغة وخفضه نعتاً لـ "ربِّي" أو بدلاً منه. وهو قليل؛ لكونه مشتقاً. ونافعُ وابْنُ عَامرٍ عالمٌ بالرفع على هُوَ عالم، أو على أنه مبتدأ وخبره "لاَ يَعْزُبُ" أو على أن خبره مضمر أي هو ذكره الحَوفيّ. وفيه بعد، والباقون عالمٍ بالخفض على ما تقدم وإذا جعل نعتاً فلا بدّ من تقدير تعريفه. وقد تقدم أن كل صفة يجوز أن تتعرف بالإضافة إلى الصفة المشبهة، وتقدمت قراءتا "يَعْزُب" في يُونُسَ.
فصل
اعلم أن الله تعالى ردَّ على مُنْكِري الساعة فقال: { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأتِينَّكُمْ } فأخر بإتيانها وأكدها باليمين.
فإن قيل: إنهم يقولون لا ريب أو إن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين فأجاب عن هذا بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله: { لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ }. وبيان كونه دليلاً هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في الدنيا في الآلام الشديدة ويموت فيها فلولا دار تكون للجزاء لكان الأمر على خلاف الحكمة.
قوله: { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في ٱلسَّموَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح، فالأجسام أجزاءها في الأرض والأرواح في السماء فقوله: { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَوَاتِ } إشارة إلى علمه بالأرواح، وقوله: { وَلاَ في ٱلأَرْضِ } إشارة إلى عمله بالأجسم فإذا علم الروح والأجسام قدر على جمعها فلا استبعاد في الإعادة.
قوله: "وَلاَ أَصْغَرُ" العامة على رفع "أصْغَر وأَكْبَر" وفيه وجهان:
أحدهما: الابتداء، والخبر قوله "إلاَّ فِي كِتَابٍ".
والثاني: النَّسَق على "مِثْقَالِ" وعلى هذا فيكون: "إلاَّ فِي كِتَابٍ" تأكيداً للنفي في: "لاَ يَعْزُبُ" كأنه قال لكنه في كتاب مبين وقرأ قتادة والأعمش ورويت عن أبي عمرو ونافع أيضاً بفتح الراءين. وفيها وجهان:
أحدهما: أنها "لا" التبرئة وبني اسمها معها، والخبر قوله: "إلاَّ فِي كِتَابٍ".
والثاني: النسق على "ذَرَّةٍ" وتقدم في يونس أن حمزة قرأ بفتح رَاءِ "أَصْغَر وأَكْبَر" وهنا وافق على الرفع وتقدم البحث هناك.
قال الزمخشري: فإن قلتَ: هَلاَّ جَازَ عطفُ: "وَلاَ أصْغَر" على "مِثْقَال" وعطف "وَلاَ أَكْبَر" على ذرة؟
قُلْتُ: يأبي ذلك حرف الاستثناء إلا إذا جعلت الضمير في "عَنْهُ" للغيب وجعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح المحفوظ لأنها إثباتها في اللوح نوع من البُرُوزِ عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يُزَال عنه إلا مسطوراً في اللوح. قال أبو حيان: ولاَ يُحْتَاج إلى هذا التأويلٍ إذ جعلنا الكتاب ليس اللوح المحفوظ، وقرأ زيد بن علي بخفض راء أصغر وأكبر وهي مشكلة جدًّا، وخرجت على أنهما في نية الإضافة، إذ الأصل: "ولا أصغره ولا أكبره" وما لا ينصرف إذا أضيف انجر في موضع الجر ثم حذف المضاف إليه ونوي معناه فترك المضاف بحاله وله نظائر كقولهم:

4102- بَيْنَ ذِرَاعِيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ4103- يَا تَيْمَ تَيْم عَدِيِّ

على خلاف. وقد يفرق بأن هناك ما يدل على المحذوف لفظاً بخلافِ هنا.
وقد ردّ بعضهم هذا التخريج لوجود "من"؛ لأنَّ "أفعل" متى أضيف لم يجامع "مِنْ" وأجيب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن (مِنْ) ليست متعلقة "بأفعل" بل بمحذوف على سبيل البيان؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم المضاف فبين "بمن" ومجروها أي أعني من ذلك.
والثاني: أنه مع تقديره للمضاف إليه نوي طرحه، فلذلك أتى "بِمن" ويدل على ذلك أنه قد ورد التصريح بالإضافة مع وجود "من" قال الشاعر:

4104- نَحْنُ بِغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنَا مِنَّا بِرَكْضِ الجِيادِ في السُّدَفِ

وخرج على هذين الوجهين إما التعلق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين "أل" ومن في أفعل كقوله:

4105- ولَسْتُ بالأكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى .........................

وهذه توجيهات شذوذ ويكفي فيها مثل ذلك.
فصل
قوله: { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ } إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب.
فإن قيل: فأيُّ حاجة إلى ذكر الأكبر وإنَّ من علم الأصغر من الذرة لا بدّ وأن يعلم الأكبر؟
فالجواب: لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهمٌ أنه يثبت الصغائر لكونها محل النّسيان وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات في الكبائر ليس كذلك فإن الأكبر فيه أيضاً مكتوب ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جميع ذلك وإثباته للجزاء فقال: { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ }.
قوله: "لِيَجْزِيَ" فيه أوجه:
أحدهما: أنه متعلق (بلا) وقال أبو البقاء و (يعزب) بمعنى لا يعزب أي يُحْصِي ذلك ليجزي. وهو حسن أو بقوله: "ليأتِيَنَّكُمْ" أو بالعامل في قوله: "إلاَّ فِي كَتَابٍ" اي إلا استقر ذلك "في كتاب مبين" لِيَجْزِيَ.
فصل
اعلم أنه تعالى ذكر منهم أمرين الإيمانَ والعملَ الصالح وذكر لهم أمرين المغفرةَ والرِّزْقَ الكريمة فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له لقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 116] وقوله عليه (الصلاة و) السلام: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إله إلاَّ اللَّهَ ومَنْ (في) قَلْبِهِ وزنُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمانٍ" .
والرزق الكريم مرتب على العمل الصالح وهذا مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه من العمل لا بدّ وأن ينعم عليه. وتقدم وصف الرزق بالكريم أنه بمعنى ذَا كرم أو مُكْرِم أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يُطْلَبْ ويتسبب إليه لا يأتي.
فإن قيل: ما الحكمة في تَمييزِهِ الرزق بوصفه بأنّه كريمٌ ولم يضف المغفرة؟
فالجواب: لأنَّ المغفرة واحدة وهي للمؤمنين وأما الرزق فمنه شجرة الزَّقّوم والحَميم ومن الفواكهُ والشَّرَاب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانْقِسَام فيها.
فصل
قوله: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك لهم جزاء فيوصله إليه لقوله: { ليَجْزِي ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }.
وثانيهما: أن يكون ذلك لهم واللَّهُ يجزيهم بشيء آخر لأن قوله: "أُولَئكَ لَهُمْ" جُملة (تامة اسمية، وقوله تعالى: { لِيَجْزيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوا } جملة) فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل: "لِيَجْزِيَ الَّذين آمنوا وعملوا الصالحات رزقاً".
فصل
اللام في "ليجزي" ومعناه الآخرة للجزاء.
فإن قيل: فما وجه المناسبة؟
فالجواب: أن الله تعالى أراد أن لا يقطع ثوابه فجعل للمكلف داراً باقيةً تكون ثوابه واصلاً إليه فيها دائماً أبداً وجعل قبلها داراً فيه الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلف مقدار ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبله.
قوله: "والِّذِين سَعَوْا" يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مبتدأ و "أولئك" (و) ما بعده خبره.
والثاني:أنه عطف على الذي قبله أي ويجزي الذين سعوا ويكون "أُولَئِكَ" الذي بعده مستأنفاً و"أُولَئِكَ" الذي قبله وما في خبره معترضاً بين المُتَعَاطِفَيْن.
قوله: { وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي في إبطال أَدِلَّتِنَا مُعَاجِزِينَ يحسبون أنهم يَفُوتُونَنَا وقد تقدم في الحج قراءتا معاجزين. واعلم أنه تعالى لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين والمراد بهم الذين كذبوا بآياتنا وقوله: "مُعَاجِزِينَ" أي سَعَوا في إبْطَالِهَا لأن المكذّب آتٍ بإخفاء آياتِ بيناتٍ فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ ليروّج كَذِبَهُ لعله يُعْجز المتمسك به.
قوله: { أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } قرأ ابنُ كثير وحفصٌ هنا وفي الجاثية ألِيمٌ بالرفع والباقون بالخفض. فالرفع على أنه نعت "لعَذَابِ" والخفض على أنه نعت "لرجزٍ" إلا أن مَكِّيًّا ضعف قراءة الرفع واستبعدها قال: لأن الرّجز هو العذاب فيصير التقدير عذاب أليم من عذاب وهذا المعنى غير ممكن قال: والاختيار خَفْضُ "أليم" لأنه أصحّ في التقدير والمعنى إذ تقديره لهم عذابٌ من عذابٍ أليم أي هذا الصِّنف من أصناف العذاب، لأن العذاب بعضه آلم من بعض وأجيب: بأن الرجز مطلق العذاب فكأنه قيل: لهم هذا الصنف من العذاب من جنس العذاب، وكأن أبا البقاء لَحَظَ هذا حيث قال: وبالرفع صفة لعذاب، والرِّجْز مطلق العذاب.
فصل
قال قتادة: الرجز أسوأ العذاب فيكون "مِنْ" لبَيَان الجِنْس كقولك: خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ. قال ابن الخطيب: قال هناك: لَهُمْ رِزْقٌ كَريمٌ ولم يقدر بمن التبغيضية فلم يقل: لهم نصيبٌ من رزقٍ، ولا رزق من جنس كريم، وقال ههنا: { لهم عذابٌ مِنْ رجزٍ أليمٌ } بلفظة صالحة للتبعيض، وذلك إشارة إلى سَعَةِ الرحمة وقله الغضب وقال هناك: "لَهُمْ مغَفْرَةٌ" ثم قال:
{ { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال:4] وههنا لم يقل إلا: "لَهُمْ عَذَابٌ" فزادهم هناك الرزق الكريم، وههنا لم يزدهم على العذاب وفيما قاله نظر، لقوله تعالى في موضع آخر: { { زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ } [النحل:88].
قوله: { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْعِلْمَ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على "لِيَجْزِيَ" قال الزمخشري: أي وليعلم الذين أوتوا العلم عند مجيء الساعة. وإنما قيده بقوله عند مجيء الساعة لأنه علق: "ليجزي" بقوله: "لَتَأتِيَنَّكُمْ" فبنى هذا عليه وهو من أحسن ترتيب.
والثاني: أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك "و الَّذِي أُنْزِلَ" هو المفعول الأول وهُو فَصْلٌ و "الْحَقَّ" مفعول ثانٍ، لأن الرؤية عِلْميَّة، وقرأ ابنُ أَبي عَبْلَةَ الْحَقُّ بالرفع على أن خبر "هُوَ" والجملة في موضع المفعول الثاني وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل مبتدأ وخبر و"مِنْ رَبِّكَ" حال على القراءتين.
فصل
لما لين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سَعْيَه باطل فإن من أُوتِيَ علماً لا يعتبر تكذيبه وهو يعلم أن ما أنزل إلى محمد عليه (الصلاة و) السلام حق وصدق وقوله: هُوَ الحَقّ يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأم قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خَصْمَان والنزاع لفظي فيكون قوله كل واحد حقاً في المعنى، قال المفسرون: { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ } يعني مؤمني أهل الكتاب عبدَ الله بن سَلام وأصْحَابه { ٱلَّذِي أُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ ٱلحَقَّ } يعني القرآن هو الحق يعني أنه من عند الله.
قوله: { وَيَهْدِي } فيه أوجه:
أحدها: أنه مستأنف وفي فاعله احتمالان: أظهرهما: أنَّه ضمير "الَّذِي" وهو القرآن والثاني: ضمير الله تعالى ويتعلق هذا بقوله: { إلى صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ }؛ إذ لو كان كذلك لقيل: إلى صِراطِهِ ويجاب بأنه من الالتفات ومن إبراز المضمر ظاهراً تنبيهاً على وصفه بهاتين الصِّفَتَيْنِ.
الوجه الثاني: أنه معطوف على موضع "الحقّ" و"أن" معه مضمرة تقديره هو الحق والهداية.
الثالث: أنه عطف على "الحق" عَطْفَ فعلٍ على اسم لأنه في تأويله كقوله تعالى:
{ { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [الملك: 19] أي: وقَابِضَاتٍ كما عطف الاسم على الفعل بمعناه كقوله:

4106- فَألْفَيْتُهُ يَوْمًا يُبِيرُ عَدُوَّهُ وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَخِفُّ المَعَابِرَا

كأنه قيل: وليروه الحق وهادياً.
الرابع: أن "ويهدي" حال من "الَّذِي أُنْزِلَ" ولا بدّ من إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كقوله:

4107-............................. نَجَوْتُ وَأرَهْنُهُمْ مَالِكاً

وهو قليل جداً، ثم قال: { إلَى صِراطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلحَمِيدِ } وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة فالعزيز يفيد التخويف والانتقام من المكذّب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق.